داء فقدان البعد المنهجي المكتسب

منذ 2015-11-10

قضية المنهج تستدعي الوضوح والحسم وعدم التردد في تطبيقها واقعيا.

إن طغيان عقلية القطيع المُستغفلة والمُهيأة بكل مهارات الانصياع التام والتصديق الساذج للأقوى دون القدرة على التساؤل والتفكير، لينذر بتصاعد الأزمات الحادة التي يعيشها العقل المسلم مع توالي تراجع الأمة الإسلامية ونكوصها على مستوى العطاء والإبداع الفكري والمعرفي وكذا البحث والإنتاج العلمي والتقني على غرار ما يرنو إليه المشروع الحضاري الإسلامي من أهداف وغايات.

فغالب أفراد المجتمع الإسلامي ليس لديهم منهج واضح في الحياة، لعموم بلوى الفوضى، وانتشار الفقر المعرفي بين أوساطهم، زيادة على التشرذم الفكري القائم، فوقعوا في فشل ذريع من حيث ضبط إيقاعات الحياة في مختلف الأبعاد، ولعل أبرز ما يفسر ذلك هو غياب المفجع للبعد المنهجي في حياتنا، وواقع المشهد الحاصل في أمتنا الآن لهو أكبر دليل على أن غياب هذا الجانب واستفحال هذا الداء الذي أصبح أكبر عائق مانع أمام الإقلاع الحضاري المنشود رغم ما يحمله المنهج الإسلامي من مقومات الحياة الراشدة.

إذاً، كيف يمكن تحرير العقل المسلم من هذه الأزمات التي يتخبط فيها  بفعل هذا الداء؟ وما السبيل الذي ينبغي أن نتبعه لبناء مناعة قوية وتكوين حصانة صلبة تمنع من فقدان هذا البعد المنهجي من حياتنا؟ ما أقسى الحياة وما أشد تفاهتها إن كانت سوى لقمة عيش ومتع وصراعات حيوانية تنتهي بالإنسان إلى الموت جيفة جسدية نتنة تدفن وتوارى التراب.

 إن مسألة المنهج من بين القضايا الجوهرية في حياتنا والتي ترتبط أساسا بالعمل، وهي قضية تعرف نوعا من الحساسية المفرطة، فمجرد الخطأ فيها يترتب عنه التطويل في الطريق أو اعتسافه فما بالكم بفقدانه وغيابه، والذي يؤدي إلى الفشل حينئذ، وإلى وقوف الحركة والمسير نحو تحقيق الشهود الحضاري للأمة.

لقد أصبح عقل المسلم يعيش تشوها عميقا وانحرافا مهولا، مما فتح الباب الواسع للخلاف الديني الذي سلك مسالك سفسطائية تهويمية وتخريفية تطغى عليها المصالح الذاتية ويغلبها الطابع الجاهلي الموروث، وهذا ما أدى إلى تمزيق وحدة الأمة، وتعديد سبلها، وتقطيعها شيعا وطوائف لا تحتكم إلى العلم والنظر والتدبر الشمولي، فلم يبقى للأمة بذلك أساس جامع أمام هذه الأزمات الفكرية الحادة لتحقيق مقاصد مشتركة. 

إن العقل الرشيد هو من يجعل صاحبه عصيا عن الانسياق للتيارات الجارفة، وعصيا عن التغيير إلا بالرهان والدليل باعتباره عنوان الإنسان ووسام الإنسانية وشرفها، فبالعقل خطبنا المنان وبه فضلنا عن سائر المخلوقات، كما حثنا عز وجل على استعماله، بل وطالب المشركين بالبرهان العقلي كدليل على معتقدهم، إنه النعمة الكبرى والفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله لذا لزم الاعتناء بها أشد العناية.

وبعد رحلات التأمل في أزمة انحطاط الأمة وتخلفها، تبين لنا أن تحرير العقل المسلم من هذه الأزمات الحادة التي يتخبط فيها بفعل الغياب الحاد للبعد المنهجي في حياة الأمة ليس بالأمر الهين، ولكن إدراك مكامن الخلل وموطن الداء لَهُوَ أهم خطوة قبل تقديم العلاج الفعال لهذه الأزمات.

وسنتحدث في البداية عن مواقع الأزمات ومواضع المرض، والتي يمكن أن نجملها في ما يلي:

  • غياب المنظم القيمي والمرجع الحضاري الشامل لواقع الناس، باعتباره اللبنة الأساسية في بناء نموذج الإنسان الصالح، والذي بفعله يتحقق إصلاح الشأن العام والخاص ، بحيث يرسم للأمة الإسلامية طريق العودة إلى موقعها الملائم في مسيرة الحضارة الإنسانية، وهذا لا يتحقق إلا انطلاقا من تنزيل القرآن واقعا عمليا في أحوال الناس.
  • عدم التوفر على ميزان سليم للحكم على المادة والمنتوج الإعلامي، فلا نترك أنفسنا عرضة للتجاذب بين أصحاب الخطاب المغرض المعتمد على مخاطبة المشاعر والخيال.
  • كثرة العوائق الوهمية والعقبات الخيالية، والتي تمنعنا من الوصول لأهدافنا، وذلك بترك النفس فريسة للخيالات وإتباع الأوهام التي ينبغي إزالتها بالتفكير المنطقي السليم الممهد للطريق الصحيح في تحقيق الأهداف.
  • الخلل في ترابط التعليم بسوق العمل، فهما عاملان مترابطان، كل منهما يجب أن يصب في صالح الآخر، ولن يتحقق هذا الترابط إلا بفعل الحكامة والتدبير العقلاني للموارد الطبيعية والبشرية مع تثمين المعرفة والبحث العلمي، وتشجيع ثقافة المقاولة أو المبادرة أو التشغيل أو الإدماج الذاتي لدى الشباب خاصة، فهكذا تبنى البلاد المتقدمة حضاريا.
  • عدم تكليف الأعلم والأكثر قدرة بمهمة القيادة في مختلف المجالات، فهي مهارة وعلم، وليس في استطاعة الجميع القيام بها، لذا لزم اختيار الأصلح للقيام بها على وجهها الأكمل.
  • تعطل آلة إنتاج المعرفة والعلوم، باعتبارها شمس تشرق على العقول وتشمل كل أنواع الوعي بما فيها الديني والثقافي والسياسي، كما أنها ليست حكرا على شعب دون آخر بل هي نتاج بشري لكل الشعوب، ومن هنا لزم إصلاح هذه الآلة لإعادة تطويع طاقة الأمة بشكل فعال.

أما فيما يتعلق بالعلاج فينبغي بالضرورة أن يكون شموليا يسري على جسد الأمة بكامله، وليس موضعيا يعالج ما يتعلق بالعقل مع إغفال سائر مكونات جسم الأمة، فالخلل يتعدى العضو الواحد فينخر ويسري في الجسد كله، لهذا يلزمنا أخذ جرعات فعالة لعلاج هذه الأزمات ومحاولة استنهاض الأمة من كبوتها، وإخراجها من حالة الرضا بالأمر الواقع والكساد الحاصل في مختلف الميادين، ويمكن أن نلخصها في النقط الآتية:    

  • تبني منظومة أفكار خاصة بالأمة الإسلامية، بحيث تضمن عدم تجاهل وحجب ما عند الأخر.
  • التغيير الذاتي؛ بكونه عملية شاملة تغطي كل الطاقات البشرية سواء العقلية والروحية والأخلاقية والجسدية، وذلك بالتركيز على عدم التجزئة في خلق الرؤية، فالفرقة تخلق الفشل منذ البداية نحو هذا التغير.  
  • اتحاد النخب ككتلة واحدة بمختلف تشكلاتها مع باقي فئات المجتمع، بعيدا عن الازدراء واليأس, وعدم لعب الدور السلبي في تكريس الفكر الأحادي وتقديس الأفراد.
  • أسلمة المعرفة فيما يتعلق بالعلوم الحديثة خصوصا الإنسانية، وذلك بمحاولة إيجاد تأصيل إسلامي لها، بدل التسليم المطلق بالعلم الغربي -الإنساني- ، لتجنب الأفكار والتصورات التي تتعارض ابتداءً مع التصور الإسلامي.
  • خلق التوازن بين المستوى التنظيري والفعلي، من خلال السعي إلى تحقيق الترابط بينهما بإيجاد الخيط التركيبي الناظم بينهما.
  • تعويد عقل المسلم على الحوار وقبول الآخر؛ بالاستماع إلى وجهات النظر، ومناقشتها، واستيلاد أفكار جديدة تنشط الحركة الثقافية وتنمي الإبداع.

     في ظل ما نعيشه في هذا العالم من تناقضات وتعطيل للمقاييس لم نجد تفسيرا منطقيا لهذه الفوضى إلا باعتبار أنها حدثت بفعل فقدان المنهج الذي ينسق ويوازن بين الأنظمة وبين القيم فلا يتعارض الحق مع الخير، وتلك هي خاصية المنهج الإسلامي التي تفرد بها ولم يشاركه غيره فيها، لذلك كان من الضروري أن نعرج في حديثنا إلى السبيل الذي ينبغي أن نسلكه للعمل على بناء مناعة قوية وتكوين حصانة صلبة تمنعنا من فقدان هذا البعد المنهجي في حياتنا، والذي يمكن حصر مكوناته الأساسية في النقط الرئيسية الآتية:  

  • تطوير الفكر وتحديث المعرفة الإسلامية، بإنشاء ضوابط وآليات عملية جديدة، تتناسب مع متطلبات المجتمع وتحديات العصر.
  • تأسيس أرضية معرفية صلبة لخلق حوار علمي واضح المعالم، فنحصل على فائدة كبيرة من تفعيلنا لهذا التواصل الثقافي الذي سيمكننا من إخراج الفكر من الصراع إلى التمازج، بهذا ينضج الخلاف ليغدو اختلافا يرفد الفكر بالتنوع والرؤى المتكاملة.
  • إصلاح الاختلالات والتشوهات المفاهيمية، والعمل على بناء وامتلاك مفاهيم إسلامية خاصة، مع الحرص على توظيفها توظيفا مناسبا وفعالا لتحقيق مضامينها الأساسية ومقاصدها الجوهرية.
  • اعتبار القيم مدخلا جديدا لتجديد العلوم الإسلامية، بإدماجها في بنية هذه العلوم، وذلك بخلق آليات جديدة تسعى إلى تحقيق نوع من التكامل والشمولية، مع استحضار خصوصية النموذج الأخلاقي الذي يحمله التصور الإسلامي.
  • تكوين منظومة معرفية متكاملة، انطلاقا من فهم مقاصد الخطاب الرسالي المتمثل في الوحي، وكذا مقاصد الفعل الإنساني الذي يتجلى في الخبرة الإنسانية، والسعي إلى تحويل هذا الفهم على شكل منظومة معرفية.
  • صياغة خطاب إسلامي تفاعلي قوي، معبأ تعبئة متينة بعيدا عن التناقضات، بحيث سيحقق وظائفه وغاياته العلنية منها والمضمرة، وهذا يتطلب جهودا جماعية مكثفة ومندرجة في إطار سياسة متكاملة ومخططة تشاركيا.

     رغم وضوح أفاق ما ذكرنا من حيث المبدأ، إلا أنه يقتضي بعد التشمير تنظيريا، ومنهجيا، وتربويا، إلى العمل إجرائيا بشكل كبير، إذ يلزم تجريد العزم لاستجماع ذلك واستكماله.

وخلاصة القول إن قضية المنهج تستدعي الوضوح والحسم وعدم التردد في تطبيقها واقعيا، وبحضور الضمير والإيمان تستقيم الموازين ويتضح المنهج أكثر مما يسهل المسير في هذا الطريق بخطى ثابتة نحو تحقيق الانسجام والتكامل لمواجهة هذا الداء الذي أصاب أمتنا الإسلامية، والعمل الجاد لاستحضار هذا البعد المنهجي الغائب في حياتنا، مع الحرص الشديد على تحقيق النهوض الحضاري المنشود والمنوط بنا.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أمين أمكاح

كاتب و باحث إسلامي: كاتب مهتم بالشأن التربوي، وبالمواضيع ذات الصلة بكل ما يتعلق بتطوير الذات والبنية الفكرية. باحث في القيم والتواصل؛ متخصص في دراسة سلوك المراهق.

  • 6
  • 0
  • 8,891

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً