منهج اللِقنة في الاستدلال (3)
إذا سمعت من يتحدث بالشرع لتأييد أوضاعًا مناقضة للدين فاعلم أن هذا هو دأب الذين جعلوا الإسلام هو الدين الوحيد الذي يلغي نفسه بنفسه، وينحي نفسه بنفسه، ويبيح قتل أهله خدمة لأعدائه، فيا لله العجب، ويا للجرأة على الله {أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
منهج اللِقنة في الاستدلال: يلوون ما أنزل الله تعالى فاحذروهم.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولاأحدًا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مَرّ من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفُسّاق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المُنزّهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة، بل قد استدل بعض النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن، ثم تحيَّل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل" (الموافقات جـ 3 صـ76 ــ 77).
ويقول رحمه الله: "فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة، لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله، وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه، وأخذ الأدلة بالتبع، ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب، ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر، فقلما تجد فيه نصًا لا يحتمل حسبما قرره من تقدم في غير هذا العلم، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود، ويتأول على غير ما قصد فيه، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع، فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنة، وأمكن في ضلال البدعة، فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أراد منها..
والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعًا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فينزله على ما وافق عقله وشهوته، وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها، قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة من الآية:26]، وقال: {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [المدثر من الآية:31]، لكن إن ما ينساق لهم من الأدلة المتشابة منها لا الواضح، والقليل منها لا الكثير، وهو أدل الدليل على اتباع الهوى، فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الحق، فإن جاء ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل، فكان من حق الناظر رد القليل إلى الكثير، والمتشابة إلى الواضح، غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه فهو في تيه، من حيث يظن أنه على الطريق، بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أو لمطالبه، وأخر هواه إن كان فجعله بالتبع..
فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحًا في المطلب الذي بحث عنه، فركب الجادة إليه، وماشذ له عن ذلك، فإما أن يرده إليه، وإما أن يكله إلى عالمه، ولايتكلف البحث عن تأويله، وفيصل القضية بينهما قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران من الآية:7]، فلا يصح أن يسمى من هذه حاله مبتدعًا ولا ضالاً، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه، أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقيًا إليها حكمة الانقياد، باسطًا يد الافتقار، مؤخرًا هواه، ومقدمًا لأمر الله" (الاعتصام للشاطبي:1/ 234-235).
ما من أحد يريد ليّ الأدلة إلا كان له ذلك، فتنة من الله تعالى واختبارًا، ولكن يبقى المحكم من الأدلة شاهدًا على ضلال هذا المستدل، فالله تعالى جعل من المحكم ما يبين الحق، والمحكم هو الأصل والمعظم (هن أم الكتاب)، وهو الحاكم على الكتاب، وهو عمدة الاستدلال لمن أراد الحق وطلبه، وأما من جعل الهوى هو المراد أولاً ثم بحث عما يحتمل موافقته من الأدلة، فهذا شأن المبتدع الغاوي.
ولذا فلا تترك المحكم ولا يخدعنك اللِقنة بما يموهون على الناس دين الله تعالى ليتوصلوا به إلى أهوائهم وشهواتهم؛ فقد وجدناهم يستدلون على الباطل بجواز شرعية التغلب، ولم يبينوا للناس ما حكم الاشتراك مع قوى ظالمة في الوصول ابتداءً لحالة للتغلب؟!
واستدلوا بأن طالوت أوتي من العلم والجسم ما يؤهله للملك، ليتوصلوا به جواز الانقلاب على إرادة الأمة وقتل المسلمين، وتركوا الأدلة القاضية بالشورى وانقلبوا على القوى التي تريد إقامة الإسلام وتحكيمه والخروج من التبعية، ولم يفرقوا بين ما أُمرت به هذه الأمة وما كان عليه حال أحد الأمم قبلنا.
واستدلوا بأن الحاكم المسلم الذي عجز عن إلحاق الضباط الملتحين بالخدمة فيجوز الانقلاب عليه لصالح العلمانيين المؤيدين للإباحية والعلمانية، ثم قالوا بعدها أن اللحية ليست أمرًا مهما من الدين، ولم يرجع الضباط للخدمة بل حلقوا لحاهم برعاية واللِقنة الذين وجدوا لهم أدلة جديدة غير أدلة عصر مرسي، نعم فلكل زمن أدلة!
وانقلبوا على حاكم مسلم يريد إقامة الشريعة فيما قدر عليه، ويسعى لتحصيل قدرة أكبر لإقامة الدين وقالوا إنه لا يقيم الشريعة، ثم لما جاء علماني محض قالوا إن تحكيم الشريعة ليست مسؤولية الحاكم بل هو مسؤولية البرلمان!
زمن الحاكم المسلم قالوا من حقنا العمل السياسي من أجل الإسلام، ثم لما جاء علماني صريح تقدموا باستقالاتهم ليعودوا إلى المنابر بشروط العلمانيين وقالوا: نخضع لجميع الشروط.
لا يلتفت أتباع اللِقنة إلى تناقضات اللِقنة، ولا ينظرون إلى المحكمات.
ولذا نقول أن المحكم اليوم قبل أي نقاش هو أن أوضاع اليوم هي أوضاع علمانية، تفصل بين الدين والحياة، بمعنى رفض شريعة الله تعالى، فهذه جريمة كبرى مناقضة لأصل الدين ولإفراد الله تعالى بالعبادة والطاعة، فهذا هو ما يجب علمه قبل الحديث عن التغلب أو شرعيته، فنقاش هذا في أوضاعنا تلبيس وتمويه، وهذا دأب اللِقنة.
إذا سمعت من يتحدث بالشرع لتأييد أوضاعًا مناقضة للدين فاعلم أن هذا هو دأب الذين جعلوا الإسلام هو الدين الوحيد الذي يلغي نفسه بنفسه، وينحي نفسه بنفسه، ويبيح قتل أهله خدمة لأعدائه، فيا لله العجب، ويا للجرأة على الله {أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6].
- التصنيف: