يوم عاشوراء

منذ 2015-09-30

خطبة مميزة تناول "د.عادل باناعمة" فيها: فضل شهر الله المحرّم، تعظيم اليهود والنصارى والمشركين ليوم عاشوراء، مراحل تشريع صيامه، التأكيد على أهمية صيامه، مراتب صيامه، من بدع هذا اليوم، وقفتان مع هذا اليوم.

أيها الإخوة المؤمنون: بارك الله لي ولكم ولأمة الإسلام في هذا العام الجديد، وإنا لنسأل الله أن يجعله عام خير وعز ونصر. ونسأله أن يجعل من هلال المحرم فاتحة توفيق لهذه الأمة المحمدية.

يا ليت شعري يا هـلال أعائد *** للمسلمين بنصر دين محمد؟
أتعيد للجمعات سـابق عهدها *** أتعيد للإسلام مجد المسجد؟
أدركت عهد الراشدين بيثرب *** وحسدتها بين النجوم الحسد

وشهدت دولة عبد شمس عندما *** بلغ الوليد بها عنان الفرقـد
قالوا: عجبنا ما لشعرك نائحاً *** في العيد ماهذا بشدو معيـد
ما حيلة العصفور قصوا ريشه *** ورموه في قفص وقالوا غرد!

ولقد جعل الله فاتحة العام شهرًا مباركًا تشرع فيه الطاعة والعبادة، وكأنه يعلم عباده أن يستفتحوا كل أمر بطاعته وتقواه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (صحيح مسلم [1163]).

فهذا الحديث صريح الدلالة على تفضيل الصوم في هذا الشهر المحرم، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من شعبان أكثر مما يصوم من المحرم، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة منها:

1- أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم بفضله إلا متأخرًأ ويشهد لذلك قوله: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» (صحيح مسلم [1134]) ثم لم يدرك عاشوراء القابل.
2- أنه كانت تعرض له فيه الأسفار والأشغال (ذكرهما النووي في شرح مسلم).
3- أن المقصود بالفضل في المحرم الفضل المطلق، فأفضل الصيام المطلق صيام المحرم، وأما صوم شعبان فهو متصل برمضان، فهو منه كالراتبة من الفريضة وكذلك شوال، ومعلوم أن الرواتب أعظم قدرا من النافلة المطلقة (لطائف المعارف:82).

وكانوا يسمون شهر المحرم شهر الله الأصم لشدة تحريمه (لطائف:83). قال أبو عثمان النهدي: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم" (لطائف:84). وقال قتادة: "إن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السَنة" (فتح القدير:5/429).

ومن عظيم فضل الله أن جعل آخر شهر في العام شهر عبادة وطاعة، وأول شهر في العام شهر عبادة وطاعة؛ ليفتتح المرء عامه بإقبال ويختتمه بإقبال، قال ابن رجب: "من صام من ذي الحجة وصام من المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين" (لطائف:85).

وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشهر شهر الله المحرم، فاختصه بإضافته إلى الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله وكان الصيام من بين الأعمال مختصًا بإضافته إلى الله ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختص به وهو الصوم (انظر لطائف:86).

ومما اختص به شهر الله المحرم يومه العاشر وهو يوم عاشوراء. قال القرطبي: "عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة" (الفتح:4/245).

وهذا اليوم يوم مبارك معظم منذ القدم؛ فاليهود أتباع موسى عليه السلام كانوا يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه ويتخذونه عيدًا لهم، ويلبسون فيه نساءهم حليهم واللباس الحسن الجميل، وسر ذلك عندهم أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: «ما هذا؟» قالوا: "هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى" (صحيح البخاري [2004]).

عن أبي هريرة قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء فقال: «ما هذا من الصوم» قالوا: "هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى شكرا لله تعالى" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم»، فأمر أصحابه بالصوم (مسند أحمد [4/299]).

وعن أبي موسى قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم" فقال رسول الله: «فصوموه أنتم» (فتح الباري: [4/287]).

وكذلك النصارى كان لهم حظ من تعظيم هذا اليوم، والظاهر أنهم في هذا تبع لليهود، إذ أن كثيراً من شريعة موسى عليه السلام لم ينسخ بشريعة عيسى بدليل قوله تعالى: {وَلأِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]. وتأمل كيف قال: (بَعْضَ) إشعارًا بأن الكثير من الشرائع ظل كما هو عند موسى عليه السلام، قال ابن القيم رحمه الله: "ولا ريب أن بني إسرائيل هم أولو العلم الأول والكتاب الذي قال الله فيه: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} [الأعراف:145].

ولهذا كانت أمة موسى أوسع علومًا ومعرفة من أمة المسيح، ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها، فإن المسيح عليه السلام وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل كأنه مكمل لها متمم لمحاسنها، والقرآن جامع لمحاسن الكتابين" (جلاء الأفهام:103).

وحتى قريش فإنها على وثنيتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه! تقول عائشة رضي الله عنها: "كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية" (صحيح مسلم [1125]).

وأما سر صيامهم هذا؛ فلعله مما ورثوه من الشرع السالف، وقد روى الباغندي عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: "أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل: صوموا عاشوراء يكفر ذلك".

وحين جاء الإسلام، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأى اليهود يصومون هذا اليوم فرحاً بنجاة موسى قال: «أنا أحق بموسى منكم» فصامه وأمر بصيامه (مسند أحمد [4/299]).

وكان ذلك في أول السنة الثانية، فكان صيامه واجباً فلما فرض رمضان فوض الأمر في صومه إلى التطوع، وإذا علمنا أن صوم رمضان في السنة الثانية للهجرة تبين لنا أن الأمر بصوم عاشوراء وجوباً لم يقع إلا في عام واحد، تقول عائشة رضي الله عنها: "فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صامه -أي عاشوراء- وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه" (صحيح البخاري [2002]).

وصوم عاشوراء -وإن لم يعد واجباً- مما ينبغي الحرص عليه غاية الحرص، وذلك لما يأتي:

صيامه يكفر السنة الماضية: ففي صحيح مسلم أن رجلاً سأل رسول الله عن صيام عاشوراء فقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» (صحيح مسلم [1162]).

تحري الرسول صلى الله عليه وسلم صيام هذا اليوم: روى ابن عباس قال: "ما رأيت النبي يتحرى صوم يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء" (صحيح البخاري [2006]). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء» (الترغيب والترهيب [2/130]).

وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد صيام رمضان شهر الله المحرم» (صحيح مسلم [1163]).

كان الصحابة رضي الله عنهم يصومون فيه صبيانهم؛ تعويداً لهم على الفضل؛ فعن الربيّع بنت معوذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: «من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم» قالت: "فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار" (البخاري: [1960]).

كان بعض السلف يصومون يوم عاشوراء في السفر، ومنهم ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي والزهري، وكان الزهري يقول: "رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر" (اللطائف:121).

والسنة في صوم هذا اليوم أن يصوم يوماً قبله أو بعده؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» (رواه مسلم).

وقد ذكر بعض الفقهاء أن صيام عاشوراء ثلاث مراتب:

1ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر.
2ـ صوم التاسع والعاشر.
3ـ صوم العاشر وحده. (فقه السنة: [3/127])، (زاد المعاد: [2/76]). ولا يكره -على الصحيح- إفراد اليوم العاشر بالصوم كما قاله ابن تيمية رحمه الله.

ويوم عاشوراء إن صادف يوم السبت، وقد ورد النهي عن صومه في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم, فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه»  (رواه أبو داود في كتاب الصوم).

وعليه فإن على المسلم أن يحرص على صوم يوم قبله أو بعده؛ احتياطاً لنفسه، فقد نص العلماء على أن المكروه إفراد يوم السبت بالصيام، فإن صام معه غيره لم يكره، وذلك لحديث جويرية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها: «أصمت أمس؟» قالت: "لا". قال: «أتريدين أن تصومي غداً؟» قالت: "لا". قال: «فأفطري» (رواه البخاري باب صوم يوم الجمعة).

فقوله: «أتريدين أن تصومي غداً؟» صريح في جواز صوم يوم السبت إذا صيم معه يوم آخر، وعلى هذا يحمل النهي على إفراد يوم السبت وحده.

ومن الطريف أن يوم الجمعة وحده يكره صيامه وكذلك السبت وحده فإذا اجتمعا زالت الكراهة! (الممتع: [6/478]).

وإن لم يتمكن الإنسان من صوم يوم قبله أو بعده وصام عاشوراء وحده، فلا حرج عليه وإن وافق يوم السبت، قال صاحب الشرح الكبير: "وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره" (الشرح: [7/533]).

وأما ما ورد في بعض الأحاديث من استحباب الاختضاب والاغتسال والتوسعة على العيال في يوم عاشوراء - فكل ذلك لم يصح منه شيء، قال حرب: "سألت أحمد عن الحديث الذي جاء في من وسع على أهله يوم عاشوراء فلم يره شيئاً" ([لطائف:125). وقال ابن تيمية: "لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين.. ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً … لا صحيحاً ولا ضعيفاً … ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة" ([مجموع الفتاوى: [25/299-317]).

قال ابن رجب: "وأما اتخاذه مأتماً كما تفعل الرافضة؛ لأجل قتل الحسين فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن هو دونهم" (لطائف:126).

  • ولنا مع هذا اليوم وقفتان:

1ـ خداع اليهود وتحايلهم: فهؤلاء اليهود الذين قالوا لموسى: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129]. والذين خذلوا موسى فعبدوا العجل لمجرد أنه غاب عنهم أربعين يوماً، والذين قالوا لموسى، ولما تجف أقدامهم من ماء البحر الذي نجاهم الله منه وأغرق فرعون قالوا له: {جْعَلْ لَّنَا إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف:138]. والذين شهد الله عليهم بأنهم آذوا موسى من قبل، هؤلاء اليهود هم الذين كانوا يصومون عاشوراء؛ احتفاء بذكرى نجاة موسى عليه السلام! فانظر أعاجيب هؤلاء، إنهم كما قال ابن عباس لأهل العراق لما سألوه عن حكم قتل البعوضة للمحرم، فقال لهم: "يا أهل العراق تقتلون الحسين، وتسألون عن حكم دم البعوضة!".

واليهود كانوا يتحايلون على أمر الله، ودونك هذه القصص:

1- لما أمرهم الله ألا يصيدوا يوم السبت، صاروا يضعون شباكهم يوم الجمعة ويرفعونها يوم الأحد!
2- لما نهاهم الله عن شحوم الإبل، أذابوها وصيروها زيتاً ودهناً فباعوه وأكلوا ثمنه!
3- لما أمرهم الله أن يدخلوا بيت المقدس, ويأكلوا منها حيث شاؤوا رغداً ويقولوا: {حطة}، (يعني ربنا حط عنا ذنوبنا)، لما أمروا بذلك دخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون: "حنطة في شعير!".
فانظر كيد هؤلاء وتحايلهم على أمر الله.

ولنحذر نحن أيضاً من مثل هذا التحايل، فإن بعضنا ربما وقع فيه، فبعضنا يقع في الحرام فإذا نبهته وحذرته قال لك: "لا يا أخي ليس هذا من الحرام، إنما هو كذا وكذا، فيسمي الربا فوائد، والزنا والفسوق فناً، والغناء المذموم رقياً وطرباً، وهكذا..".

وربما وقع بعضنا في المنكر واحتج بأن أكثر الناس يفعلون هذا، أو بأنه مضطر وليس له حيلة أو .. أو ..
المهم أنك -يا أخي- لن تخدع الله، والله مطلع على الحقائق والخفايا والنوايا.

2ـ المسلم والتميز:
حين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود يصومون عاشوراء، ورأى أنه عمل صالح، المؤمنون أولى به، حين أراد ذلك أمر بصيام يوم قبله أو بعده، هل تدري لماذا؟ اسمع كلام النووي رحمه الله حين يقول: "قال بعض العلماء ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل للاحتياط في العبادة والأول أولى، والله أعلم" اهـ.

فانظر رحمك الله كيف يريد الإسلام منا أن نتميز، أن تكون لنا شخصيتنا المستقلة، ألا نذوب في غيرنا. وبلية كثير من المسلمين اليوم في هذه التبعية المفرطة للأفكار والمذاهب والأزياء والعادات والتقاليد، حتى كاد أحدهم ينسلخ من شخصية.


----------------
د.عادل بن أحمد باناعمة

المصدر: ملتقى الخطباء
  • 8
  • 1
  • 39,921

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً