ثمن الخوف

منذ 2015-08-09

تلك القنبلة التي سقطت على رؤوس اليابانيين في مثل هذا اليوم السادس من أغسطس منذ سبعين سنة. الأمر لم يبدأ في ذلك اليوم بل بدأ قبله بأعوام، وتحديدًا قبله بست سنوات وأربعة أيام.

بشفتين مجعدتين -لم تنجح أكثر من خمسة عشر عملية تجميل في إعادة رونقهما- تحدثَت.

وبصوت واهن قالت: "كان عمري في ذلك الحين 12 عامًا، وكان ذلك اليوم صحوًا، فجأة رأيت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف من الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوّى انفجار هائل، بعدها ساد المكان ظلام دامس، وعندما أفقت وجدت شعري ذابلًا، وملابسي ممزّقة، وكان بعض جلدي يتساقط عن جسدي، ولحمي ظاهر وعظامي مكشوفة.

الجميع كانوا يعانون من حروق شديدة، وكانوا يبكون ويصرخون ويهيمون على وجوههم وكأنهم طابور من الأشباح. 

لقد غطّى مدينتنا الظلام والموت بعد أن كانت منذ قليل تعجّ بالحيوية، حتى الحقول احترقت ولم يعد ثمة ما يذكرنا بالحياة، أعتقد أنني محظوظة لمجرد بقائي حية".

هكذا كانت شهادة امرأة يابانية من القلائل الذين نجوا من انفجار (هيروشيما‬). أو ما يعرف بقنبلة (الولد الصغير) كما سمَّاها صانعوها.

تلك القنبلة التي سقطت على رؤوس اليابانيين في مثل هذا اليوم السادس من أغسطس منذ سبعين سنة.

الأمر لم يبدأ في ذلك اليوم بل بدأ قبله بأعوام، وتحديدًا قبله بست سنوات وأربعة أيام.

بدأ بمجرد رسالة مكتوبة، خطها أحد أكثر عقول القرن العشرين عبقرية، وأرسلها بإيعاز من عبقري آخر إلى رئيس تلك الدولة القوية.

وذلك العبقري الآخر هو (ليو زيلارد) أحد أهم العقول الفيزيائية في العالم في ذلك الوقت، والذى جمعته صداقة قديمة بـ(ألبرت أينشتاين) -كاتب الرسالة- نجح من خلالها زيلارد في تخويف أينشتاين، وبث في نفسه أن النازيين على وشك الوصول إلى طريقة عملية لتحويل معادلته العبقرية إلى سلاح بشع.

ذلك الخوف والهلع دفع أينشتاين لتحذير الرئيس الأمريكي (فرانكلين روزفلت) في رسالة شاركه في صياغتها زيلارد، ناصحًا الإدارة الأمريكية بالتقاط زمام المبادرة والبدء في تفعيل معادلته الشهيرة، واستغلالها في صناعة ذلك السلاح المدمر.

وبالفعل بدأ مشروع (مانهاتن).

وتمكن الأمريكيون من تصنيع القنبلة بعد أعوام من العمل المضني والبحث الحثيث، وجرت تجربة عملية ناجحة للقنبلة في صحراء نيو ميكسيكو.

لكن ألمانيا النازية استسلمت ولم تتمكن من تصنيع القنبلة، وصار استسلام الامبراطور الياباني (هيروهيتو) مسألة وقت، كما يؤكد الكثير من المحللين الذين رأوا أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت فعليًا.

إذن فقد زال الخوف من وصول الألمان أو اليابانيين لسلاح دمار شامل.

لكن آثار الخوف أو التخويف لم تزل.

لم يقاوم الأمريكيون إغراء القوة الغاشمة والحسم السريع والمبهر للحرب، وربما تجربة السلاح الجديد على البشر بعد أن جربوه على الجمادات، وأُلقي (الولد الصغير) على اليابان.

كثير من المبررات قيلت وتم تزيين ذلك الفعل بدوافع عديدة ومزاعم تدور حول كون اليابان لم تكن لتستسلم أبدًا، وأنهم كانوا سيواصلون الحرب بعد هتلر لأعوام يقتل فيها آلاف الأبرياء، إلى آخر تلك المزاعم والمبررات التي لم تنف الحقيقة المرة.

حقيقة أنه في ثوانٍ معدودة قد قُتل سبعون ألف إنسان ومثلهم أو أضعافهم لقوا حتفهم على المدى البعيد، بسبب الآثار المدمرة لقنبلة (هيروشيما)، التي تبعتها بعد أيام قنبلة (الرجل البدين) كما أسموها والتي كانت من نصيب سكان (نجازاكى)، نظرًا لغيوم كثيفة جعلت قائد الطائرة التي حملت القنبلة يغير وجهته ويلقيها على رؤوس أهل نجازاكى بدلًا من مدينة (كوكورا) كما كان مقررًا لها.

ربما كانت ألمانيا بالفعل في طريقها لصناعة القنبلة الذرية، إلا أنها في النهاية لم تفعل ولم يعد من مبرر للخوف.

لكن تجار الخوف لا بد دائمًا أن يكملوا تجارتهم وعليهم أن يجنوا أرباحهم.. وقد كان.

"لو علمت أن المطاف سينتهي بأبحاثي لهذه النتيجة لفضلت أن أكون صانع أقفال"، هكذا قال أينشتاين بعد أن رأى ما فعله (الولد الصغير) و(الرجل البدين).
وهكذا ندم..

لكن ندمه الذى أعلنه مرارًا واعترافه بخطأ الرسالة التي أرسلها للرئيس الأمريكي روزفلت لم يغير شيئًا من واقع أن رسالته كانت البداية لكل ما حدث، والمحرك الأول لذلك الدمار الشامل الذى يهدد العالم إلى اليوم.

الدمار الذى كان بدايته الخوف..

الخوف الذى قد يكون سلاحًا أشد تدميرًا من القنابل إذا أجيد توظيفه، والبعض يجيدون استثمار سلاح الخوف ويتقنون تجارة التخويف وصناعة (البعبع).

ومن خلال ‫‏الخوف‬ يستطيعون التحكم في الناس، وعن طريق التخويف يتمكنون من قيادتهم، وبالتفزيع يمكن التغاضي عن أي شيء وعن كل شيء.

إن الإنسان خُلق هلوعًا بطبعه، ومن ثم تكون المهمة أسهل على كل من اتخذ التخويف سبيلًا للسيطرة، فتارة يكون التخويف من المؤامرة، وتارة أخرى يكون التخويف بالفزاعات والأشباح القادمة.

وتحت ستار الخوف يحدث أي شيء ويُقبل كل شيء.

حتى لو ثبت بعد ذلك أنه لم يكن خوفًا في محله، أو لم يكن مبررًا كافيًا لما ترتب عليه من آثار ونتائج، ومهما ندم من كانوا حطبًا لنيران الخوف، فإن آثاره تبقى، وندوبه تدوم، وآلامه لا تزول.

وفي النهاية المتاجرون به هم فقط من يجنون أرباحه، بينما من انساقوا خلفه هم وحدهم من يتجرعون مرارات تلك الآلام 
وهم وحدهم يدفعون الثمن..
ثمن الخوف.


من كتابي
‫صالح للاستعمال الفكري‬

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 3
  • 0
  • 2,012

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً