لطلب المغفرة طريق
من أراد الاستيقان فليقرأ القرآن مرة ثانية ليس تراتيل ولا أماني بل ليفقه ما جاء به وليعي ما خاطبه ربه، إن للمغفرة والرحمة وسكنى الغرف في جنات عدنٍ عند رب العالمين، لهذا سبيل الله تعالى هو الذي يحددها ويحدد معالمها وليس العبيد.
يستوقف قارىء القرآن سياق طلب المغفرة من الله تعالى..
إنه ليس سياق تعبد في محراب منعزلاً! إنه سياق مواجهة وحركة ضد الباطل لإقرار الحق وإعلائه، وتحمل الصعاب والمشاق في سبيل ذلك، وانظر في هذه المواقع في كتاب الله تعالى، الذي نقرؤه وكأن المطلوب مجرد القراءة.
1- في سورة البقرة: آخر آيتين نزلتا من باب لم يفتح لأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما والفاتحة، وهما من المنن الخاصة على هذه الأمة، كان خاتمة الدعاء: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، ففي هذا السياق مع طلب الرحمة والمغفرة تضرعوا لله تعالى بولايتهم له، وختموا دعاءهم بطلب النصر على الكافرين، مع أنه لم يذكر في السياق كفارًا ولا جهادًا في موقف معين، فمع طلب المغفرة والرحمة والعفو كان إعلان محبتهم له تعالى فطلبوا النصر إعلانًا أنهم في جهاد مستمر لا ينقطع، هو من طبيعة هذا الدين، وهم يحتاجون فيه إلى النصر مع الرحمة والمغفرة والعفو، هذا سياق أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاؤهم، فمن تصور محرابًا بلا مواجهة للباطل فليقل كيف يقرأ هذه الآية وكيف يشعر بها أو يتضرع بها.
2- وفي سورة البقرة كذلك يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، فحدد تعالى سبيل رجاء رحمته، وأخبر أن أولئك هم الذين ينتظرونها ويسعون إليها، وأخبر أن الرحمة تنتظرهم كما في خاتمة الآية، فمن سلك غير هذا السبيل وأراد إسلامًا آخر وطبيعة أخرى فلا يتوقع أن يجد ما أراد، لأنه ليس له الشرط بل لله تعالى.
3- في سورة آل عمران: طلب المؤمنون من ربهم تعالى المغفرة وتكفير السيئات وإنجاز ما وعد على ألسنة رسله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ . فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:193-195]، فإنهم لما تقربوا إلى الله تعالى باستجابتهم لداعي الله تعالى، وتضرعوا لربهم تعالى أن يغفر لهم الذنوب ويكفر عنهم السيئات، اشترط الله تعالى لاستجابة دعائهم: (الجهاد والهجرة والقتال في سبيله، والصبر على ما يصيبهم في هذا السبيل)، إنه ليس ظرفا آنيا أو ملابسات خاصة بل هو طبيعة هذا الدين وطبيعة حركته في الأرض؛ ليحمل الخير للناس ويزيح الشر الذي يمنعهم من رؤية الخير.
4- وختم تعالى دعاء الخاشعين في آل عمران وختم السورة كلها بالوصية العامة والتكليف الشامل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، والصبر عام، والمصابرة هي مغالبة العدو في الصبر، والرباط هو الوقوف على ثغور الأمة، خبّرني بربك: إن لم نقم بهذا التكليف كيف تقرأ هذه الآيات؟ وكيف تستشعرها؟ وكيف نرجو ما وعد تعالى إن لم نسلك سبيل تحقيقها التي وصف تعالى؟
5- ووعد تعالى عند كل حركة ردة عن هذا الدين أو عن نصرته أن يرسل تعالى من يحبهم ويحبونه، وجعل لهذه المحبة المتبادلة علامة وهي مجاهدة أعدائه لإقرار محبوباته ومنع مسخوطاته، لا يوقفهم لوم لائم ولا عذل معاتب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]، ثم وعدهم ولايته: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} [المائدة:55]، ثم وعدهم نصرته: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56].
6- في سورة التوبة قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ . يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ . خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:19-22]، فبشارة الله بالرحمة والمغفرة والرضوان والجنات والنعيم المقيم وعد به تعالى من آمن وهاجر وجاهد الباطل وواجه الانحراف، وأنكر تعالى على أرباب العبادات دون المجاهدة، بل إن العبادة سبيل تحققها هو الوجود في كل موطن أمر الله تعالى به المؤمن..
ولا يقول قائل أنها نزلت في حال كان المشركون هم القائمين على أمر المسجد الحرام، لأنها لما اختلف الصحابة عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الأعمال أفضل"، نزل جبريل بالآية الكريمة فاصلة في الأمر، ليس نزولًا مبتدأ بها بل ببيان أن في الآية حكم ما اختلفوا فيه، وإن كانت قد نزلت قبل ذلك.
7- ومن أراد التجارة الرابحة ومساكن جنات عدن، فهذا سبيلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10-13]، ثم أمر بنصرة هذا الدين عموم، مبينًا تعالى أن هذا طبيعة هذا الدين وطبيعة الإيمان في كل عصر ومع كل رسالة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14].
8- ولما طلب موسى من ربه المغفرة وأعلن توبة قومه "إنا هدنا إليك"، فكانت الإجابة من رب العالمين أن رحمته قد كتبها لمن اتصف بأوصاف تدور حول أمرين: (الاتباع والنصرة)، قال تعالى: {..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156-157]، فاشترط تعالى الاتباع، وتعزير الرسول يعني تقويته، واشترط نصره، فلهؤلاء كتبت الرحمة.
9- وعندما طلب السحرة الذين آمنوا مع موسى المغفرة طلبوها بالصبر على القتل والصلب، ورأوا أن هذا أمام ما طلبوا من غفران جرائمهم قليل! وهذا هو موقفهم: {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ . قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:49-51]، هل تريد المزيد؟ اقرأ كتاب الله تعالى سترى هذا المعنى مطردًا ومتواترًا، إن التضحية من أجل هذا الدين وصراع الباطل ومجاهدته ومغالبته ليس ظرفا آنيًا، إنه طبيعة دين، وطبيعة الطريق، وطبيعة نيل ما عند الله تعالى.
فمن تصور دينًا لا ينصره ولا يُضحى من أجله، فليس هو هذا الدين، ومن تصور طريقًا ليس فيه أن يبذل لله تعالى -ثقة فيه وتوكلاً عليه، وإيثارًا له ولمرضاته ولما عنده- فليس هذا ما جاء به القرآن، ومن أراد الاستيقان فليقرأ القرآن مرة ثانية ليس تراتيل ولا أماني بل ليفقه ما جاء به وليعي ما خاطبه ربه، إن للمغفرة والرحمة وسكنى الغرف في جنات عدنٍ عند رب العالمين، لهذا سبيل الله تعالى هو الذي يحددها ويحدد معالمها وليس العبيد.
- التصنيف: