حضارة المسلمين وأثر القرآن في تنمية القوى الإنسانية
تقدم المسلمون في كل ميادين الفكر الإنساني عندما عملوا عقولهم في البحث والدراسة وانتهجوا نهج القرآن العقلي الذي وضح لهم.
هذا الاتجاه الواضح الذي أخذ فيه القرآن الكريم بيد الإنسان، وطاف به
في أعماق هذا الكون، هداه إلى أسراره، وأوحى إليه أن يتأمل فيه
ويتدبر، ويتعلم وليسخره لمنفعته، ويستخدم عقله في سبيل ذلك إلى حدود
لم تحدد.
هذا الإيحاء هو الذي دفع بالمسلمين إلى الخوض في بحار العلوم المختلفة، وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في بناء مجتمعاتهم، ودعم سلطانهم، وعرفوا أن العلم: هو الذي يوضح لهم معالم السير على النهج القويم، ويفتح لهم آفاق الحياة والقوة، ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونية ونواميسها، ويقيم لهم وسائل الحياة، والسؤدد ويبني لهم قواعد المجد والعزة.
عرفوا كل هذا، فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم على اختلاف أنواعها ولم
يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة، ولا ثنت عزائمهم عنها بأساء الحياة
وضراؤها، وبحثوا عنها في آيات الله التشريعية، وآياته الكونية وأقاموا
لها في كل قطر إسلامي مناراً عالياً، وحملوا مشاعلها إلى مشارق الأرض
ومغاربها، ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها
أيضاً إلى علوم السابقين فاستخرجوها من زوايا النسيان والإهمال.
وأخذوا إبريزها بعد أن زادوه نقاء وصفاء، وردوا زائفها بعد أن بينوا زيفه وفساده؛ لأنهم كانوا يطلبون العلوم طلب الناقد البصير.
واكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون في جيل واحد، ما لم يكتمل لأمة من
الأمم الناهضة، في عدة أجيال وفي ذلك يقول بعض المؤرخين من علماء
الغرب: (إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها في أمة من الأمم الناهضة إلا
في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال
والاجتهاد، إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الفنون في الجيل
الأول الذي بدأوا فيه بمزاولتها)
.
نهضة علمية جبارة، قام بها المسلمون على رغم الأحداث العاتية التي حملوا أعباءها، والحروب الطاحنة التي خاضوا غمارها.
لأن الأحداث والخطوب، وإن بلغت من العنف ما بلغت، لا تستطيع أن تقف في طريق العقائد التي انطوت عليها القلوب، وانفعلت بها النفوس، ولا أن تمنع العزائم القوية من الوصول إلى أغراضها وأهدافها.
وبهذه النهضة العلمية الجبارة، استطاع المسلمون أن يعملوا عمل
الأقوياء لأن العمل لبناء المجتمعات في دينها ودنياها لا يصدر إلا عن
إرادة قوية دافعة، والإدارة القوية الدافعة لا تصدر إلا عن العلم.
وبهذه النهضة العلمية، استطاع المسلمون في سرعة لم يعهد لها مثيل في تاريخ النهوض أن ينتقلوا من أمة الأمية، والانطواء على النفس إلى أمة العلم والقيادة الفكرية العالمية، وأن يصبحوا أساتذة العالم، وقادة الفكر، ورواد العلوم والفنون ، يدرسونها للأجيال المعاصرة كأحسن ما يكون الدرس والتعليم، ويدونونها للأجيال المقبلة كأحسن ما يكون التأليف والتدوين، وينشرونها في شعوب كانت تائهة في عماء الجهل وظلمته.
فقد كانت بعوث الأمم، تفد على العواصم الإسلامية من كل ناحية، فيأخذون
من علمائها ما شاءوا من أفانين العلوم وألوان المعرفة، ثم يعودون إلى
بلادهم حاملين إليها مشاعل هذه العلوم التي أخرجتهم من ظلمات الجهل
إلى نور المعرفة ونفحت فيهم روح الحياة، وفتحت لهم طريق الانتفاع
بأصلين عظيمين من أصول الإصلاح الإسلامي، وهما حرية الفكر، واستقلال
الإرادة.
كما شهد بذلك المنصفون من علماء الغرب، فيما كتبوه لمرضاة العلم في ذاته.
قال أحدهم: "إن المسلمين كانوا منفردين بالعلم في تلك القرون المظلمة
وإن الفضل في إخراج أوروبا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفي تعلمها
كيف تنظر، وكيف تفكر، راجع إلى المسلمين وآدابهم ومعارفهم التي حملوها
إليهم عن طريق أسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وإن العرب هم أول من علم
العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين والعقيدة، وإن نشأة
المدنية في أوروبا قامت على أصلين عظيمين وهما: حرية الفكر، واستقلال
الإرادة، فلم تنهض العقول للبحث، ولم تتحرك النفوس للعمل إلا بعد أن
عرفت أن لها حقا في طلب الحقائق بعقولهم وأفهامهم، وفي تصريف شئونهم
بإرادتهم واختيارهم.
ولم يصل إليهم هذا النوع من العرفان إلا في الجيل السادس من ميلاد المسيح، حينما سطع عليهم شعاع من آداب الإسلام ومعارف المسلمين".
تقدم المسلمون في كل ميادين الفكر الإنساني عندما عملوا عقولهم في
البحث والدراسة وانتهجوا نهج القرآن العقلي الذي وضح لهم.
وهذا الاتجاه من القرآن الكريم لاستعمال العقل هو الذي هدى المسلمين في المقام الأول للعمل على تنمية القوى العقلية، حتى كانت لهم حضارات رائعة، وما زالت تتحدى الحضارات الإنسانية عراقة وأصالة.
كما أن المسلمين استفادوا من ثقافات الأمم التي انتشر بينها الإسلام،
والتي لم ينتشر فيها الإسلام.
ولم يكن المسلمون مجرد نقلة، ولكنهم كانوا مفكرين ناقدين مجددين فشرعوا في الفقه والقانون ومناهج البحث، ودونوا التاريخ، ووضعوا نظريات الاجتماع وأحدثوا أسساً عظيمة للفلك، والجغرافيا، والطب، والكيمياء، والطبيعة، والفلسفة، والرياضة، والهندسة.
وفوق هذا وذاك، كانوا واضعي طريق البحث التجريبي الذي كان أساساً
للحضارة الأوروبية الحديثة.
ويكفي أن نستشهد في هذا باعترف (بريفولت) في كتابه:
"Making of humanity"
"إن الأوروبيين درسوا عن العرب طرق البحث العلمي التجريبي، وأنه لم يسبقهم إليها باحث أو مفكر".
ويؤكد (بريفولت) "إن نفي هذا عن المسلمين، هو نوع من التضليل في فهم المصدر الحقيقي للحضارة الأوروبية".
ولقد خلف المسلمون ميراثاً، كان لأوروبا نبراساً، اعتدت به في عصورها
المظلمة الحالكة الظلام.
وكانت مؤلفات العلماء المسلمين تدرس في جامعات أوروبا، وكان الأساتذة المسلمون يمدون أبناء أوروبا بما وهبهم الله من معرفة.
ولئن أفلتت القيادة الفكرية والسياسة من أيدي المسلمين حيناً من الدهر
فقد استيقظ المسلمون على دوي المدافع، وضجيج الآلات، وأزيز الطائرات
وسباق الفضاء.
والإسلام قادر بطبيعته الذاتية على مواجهة متطلبات كل زمان ومكان؛ لأنه الدين الذي ارتضاه رب العزة للإنسانية في مسيرتها عبر الزمان.
وما على المسلمين إلا أن يعودوا إلى الاغتراف من المنابع الإسلامية
الأصيلة وينهلوا من المنهل الحق، ويتمسكوا بقيم الإسلام وتعاليمه وفي
ذلك الشفاء، وإلى اللقاء.
أحمد عبد الرحيم السائح - من علماء الأزهر
- التصنيف: