القلب القاسي - (3) كثرة النوم
وفي كثرة النوم: ضياع العمر، وفوت التهجد، وبلادة الطبع، وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر، وهو رأس مال العبد فيه يتجر..
النوم كالملح لا بد من قليل منه في الطعام، لكن زيادته مضرة وتجعل طعم الحياة غير مستساغ، فلكثرة النوم أضرار كثيرة، وما قسوة القلب إلا أحد نتائجها، وقد سبق وأن أحصى أبو حامد الغزالي عواقب كثرة النوم فقال:
"وفي كثرة النوم: ضياع العمر، وفوت التهجد، وبلادة الطبع، وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر، وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت، فتكثيره يُنقص العمر، ثم فضيلة التهجد لا تخفى، وفي النوم فواتها".
وكيف يكثر النوم في هذه الدنيا من ينتظر أطول رقدة له في القبر؟! وكيف يُسرِف أحد في النوم وهو أخو الموت من الرضاع؟! يا من قساوة قلبه أشد من الحجر..
يا طويلَ الرُقاد والغفلات *** كثرةُ النوم تُورث الحسرات
إن في القبر إنْ نزلتَ إليه *** لرقاداً يطولُ بعد الممات
ومِهادا مُمَهَّدا لك فيه *** بذنوب عملت أو حسنات
أأمنت الهجوم من ملك المو *** ت وكم نال آمنا ببيات
لكن لماذا يصحو قاسي القلب إذا كان يتقلب طوال يومه في طبقات من النوم المتواصل، من نوم في اليقظة إلى نوم في المنام، إنها قسوة القلب تجعل صاحبها غير آبه بقيمة الوقت ولا مكترث به، فلا يوجد ما يفعله كي يستيقظ، لذا يغط في نوم عميق.
أسباب قلة المنام
قال صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الجامع؛ برقم: [5622]).أي أن النوم وشدة الغفلة والاسترسال في الكسل ليست طرق الهارب من جهنم والطالب للجنة، بل إن طريقه يمر باليقظة ووثبات الهروب من جحيم المعاصي إلى جنة الطاعات، وفي الحديث معنى التعجب والاستنكار على من أكثر نومه وسدر في غفلته عما أُعِدَّ له.
ومما يعين على قلة النوم: همُّ الخوف من النار، فقد كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلب كما تقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول: طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين، وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلاة فيقول: "اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام، ثم يقوم إلى مُصَلاه"، ولما قالت ابنة الربيع بن خيثم: يا أبت ما لك لا تنام والناس ينامون؟ فقال: "إن النار لا تدع أباك ينام"!.
وكان صفوان بن محرز إذا جنَّه الليل يخور كما يخور الثور ويقول: منع خوف النار مني الرقاد، وكان سفيان الثوري لا ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي: النار النار.. شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول عقب وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، وهؤلاء عبَّر عن حالهم شعرا عبد الله بن المبارك فقال:
إذَا مَا الَّليلُ أظلَمَ كَابَدُوه *** فيسفرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ
أطَارَ الخَوفُ نومَهُم فَقَامُوا *** وَأهلُ الأمنِ فِي الدُنَيا هُجُوعُ
ومما يعين على قلة النوم: معرفة قيمة الوقت، فوالله يا أخي.. لو أن ساعة من النوم حذفتها من ساعات نومك كل يوم لأضافت إليك عمرًا آخر لو كنت تعلم، لتجد الفارق مبهجا يوم القيامة.
ومما يعين على قلة النوم: قلة الأكل، فمن أكل كثيرًا نام كثيرًا فخسر كثيرًا.
ومما يعين على قلة النوم: التعامل مع الساعة البيولوجية بحكمة، فإن وظائف الجسم في الإنسان تستطيع أن تتكيف مع أي عدد من ساعات نومه، ولن يشبع أحد من كثرة النوم، لكن العاقل هو من أعطى جسمه راحته دون إفراط أو تفريط.
ومما يعين على قلة النوم: النوم على الشق الأيمن.
وقد قيل: "إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن أن لا يستغرق النائم في نومه لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه الأيمن طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه بخلاف قراره في النوم على اليسار، فإنه مستقره، فيحصل بذلك الدعة التامة، فيستغرق الإنسان في نومه ويستثقل، فيفوته مصالح دينه ودنياه".
ومما يعين على قلة النوم: حمل هم وأعلاه هَمُّ الدعوة إلى الله، ورحمة الله على دعاة الإسلام في زماننا يحيون ما اندثر من سيرة السلف ويحيون قلوبنا عندما نسمع عن عزمهم، فقد حدَّثني والد زوجتي أنه صاحب فضيلة الداعية الشيخ عبد المتعال الجبري في رحلة دعوية دائبة، لتتواصل حركته من بعد صلاة الفجر انتقالًا من محاضرة إلى درس إلى سعي في قضاء حوائج حتى انتصف عليهما الليل، ووصلا البيت في تمام الساعة الثانية فجرًا، ليجدا عند رجوعهما من ينتظرهما ليستشير الشيخ في أمر! فاعتذر الأخ المضيف قائلا أن الشيخ متعب من سعيه طيلة اليوم ولن يستطيع مقابلة أحد، وهنا قال الشيخ: ومن قال لك أني متعب؟ يا أخي.. أنا يكفيني كل يوم من النوم ساعتان، مجتمعتان أو متفرَّقتان! فجلس مع الرجل وأشار عليه في مسألته!
أمّة وسطا
لكن الدعوة إلى التقليل من النوم لا بد أن تكون معتدلة لا تغمط النفس حقها وضرورات حياتها، فتضر من حيث تريد أن تنفع، ولا تبلِّغ المقصود بل ضد المقصود.
قال ابن القيم وهو يقود قافلتنا بحكمة في طريق الاعتدال: "وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات؛ فمدافعته وهجره مورث لآفات أخرى عظام: من سوء المزاج ويبسه وانحراف النفس وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضا متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير".
أنفع النوم وأضره
فإن تابعت وسألت ابن القيم: وما أنفع النوم وما أضره؟! وما المستحب منه وما المكروه؟! فعلى الخبير سقطت، حيث أجابك رحمه الله قائلًا:
"وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من الطرفين قلَّ نفعه وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر والنوم أول النهار إلا لسهران، ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه: نوم نصف الليل الأول وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافًا بحسبه، ومن النوم الذي لا ينفع أيضًا: النوم أول الليل عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، وكان رسول الله يكرهه، فهو مكروه شرعًا وطبعًا".
مراعاة الفوارق
ومن الخطأ الفاحش: معاملة الناس معاملة واحدة وعدم مراعاة اختلاف حال الأشخاص والقدرات؛ فمن الناس من تقل عدد ساعات نومه بطبيعته، ولا بد كذلك من مراعاة اختلاف البيئات؛ فالبلاد الحارة غير البلاد الباردة، والبلاد المزدحمة غير البلاد الهادئة، ومراعاة اختلاف الأعمار كذلك؛ فما يحتاجه الشاب غير ما يحتاجه الشيخ، ومراعاة اختلاف الأعمال فأصحاب الأشغال الشاقة غير أصحاب الأعمال السهلة؛ والأعمال البدنية غير الأعمال الذهنية، ولا بد كذلك من فهم قضية البركة في الأوقات لدى الصالحين وإعطائها حقها، ومن الخطأ عدم مغالبة النعاس الخفيف إن وُجِد والاستجابة لدواعيه، ولو صمد صاحبه قليلًا لانقشع عنه وزال وربح هو وقته، وأخيرًا فمن الخطأ الشائع الإكثار من جوالب النعاس ككثرة الطعام والتمدد الطويل في غير وقت النوم.
وأخيرًا: عبادة النوم
واسمع كيف حوَّل صلى الله عليه وسلم نومه إلى عبادة، وكيف علَّمنا ذلك من بعده لنتعبَّد الله تعالى حتى أثناء نومنا؟! فقد روت عنه عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم: "كان لا يَنامُ حتى يَقرَأَ [بنِي إِسرائِيلَ] و[الزُّمَرَ]" (صحيح الجامع؛ برقم: [4874]).
وفي حديث آخر للعرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه "كانَ لا يَنامُ حتَّى يقرأَ المسبِّحاتِ، ويقولُ: فيها آيةٌ خيرٌ من ألفِ آيةٍ" (صحيح الترمذي؛ برقم: [3406])، والمُسبِّحات هي السور التي افتتحت بقوله تعالى: {سَبَّحَ} أو {يُسبِّحُ}، وهن سور: الإسراء، والحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن، والأعلى.
إن شأن أي مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذه السور حتى يغلبه النعاس، وكأن المراد أن تنام وأنت تقرأ القرآن، وأن يكون هذا هو آخر ما ينطق به لسانك في يومك.
وقد بيَّن ابن القيم فضل هذا النوع من الذكر قبل النوم، ورغِّبك فيه، ووضَّح لك الحكمة منه، وحسن العاقبة والجزاء عليه، وكل هذا ليغريك فتواظب، فقال: "وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله، فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله".
ومكافأة أخرى عظيمة لمن نام وهو يذكر ربه نقلها لنا أبو أمامة رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
» (سنن الترمذي؛ برقم: [3526] وقال: "حسن غريب").- التصنيف:
- المصدر: