الصدمة الأولى وعبوديات وقت الأزمات

منذ 2015-05-05

اثبت إذا ينفض الناس، وأقبل إذا أدبروا، وثق وتيقن إذا ارتابوا، وتوكل على الله إذا توكل كل آبق على مثله، بهذا يثبت الإيمان وتنقلب الأمور الى الخير، بل تعتدل، وتخرج فائزًا، وتتقدم يوم القيامة إذا تأخروا.

(1): قال صلى الله عليه وسلم «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» (صحيح البخاري:5991)، ولا يعني هذا أن المكافيء ليس بواصل، لكن يعني أن هذا هو الكامل في هذا الوصف والأولى به، وإن كان غيره داخلاً فيه، فالصلة وقت الشدة هي الصلة، وقال صلى الله عليه وسلم «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (صحيح البخاري:1283) وهذا لا ينفي أن من جزع ثم ذُكّر فتذكر فصبر أنه ليس صابرًا، لكن الأولى والأكمل والأحق بالوصف هو من صبر عند الصدمة الأولى، فمن صبر وقت جزع الناس هو الصبر حقًا.

(2): تقدم ابراهيم عليه السلام منفردًا بدعوته وتصديقه وتوحيده وموقفه وثباته، فكان أمة وحده، وما أُرسل بعده نبي إلا من ذريته، أُلقي في النار فأيقن وتوكل، فكانت نجاته مما لا ينجو منه غيره، بحر أمامهم وجند خلفهم حتى كانت مهلكة مستيقنة، فقال بنو اسرائيل {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء من الآية:61]، فانفرد موسى وتقدم بيقينه وإيمانه: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فكانت نجاته ونجاتهم، وثق النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ربه تعالى، وعظم حرمة الكعبة، فقال: «لا يسألونني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا إلا أعطيتهم إياها» (صحيح البخاري2731:)، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكان فتحًا مبينًا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا . لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح:1-2].

تقدم أبو بكر بتصديقه لحظة أن جاء الحق وأعرض مثل أبي لهب في اللحظة الأولى لمجيء الحق، وتقدم بتصديقه يوم الإسراء وتكذيب الكثير، فكان صِدّيقا، بل الصّدِّيق، واسى النبيَ بماله ونصره في أحرج اللحظات فقال عليه السلام للفاروق عمر! «لا تُؤذُوني في صاحبي فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ بعَثني بالهدى ودينِ الحقِّ فقُلْتُم كذَبْتَ وقال أبو بكرٍ صدَقْتَ» (مجمع الزوائد:47/9)، قلق أبو بكر أن يدركهما الكفار فقال له: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» (صحيح البخاري:4663)، فكانت آيات تتلى ونجاة تاريخية، وبدأت دولة الإسلام وتاريخه المجيد.

ذكر خديجة كذلك: «آمنَتْ بي إذ كَفرَ بيَ النَّاسُ وصدَّقتني إذ كذَّبني النَّاسُ وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَنِيَ النَّاسُ» (الحديث، حسنه الشوكاني في در السحابة:249)، تقدم السابقون الأولون دون الناس، فذكروا في القرآن، ثناءً ورضوانًا لسبيلهم، يشترط الله لمن يأتي بعدهم أن يكون على نهجهم، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة من الآية:100].

حفظ هذا للأنصار بعد غنائم حنين: «أما واللَّهِ لو شئتُمْ لقلتُمْ، فلَصَدقتُمْ وصُدِّقتُمْ أتَيتَنا مُكَذَّبًا فصدَّقناكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ، وعائلاً فأغنيناك» (الصحيح المسند:402)، حفظ هذا عمر لعدي بعد الردة، قال له عدي بن حاتم: "أتعرفني؟" قال: "نعم، أعرفك بأحسن معرفة، أسلمت إذا كفروا، وأقبلت إذا أدبروا، ووفيت إذا غدروا"، ثبت أحمد يوم الفتنة أمام ثلاثة خلفاء مسلطين ملكوا من الصين الى المغرب، فلم يُذكر بعدها إلا بلفظ (الإمام)، وقال العلماء: "حفظ الله الدين يوم الردة بأبي بكر، ويوم الفتنة بأحمد بن حنبل".

(3): وعلى هذا المقياس فإن ثمة عبوديات اليوم وقت استيفائها، فمع انتفاش الباطل وفرحته، ومع شماتة الخلق ووهن البعض، تحقّ الآن عبودية اليقين في وعد الله، والثقة في نصره، وحسن الظن به، واليقين في بطلان الباطل واندحاره، هذا أوان الثقة واليقين في هذه الآيات والوعود {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12].

{فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} [غافر من الآية:4]، {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ من الآية:49]، {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم من الآية:47]، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة من الآية:251]، {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7]، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد من الآية:25]، وغير ذلك كثير من الآيات.

هذا أوان القيام بالآيات، وإلا إن لم نكن نعمل بها قلبًا ومشاعرًا ومواقف، بل مجرد تلاوة فما قمنا بما أنزل الله تعالى، هذا مكانها وأوانها، وبهذا يفترق المؤمن عن غيره، ويظهر وصف {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللهِ} [البقرة من الآية:249]. اثبت إذا ينفض الناس، وأقبل إذا أدبروا، وثق وتيقن إذا ارتابوا، وتوكل على الله إذا توكل كل آبق على مثله، بهذا يثبت الإيمان وتنقلب الأمور الى الخير، بل تعتدل، وتخرج فائزًا، وتتقدم يوم القيامة إذا تأخروا.

اثبت وثبّت الناس، اتل عليهم كتاب الله، أخرجه لهم من دفتي المصحف، قل لهم هذا ما تتلون، وهذا ما وعدنا الله، الآن أوان التصديق واليقين، وسيتم الله أمره، شاء من شاء وكره من كره.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 2
  • 0
  • 2,369

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً