جرعات دواء القلوب - (1) على عتبة هذا الباب
مقدمة تعرف فيها ما المرض، وماهي جرعات الدواء، وكيف تقف على عتبة الباب لتبدأ.
قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]؛ وزكاة القلب هي مقصودنا وهدفنا في هذا الباب.
الدواء على الرف، والشفاء في متناول اليد، وما لم يقع السهم في مقتل؛ فالعلاج في الإمكان.
أنت من تصنع دواءك في البداية، ثم دواؤك هو من يشفيك -بإذن الله- في النهاية.
لا يوجد إنسان فاسد؛ بل يوجد إنسان يجهل مواطن الصلاح فيه.
كل مريض ليس له هدف مثل سفينة ليس لها رُبَّان، كلاهما ينتهي به الأمر إلى القاع.
احذر؛ كيف ترجو الشفاء دون أخذ الدواء؟! كيف يدوم اللهب دون حرق الحطب؟! كيف يكون علم دون وجود عمل؟! وهل يُسمَّى العلم في هذه الحالة علماً؟! قال الحسن في قوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91]؛ "عُلِّمتم فعلِمْتُم ولم تعملوا، فوالله ما ذلكم بعِلْم".
إياك أن تقول حاولت وفشلت، فكلمة المحاولة هنا مرادفة لكلمة الكذب؛ لأنها تبرير للفشل، وتقديم للعذر، ورفع لراية الاستسلام أمام أول هجمة من هجمات الشيطان.
إن لم تتناول دواءاً؛ فلا تشرب سماً، إن لم تَبْنِ فلا تهدم، إن لم تُطِع فلا تعصِ؛ فإن عصَتك نفسك في الطاعة فلَم تطاوعك، فاعصِها أنت في المعصية ولا تطاوعها.
ورود الإمداد بحسب الاستعداد؛ وهي حكمة عطائية تعني: أن كل جرعة مقدارها يختلف على حسب استعداد صاحبها، وتهيئته لقلبه، وحالة روحه. ومن قال لا أستطيع تناول جرعة دواء فإن ذلك يستطيع بالفعل؛ لأنه خسر المعركة مع نفسه قبل أن تبدأ معركته مع عدوه، فوفَّر على الشيطان مشقة اللقاء، وأسعده باستعداده الهزيمة.
المجتمع محراب التعبد؛ والأصل في المؤمن أن يكون غُدُوه ورواحه لله، كما في آية الأنعام: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. وعلى هذا فالثواب المترتب على إتقان عمل وقضاء مصالح الخلق ليس بعيدا عن ثواب أداء عبادة واجبة أو صلاة راتبة.
مَرَّ رجل على حذيفة بن اليمان، وحوله فتيانٌ جلوس، فقال: "ما لهؤلاء الأحداث حولك؟!" فقال: "وهل الخير إلا في الشباب؟! أما سمعت الله تعالى يقول: {سَمِعْنَا فَتًى يذكرهم يُقالُ لَهُ إِبْراهيْمُ} [الأنبياء:60]، وقوله: {إنَّهُمْ فِتيَةٌ آمَنوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف من الآية:13]، وقوله: {قَالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا} [الكهف، من الآية:62]، وإن الله لم يبعث نبياً إلا وهو شاب".
أخي.. قد تُشفى عند كبرك؛ ولكنه شفاء بعد ذهاب الصحة وزوال العافية، وعندها تطلب العمل في موسم الخريف، بعد أن تساقطت أوراق العمر وذبلت أزهاره، فلا تسعفك قوتك، وتخونك صحتك، فتعرف عندها قيمة شبابك المنقضي، وثمن عمرك الضائع، لتردِّد في توجع قصيدة رثاء -مع الشاعر الذي ما تاب إلا بعد ما شاب، وما أفاق حتى بلغت التراق-، فقال باكياً:
مرَّ الشبـاب فلم أقدِر أرجِّعه *** ولم أُحيِّه إلا بعد ما انصرفا
والمرء يجهل قدر الشيء يُمكِنه *** حتى إذا فاته إمكانه عرفا
ويحك أخي الشاب.. تقدَّم، واعصر عمرك عصراً، واستخلص منه كل لحظة فارغة، وقدِّم لنفسك من البِرِّ ولو ذرة، واذكر أن الأنفاس أمانات وودائع لديك، واعلم كذلك أن اليوم فيه مئات فرص الشفاء، وهي تَمُرُّ بك مَرَّ السحاب تنتظر براعة المقتنص ويقظة النبيه؛ فاربح نفسك اليوم باستغلال جميع أوقاتك وإمكاناتك قبل أن تُنزع غدا إلى قبرك.
أتُنفِق العُمر في الدنيا مجازفةً *** والمال يُنفق فيها بالموازين
قال ابن القيِّم -وهو يُشرِّفنا بمشاركته في تقديم هذا الباب-: "ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتدِ إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية؛ (قوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والإلتجاء إليه، والإنطراح والإنكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب)؛ فإن هذه الأدوية قد جرَّبتها الأمم على اختلاف أديانها ومِللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه، وقد جرَّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية".
جرعات الدواء
القاعدة هنا: من صبر على مرارة الدواء؛ عوفي. وأمامك الآن عشرة جرعات، لا تدري في أيها الشفاء؛ لذا ينصحك الأطباء أن تجرِّبها كلها، ولا خطورة من زيادة أي جرعة؛ بل هي على العكس، مستحبة وأنفع إن شاء الله.
- التصنيف: