عدل الفاروق
انضم عمر إلى مألوف قومه في المنافحة عن الموروث الوثني حال ظهور الدين الجديد، فلقي منه الرعيل الأول من مسلمي مكة أذى واضطهادًا ومعاداة لا هوداة فيها قبل أن يأذن الحق سبحانه بفتح مغاليق البصيرة العمرية، فبادر الفاروق لحظة إسلامه إلى الكشف عما حباه الله من جرأة وحزم وصراحة لا تعرف المهادنة، بيد أنما يلفت الانتباه في خبر إسلامه هو أن كل ملكاته ومواهبه تحركت في اتجاه واحد لإحداث فرق بين فتى بني عدي كما عهده المجتمع القرشي, والفاروق الذي هو صنيعة الإسلام
لا يستقيم الحديث عن الفاروق دون تقليب صفحات مشرقة من سفر العدالة، فالرجل الذي تفر منه الشياطين وتسلك سبيلًا غير سبيله هو ذاته الخليفة، الذي غادر أروقة الحكم بعد عشر سنوات وهو مدين! إن عمر بن الخطاب أحد أعظم تجليات العدل الإنساني، لا كقيمة أو مبدأ فحسب، بل كاستيعاب لحقيقة ناصعة غابت اليوم -للأسف- عن أذهان كثير من المسلمين، حقيقة مفادها أن نصوص الكتاب والسنة لا تغدو مفاتيح للبناء الحضاري، إلا حين يتجاوب معها العقل المسلم كنظام تشغيل.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل إسلامه بطلًا بلا قضية، توافر له الاستعداد الفطري والقدرات التنظيمية لكن حالت تجليات الوثنية على المستويين الاجتماعي والسياسي دون استيعابه، فظلت هذه المؤهلات رهينة الواقع اليومي كما يحياه فتيان قريش: (معاقرة الخمر، وركوب الخيل، والمصارعة)! نعم! أبدى عمر انصرافًا للقراءة والكتابة ومطالعة ديوان العرب، لكنها بدائل لا تتيح إظهار كل قدراته ومواهبه.
انضم عمر إلى مألوف قومه في المنافحة عن الموروث الوثني حال ظهور الدين الجديد، فلقي منه الرعيل الأول من مسلمي مكة أذى واضطهادًا ومعاداة لا هوداة فيها قبل أن يأذن الحق سبحانه بفتح مغاليق البصيرة العمرية، فبادر الفاروق لحظة إسلامه إلى الكشف عما حباه الله من جرأة وحزم وصراحة لا تعرف المهادنة، بيد أنما يلفت الانتباه في خبر إسلامه هو أن كل ملكاته ومواهبه تحركت في اتجاه واحد لإحداث فرق بين فتى بني عدي كما عهده المجتمع القرشي، والفاروق الذي هو صنيعة الإسلام، ولعل مزية العدل إحدى تلك الصفات التي سارع إلى الكشف عنها في حادثة عجيبة يرويها ابنه عبد الله على النحو الآتي..
"لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه حتى جاءه.
فقال: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول باب الكعبة، ألا إن عمر قد صبأ، وعمر خلفه يقول: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمئة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا".
ليس في الأمر تهور إلا بمقياس من لم يدرك طبيعة الهزة التي أحدثها الدين الجديد في كيان ظل يترقب فرصة التحرر من موروث مغلق، ومنظومة اجتماعية لا تسعف ذوي الهمم والقدرات الاستثنائية على صنع الأحداث، لقد كان إصرار عمر على الدخول في مواجهة غير متكافئة مع كفار قريش إيذانًا بانبثاق العدل كصفة خلقية ملازمة لتصرفاته ومواقفه طيلة فترتي الرسالة والخلافة، مواجهة اقتص الفاروق خلالها من عمر الجاهلي الذي أذاق مستضعفي الجماعة المسلمة ألوان الأذى والاضطهاد!
تولت المدرسة النبوية إنضاج العدل في سلوك الفاروق ومواقفه من خلال استحضار معاني الرأفة والرحمة، وترك فسحة للعفو والصفح والاستثناء الذي بدونه يصير العدل ميزانًا أجوف لا روح فيه! ومن يتتبع الأحداث التي أدلى فيها الفاروق بدلو المشورة يلمس حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تصويب جرأته وحزمه وتغليبه لإقامة الحدود، مادام هناك متسع للرحمة والمرونة، أو لتحقيق مكسب دعوي وسياسي أهم.
لما حدثت خصومة بين مهاجري وأنصاري في غزوة بني المصطلق، وكادت العصبية أن تنفث سمومها، كشف عبد الله بن أبي بن سلول مجددًا عن نفاقه وحرصه على تمزيق وحدة الصف وتحريك الضغائن بين إخوان العهد القريب، فقال قولته البغيضة: "فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، فلما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فرد النبي صلى الله عليه وسلم: «
»" (صحيح الترمذي:3315).موقف لو جرت فيه موازين العدل دون وقوف على التداعيات لطار رأس ابن سلول بسيف عمر دون تردد، لكن الحكمة النبوية ارتأت الحفاظ على السمعة السياسية ووحدة الصف الداخلي، يقول الدكتور علي الصلابي في كتابه (السيرة النبوية): "فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم واجه مؤامرة ابن سلول بالقوة واستعمال السلاح لغضب رجال متحمسون له، وقد يدفعهم تحمسهم له إلى تقطيع الوحدة المسلمة، وليس في ذلك أي مصلحة للمسلمين ولا للإسلام".
وقد كشفت الأيام أثر هذا الصفح في نفوس أتباع ابن سلول الذين صاروا يعنفونه كلما أحدث أمرًا، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم عمرًا إلى أثر سياسته الحكيمة قائلًا:
»، فقال عمر: "قد -والله- علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري" (تاريخ الطبري:670).ليس العدل في المنهج النبوي عدل غريزة جُبلت عليه، فلا تتصرف فيه وفق الظروف والملابسات، وليس عدل فكر محدود يمضي إلى غرضه كالسهم دون أن يلتفت يمنة أو يسرة لما يجري في مسرح الحياة من تقلبات ومستجدات، بل هو عدل تصوبه الفطنة والحكمة ومقتضيات السياسة، "إن الرجل -يقول العقاد رحمه الله في كتابه (عبقرية عمر)-، حين يجتنب التصرف في العدل عجزًا عن الفهم، والتزامًا للحرف المكتوب، ونزولاً إلى مرتبة الموازين التي لا تعي ولا تغضب ولا تغار إنما هو آلة فقيرة في مادة الحياة..
أما الرجل الذي يجتنب التصرف في العدل غيرة على الضعيف وقدرة على القوي، وعلمًا بالتبعة واضطلاعًا بجرائرها فذلك حي غني بالحياة، يعدل لفرط السليقة الإنسانية والقدرة الحيوية، ولا يعدل لأنه آلة تشبه الميزان الذي لا حس فيه، لكن إذا كان في العدل متسع لمقتضيات السياسة والنظر السديد لعواقب الأمور فلا مجال فيه للتساهل حين يتعلق الأمر بالعقيدة".
والفاروق كما يقول (نظمي لوقا)، رجل تقمص روح العقيدة وألغى في وجدانه كل حساب إلا إعلاء كلمتها وسلطانها، حتى غدا دم الأب المشرك عنده لا يزيد في قيمته عن دم كلب"! وفي موقف أبي بكر رضي الله عنه من مانعي الزكاة، غداة توليه الخلافة، تفعيل صارم للعدل الذي لا يقبل المهادنة أو توسيع دائرة الخيارات في التصدي للفتن والقلاقل التي تروم تمزيق الصف الإسلامي، إن ما قد يراه البعض جورًا أو صرامة مبالغًا فيه هو عدل وقائي تكشف الأيام صواب اعتماده في القضايا المفصلية.
شكلت خلافة أبي بكر الصديق مناسبة لاكتمال صورة العدل في ذهن الفاروق، بما يتناسب والإدارة الاستثنائية للأزمات، فحروب الردة والمبادرة إلى جمع القرآن الكريم بعد أن استحر القتل بقرائه، وتسيير شؤون الفتوحات هي في الواقع محطات هيأت الفاروق لتحمل أعباء الخلافة، وتحديد معالم سياسته وخطته في الحكم.
في (البيان الرئاسي) الذي استعرض الفاروق خطوطه الرئيسية من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأكيد على أمرين اثنين: أولهما أن خلافته هي امتداد للعهد المبارك (عهد النبوة وأيام أبي بكر) وبالتالي فلن يحيد عن نهجهما قيد شعرة.
وثانيهما: أن الناس لا مفر لهم من شدته وغلظته التي هابوها يوم تمت مبايعته، لكنها شدة وغلظة على أهل الجور.
يقول في خطبته التي أوردها أبو يوسف في كتابه (الخراج) نقلًا عن سعيد بن المسيب: "ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت –وفي رواية ازدادت أضعافًا-، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق! وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف".
وقد صدقت الأيام هذا المنهج وتجلت في فترة خلافته معالم مجتمع العدل، الذي ظل محلقًا في مخيلة الفلاسفة القدامى دون أن يجدوا له موضع شبر على أرض الواقع! ولن نبالغ بكل تأكيد إذا جزمنا بأن الفاروق هيمن بعدله وحزمه على الدولة ومؤسساتها وأفرادها، بمن فيهم الجم الغفير من الصحابة وأولي العلم والفضل والسبق، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أكثروا ذكر عمر، فإن عمر إذا ذُكر ذُكر العدل، وإذا ذُكر العدل ذُكر الله".
تضعنا سيرة الفاروق أمام حاكم دولة مترامية الأطراف، يقيم العدل على نفسه فيأبى أن يأخذ من بيت مال المسلمين شربة عسل لمرض ألم به حتى يستأذنهم، فيصعد المنبر ويقول: "إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فإنها علي حرام"، فيأذنوا له فيها!
ويقيم العدل على أهل بيته فيأبى على زوجته أن تتولى قسمة غنائم من مسك وطيب بين المسلمين؛ خشية أن يعلق بيديها أثر منه، فيؤثر به أهل بيته دون سائر المسلمين! ويقسم غنائم جلولاء فيعطي ابنه عبد الله نصيبًا أقل من نظرائه قائلاً: "يا عبد الله، إن لك أسوة في عمر، لا يسألني الله يوم القيامة أني ملت لأحد"!
ويرى من العدل أن يتصدى لمظاهر الترف التي تؤذن بتفكك عرى النسيج المجتمعي، فيدعو فتى قد أسبل إزاره وهو يجره، فيأمر بشفرة يقطع بها طرف الإزار، ويأتي مجزرة الزبير ومعه الدرة، فإن وجد رجلاً اشترى لحمًا ليومين متتابعين ضربه بها وقال: "ألا طويت بطنك لجارك أو ابن عمك؟".
ويقيم العدل على الدواب والأنعام فيأمر الناس ألا يحملوها ما لا تطيق، وأن يتقصدوا بها في المسير، ويردد قولته التي يُحمل معناها على المحاسبة كما يُحمل على العدل: "لو مات جمل ضياعًا بشاطيء الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه".
ويقيم العدل في العطايا فيأمر ولاته بالتسوية بين العرب والموالي، وبأن يشمل العطاء فقراء أهل الكتاب وضعفاءهم.
ويقيم العدل على ولاته فلا يكتفي بوضع شروط قاسية لمن يوليهم على أمور الناس في كل الأمصار، بل ويُشهد الناس عليهم ويرسل العيون ولجان التفتيش، ويبلغ حرصه على العدل أن يأمر الولاة بألا يتكئوا في مجالس الحكم، ويكتب إلى عمرو بن العاص: "وقع إلي أنك تتكيء في مجلس، فإذا جلست فكن كسائر الناس ولا تتكيء"!
بل ويرتفع بالعدل عن نطاق الزمان والمكان، لينصف الأجيال المقبلة في قصة تقسيم الأراضي المفتوحة، فيأبى أن يقسم ما حازه المسلمون من سواد العراق خشية ألا يبقى لمن بعدهم نصيب، ويأمر بأن توقف ويُضرب عليها خراج يدوم نفعه للمسلمين!
لا غرابة إذًا أن يثني المجتمع المسلم على خلافة الفاروق ثناء يحمل من بعده من ولاة الأمر على تسديد النظر وتصويب القرار قدر المستطاع، فهمة كمثل همة عمر أعز من الكبريت الأحمر! وكم سمع الناس عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إن الله جعل أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما حجة على من بعدهما من الولاة إلى يوم القيامة.. سبقا والله سبقًا بعيدًا، وأتعبا من بعدهما إتعابًا شديدًا"! ذاك هو عدل الفاروق، وتلك هي معالم الحكم العادل والسلوك العادل، والقضية العادلة!
- التصنيف: