ليلة القدر في القرآن
من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه
رمضان شهر كريم، وفرصة غالية يجب استغلالها في تكثير الحسنات، والتقرب إلى رب السموات، بجميع أنواع النوافل والطاعات، وفي هذه المادة بيان منزلة ليلة القدر، التي هي إحدى ليالي شهر رمضان.
اختص الله تبارك وتعالى هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم بخصائص، وفضَّلها على غيرها من الأمم بأن أرسل إليها خير الرسل، وأنزل لها الكتاب المبين كتاب الله العظيم، كلام رب العالمين، في ليلة مباركة، هي خير الليالي، ليلة اختصها الله عز وجل من بين الليالي أنها ليلة القدر ذات الشأن العظيم، وبيَّن أن العمل الصالح فيها يكون ذا قدر عند الله خيرًا من العمل في ألف شهر، وفي هذه الليلة يكثر نزول الملائكة وجبريل عليه السلام فيها، بإذن ربهم من كل أمر قضاه في تلك السَّنة.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1-5].
إن الله سبحانه وتعالى يقول: إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها قضاء السَّنة.
تفسير الأيات:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أي: القرآن، جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي: الشرف العظيم. {وَمَا أَدْرَاكَ}: أعلمك يا محمد، {مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}: تعظيمٌ لشأنها وتعجيب منه {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}: ليس فيها ليلة القدر؛ فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ}: بحذف إحدى التاءين من الأصل، {وَالرُّوحُ}: أي: جبريل، {فِيهَا}: في الليلة، {بِإِذْنِ رَبِّهِم}: بأمره، {مِّن كُلِّ أَمْرٍ}: قضاه الله فيها لتلك السنة إلى قابل، ومِن سببية بمعنى الباء، {سَلَامٌ هِيَ}: خبر مقدم ومبتدأ، {حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: بفتح اللام وكسرها: إلى وقت طلوعه، جعلت سلامًا؛ لكثرة السلام فيها من الملائكة، لا تمر بمؤمن ولا بمؤمنة إلا سلَّمت عليه[1].
معاني الكلمات:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}: أي القرآن، جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا.
{فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}: أي ليلة الحكم والتقدير، التي يقضي فيها قضاء السنة كلها.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}: أي إن شأنها لعظيم.
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}: أي العمل الصالح فيها من صلاة وتلاوة قرآن ودعاء، خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر.
{وَالرُّوحُ فِيهَا}: أي جبريل في ليلة القدر.
{بِإِذْنِ رَبِّهِم}: أي ينزلون بأمره تعالى لهم بالتنزل فيها.
{مِّن كُلِّ أَمْرٍ}: أي من كل أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة من رزق وأجل وغير ذلك.
{سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: أي هي سلام من الشر كله من غروب الشمس إلى طلوع الفجر[2].
إعراب الأيات:
• {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}: إن واسمها وجملة أنزلناه خبرها؛ أي: نجومًا متفرقة بحسب الوقائع والحاجة الماسّة إليه في مدى ثلاث وعشرين سنة، وفي إضمار القرآن وإن لم يتقدم له ذكر شهادةٌ له بالتشريف، وأسنده إليه تعالى وجعله مختصًّا به دون غيره، ورفع مدة الوقت الذي أنزل فيه، فهذه ثلاثة أوجه لتعظيم القرآن، وفي ليلة القدر متعلقان بأنزلناه، والواو حرف عطف، وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وجملة أدراك خبر، وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وليلة القدر خبر ما، والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني.
• {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}: ليلة القدر: مبتدأ، وخير: خبر، ومن ألف شهر: متعلقان بخير، والجملة مستأنفة كأنها جواب لسؤال نشأ عن تفخيم ليلة القدر، تقديره: وما فضائلها؟!
• {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}: استئناف ثانٍ مسوق للإجابة عن السؤال نفسه. وتنزل: فعل مضارع مرفوع، أصله: تتنزل. والملائكة: فاعل. والروح: نسق على الملائكة، وإنما أفرد جبريل بالذكر؛ تنويهًا بفضله، على حدّ قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] والنخل والرمان من الفاكهة، وفيها: متعلقان بتنزل، ولك أن تعلقه بمحذوف حال من الملائكة؛ أي: ملتبسين. وبإذن ربهم: متعلقان بتنزل. ومن كل أمر: أي من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السَّنة، متعلق بتنزل.
• {سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: سلام: خبر مقدّم، وهي مبتدأ مؤخر، وحتى حرف غاية وجر. ومطلع الفجر: مجرور بحتى، والجار والمجرور متعلقان بسلام، وفيه إشكال، وهو الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ، والجواب أن الظروف والجار والمجرور يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها، والأحسن كما قال الخطيب أن يتعلقا بمحذوف قدّره الخطيب: يستمرون على التسليم من غروب الشمس حتى مطلع الفجر[3].
سبب تسميتها بليلة القدر:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
أولاً: سميت ليلة القدر؛ مِن القدر، وهو الشرف، كما تقول: فلان ذو قدر عظيم؛ أي: ذو شرف.
ثانيًا: أنه يُقدَّر فيها ما يكون في تلك السنة، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمة الله عز وجل وبيان إتقان صنعه وخلقه.
ثالثًا: وقيل لأن للعبادة فيها قدرًا عظيمًا؛ لقول النبي: « » (متفق عليه).
فضائل ليلة القدر:
• أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
• أنها ليلة مباركة، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان من الآية:3].
• يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام، قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4].
• فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالي، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
• تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4].
• ليلة خالية من الشر والأذى، وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر، وتكثر فيها السلامة من العذاب، ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها، فهي سلام كلها، قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].
• فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك الأجر عند الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: «
» (متفق عليه).من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
3- فضل ليلة القدر وفضل العبادة فيها.
4- بيان أن القرآن نزل في رمضان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأنه ابتدئ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أيضًا.
5- الندب إلى طلب ليلة القدر للفوز بفضلها، وذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأرجى ليلة في العشر الأواخر هي الوتر كالواحدة والعشرين إلى التاسعة والعشرين؛ للحديث الصحيح: «
».6- استحباب الإكثار من قراءة القرآن وسماعه فيها؛ لمعارضة جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان مرتين[4].
________________
[1]- تفسير الجلالين: [1/815].
[2]- أيسر التفاسير؛ للجزائري [5/597].
[3]- إعراب القرآن وبيانه [10/538].
[4]- أيسر التفاسير؛ للجزائري [5/598].
محمد أحمد عبد الباقي
- التصنيف:
- المصدر: