مقدمات الهجرة

منذ 2015-09-30

ما أروع وأعظم ضبط الرغبة بالخير وحب العمل للدين بتعاليم الوحي المنزل في أي خطوة! إنه منهج القرآن والسنة، وليس الهوى والافتئات على الأمة والأئمة، وكما قال حكيم: "أناة في عواقبها درك خيرٌ من معاجلة في عواقبها فوت"، وقد كانت العرب تحمد الأناة في الرأي، وإجالة الفكرة فيه، وعدم التسرّع، خاصة في أثناء الشدائد والأزمات، تمهل ولا تتعجل، والزم شرع ربك، وهدي نبيك صلى الله عليه وسلم حتى يتبين لك الحق أبلج، قبل العمل.

الهجرة النبوية، وبعد أن تمت البيعة، ذكر ابن هشام في السيرة شيئًا عجابًا، فقد نقل عن الصحابة  رضي الله عنهم  أنهم قالوا: "فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ [بأعلى] صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ [الْمَنَازِل] هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ [يريدون نبينا صلى الله عليه وسلم]، وَالصُّبَاةِ [المرتدين: يريد المسلمين] مَعَهُ؟! قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ [أزب اسمٌ للشيطان]، أَتَسْمَعُ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! أَمَا وَاَللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ"، ثُمَّ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ!" (سيرة ابن هشام: 1/447).

 فأمر النبي صلى الله عليه وسلم  الصحابة رضي الله عنهم  بالعودة لرحالهم قبل أن يفيق المكيون من نومهم تفويتًا للفرصة على الشيطان الذي لم ولن يتوقف كيده أبدًا، ولا صده للإنسان عن طريق الإسلام، أو الهجرة، أو الجهاد، أو أي طريق من طرق الخير؛ كما في الْحَدِيْثِ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ» (صحيح الجامع [1652])

فَقَالَ  صلى الله عليه وسلم : «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» (رواه النسائي: [3134])

 إذاً أيها الإنسان عدوك الأول الشيطان، يقف على كل سبيل من سبل المعروف ليصدك ويهوي بك فتيقظ. لقد أخزى الأنصار الشيطان في تلك الساعة لما رآه من شدة حبهم ورغبتهم بالإسلام، حتى قال الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ لرسول الله: "وَاَللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ: إنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا" (سيرة ابن هشام: 1/448).

إنها الاستجابة لله والرغبة بحماس للدين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم  بحكمته وحنكته والتزامه بأمر الله أجاب قائلًا:«لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ». قَالَ: فَرَجَعْنَا إلَى مَضَاجِعِنَا، فَنِمْنَا عَلَيْهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا. (سيرة ابن هشام: 1/448).

ما أروع وأعظم ضبط الرغبة بالخير وحب العمل للدين بتعاليم الوحي المنزل في أي خطوة؛ إنه منهج القرآن والسنة، وليس الهوى والافتئات على الأمة والأئمة، وكما قال حكيم: "أناة في عواقبها درك خيرٌ من معاجلة في عواقبها فوت" (التذكرة الحمدونية: 3/ 309).

ولله در القائل: 

وكلّ أناة في المواطن سؤدد *** ولا  كأناة من قدير محكّم
وما الرأي إلّا بعد طول تثبّت *** ولا الحزم إلّا بعد طول تلوّم.

(نهاية الأرب في فنون الأدب: 6/ 77).

 وقد كانت العرب تحمد الأناة في الرأي، وإجالة الفكرة فيه، وعدم التسرّع (نهاية الأرب في فنون الأدب: 6/77).

خاصة في أثناء الشدائد والأزمات، تمهل ولا تتعجل، والزم شرع ربك، وهدي نبيك -صلى الله عليه وسلم- حتى يتبين لك الحق أبلج، قبل العمل؛ كما قال المثقب العبدي:

إذا ما تدبرت الأمور تبينت *** عيانًا صحيحات الأمور وعورها
(التذكرة الحمدونية، 1/ 377: 378)

وصل خبر البيعة لكفار قريش فقالوا: "يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ أَبْغَضُ إلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ". (انظر سيرة ابن هشام: 1/448).

 ومن توفيق الله وحفظه أن من بادر بالإجابة عليهم هم مشركو المدينة بقسمهم للمكيين: "والله مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْنَاهُ". وهم صادقون، وَالمسلمون منهم صامتون ينظر بَعْضُهم لبَعْضٍ. (سيرة ابن هشام: 1/448).

لكن ذلك لم ينزع الريب من المكيين الذين لم يتوانوا في تقصي الحقيقة التي ما لبثوا أن وقفوا عليها حتى جدُّوا في طلب القوم؛ فلم يُدركوا منهم غير سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو الخزرجيين، وكلاهما كان نقيبًا، فأمَّا المنذرُ فأعجز القوم، وأما سعدٌ فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه، ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير. (سيرة ابن هشام: 1/449).

ثم اشتد البلاء على سعدٍ. إذ قال: "فو اللهِ إنِّي لَفِي أَيْدِيهمْ إذْ طَلَعَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ، شَعْشَاعٌ [أي: الطَّوِيل الْحسن]، حُلْوٌ مِنْ الرِّجَالِ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفَعَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً. وهو سهيل بن عمرو، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا وَاَللَّهِ فقلت في نفسي: مَا عِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا مِنْ خير". (انظر سيرة ابن هشام: 1/449: 450).

وبينما هم يسحبونه إذ أسر له البختري بن هشام: "وَيْحَكَ! أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جِوَارٌ وَلَا عَهْدٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، وَاَللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أُجِيرُ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ ابْن نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ تِجَارَةً، وَأَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ بِبِلَادِي، وَلِلْحَارِثِ ابْن حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، قَالَ: وَيْحَكَ! فَاهْتِفْ بِاسْمِ الرَّجُلَيْنِ، وَاذْكُرْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمَا. قَالَ: فَفَعَلْتُ، وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إلَيْهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إنَّ رَجُلًا مِنْ الْخَزْرَجِ الْآنَ يُضْرَبُ بِالْأَبْطَحِ وَيَهْتِفُ  بِكُمَا، وَيَذْكُرُ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمَا جِوَارًا، قَالَا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَا: صَدَقَ وَاَللَّهِ، إنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تِجَارَنَا، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يُظْلَمُوا بِبَلَدِهِ. قَالَ: فَجَاءَا فَخَلَّصَا سَعْدًا مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَانْطَلَقَ. (سيرة ابن هشام: 1/ 450). إنه الفرج بعد الشدة، وحفظ الله يحوط المؤمن كل لحظة:

يا صاحب الهم! إن الهم منفرج *** أبشر بخير فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه *** لا تيأسن فإن الكافي الله
الله يُحدث بعد العسر ميسرة *** لا تجزعن فإن القاسم الله
إذا بليت فثق بالله وارضَ به *** إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله مالَكَ غير الله من أحد *** فحسبك الله في كلٍ لك الله

فاللهم فرج عنا وعن المسلمين في كل مكان كربتهم، اللهم اكشف الغمة وانصر الدين وأتمه، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين في كل مكان يا رب العالمين.

لما عاد الأنصار للمدينة بعد بيعة العقبة الثانية كان بعض أهليهم على شركهم، ومنهم عمرو بن الجموح الذي لم يزل عاكفًا على عمى الجاهلية وبؤس أصنامها؛ وكان سيدًا في بني سلمة، وشريفًا بينها، وكان قد اتخذ في داره صنمًا يعظمه ويطهره، يقال له: مناة كعادة الأشراف.

فأراد شبابُ بني سلمةَ وعلى رأسهم ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل القيام بواجبهم نحو دينهم وصلة رحمهم من العمل على إنقاذ والدهم، وكبيرهم من هذا الضلال الكبير. (انظر سيرة ابن هشام: 1/ 452).

 فكانوا يُدلجون بالليل على صنم عمرو، فيحملونه فيطرحونه في حفرة فيها عذر الناس منكسًا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينَّه. فإذا نام عمرو، عدوا عليه، ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك.

فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يومًا، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبًا ميتًا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه، ثم غدا عمرو فوجد إلهه منكسًا بالبئر مقرونًا بكلب ميت، فسقطت هيبته من قلبه، فالإله منزه عن مثل هذا؛ ثم دعاه المسلمون للإسلام، فأسلم برحمة الله، وحسن إسلامه، فذكر صنمه وقال شاكرًا ربه على نعمة الإسلام:    

الحمد لله العلي ذي المنن *** الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن *** أكون في ظلمة قبر مرتهن

بأحمد المهدي النبي المرتهن وهكذا العقل الصحيح يهدي صاحبه للصراط المستقيم.

إخوة الإيمان: هذه مواقف متنوعة ذكرها أصحاب السير قبل الاستعداد للحدث الأكبر: هجرة النبيصلى الله عليه وسلم بعد أن اشتد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهل سيبقى المسلمون مكتوفي الأيدي عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم ضد بطش قريش؟ وماذا بأيديهم فعله؟

المصدر: ملتقى الخطباء

إبراهيم بن عبد الله الدويش

دكتور في قسم السنة بكلية أصول الدين بالقصيم

  • 8
  • 0
  • 7,432

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً