حين تسقط الآخرة من حساباتنا

منذ 2016-01-03

إن العاقل الحقيقي في هذه الحياة الدنيا، والكيس الأريب فيها، ليس ذلك الرجل الذي يكذب ليأكل حقوق الآخرين، ولا الذي يتغافل عن أهم وأخطر حقيقة على وجه الأرض ألا وهي "الآخرة"، وإلا لكان إبليس اللعين هو أذكى المخلوقات على الإطلاق؛ بل العاقل بحق هو ذلك الرجل الذي يجعل من إيمانه ويقينه باليوم الآخر الميزان الذي يضبط به سلوكه وتصرفاته و تعامله مع الآخرين، ويحسب لهذا اليوم العظيم ألف حساب.

لطالما كنت أتعجب حين أرى أو أعلم أن أحد المنتسبين إلى دين الله الحنيف قد أكل مال أخيه المسلم بالباطل -أو في الإنسانية وإن لم يكن مسلمًا- دون أن يحسب للآخرة والوقوف بين يدي الله حسابًا، وكثيرًا ما كنت أندهش من جرأة بعض المحسوبين على الإسلام في الإقدام على ظلم الناس والبغي والتجبر على عباد الله، دون أن يتذكر أحدهم أن الآخرة آتية لا محالة، وأن الموت أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه سيكون أمام محكمة الله العادلة التي لا مفر منها ولا مناص.

ولكن هذا التعجب وذلك الاندهاش قد زال في الحقيقة حين أدركت أن كثيرًا ممن يزعمون أنهم مسلمون، ويعلنون انتسابهم بالاسم لهذا الدين الخاتم، قد أسقطوا من حساباتهم الدار الآخرة، فأجروا تعاملاتهم مع الناس وكأنه لا وجود للآخرة في تصرفاتهم، أو لكأن الموت قد استثناهم من حتمية انتقالهم من هذه الدار الفانية!

وإذا كان الاعتقاد باليوم الآخر من أركان الإيمان، ولا تصح عقيدة المسلم إلا باليقين به، إلا أنه -وللأسف الشديد- غير ملاحظ في حياة كثير من المسلمين بشكل عام، وغير مدرج ضمن أولويات الاعتبار عندهم أثناء التعامل مع الآخرين، حتى كاد هذا الركن الأصيل من أركان الإيمان يتحول عند هؤلاء إلى مجرد لفظ لإثبات عدم خروجهم من الملة والدين، بينما لا وجود ولا مكان له في الميدان العملي في حياتهم.

والحقيقة أن ما نراه اليوم من موت الضمير وانحسار الأخلاق وغياب الصدق وضياع الأمانة وانتشار الظلم والبغي بين الناس، وشيوع النصب والاحتيال والخداع لأكل أموال الناس بالباطل، تحت مصطلحات شيطانية مبتدعة من أمثال "شطارة" و"ذكاء" و"دهاء" هي نتيجة متوقعة لسقوط الآخرة من حساب كثير من المسلمين، فما بالك بغير المسلمين!

إن العاقل الحقيقي في هذه الحياة الدنيا، والكيس الأريب فيها، ليس ذلك الرجل الذي يكذب ليأكل حقوق الآخرين، ولا الذي يتغافل عن أهم وأخطر حقيقة على وجه الأرض ألا وهي "الآخرة"، وإلا لكان إبليس اللعين هو أذكى المخلوقات على الإطلاق؛ بل العاقل بحق هو ذلك الرجل الذي يجعل من إيمانه ويقينه باليوم الآخر الميزان الذي يضبط به سلوكه وتصرفاته و تعامله مع الآخرين، ويحسب لهذا اليوم العظيم ألف حساب.

ومن هنا يمكن فهم حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» (سنن الترمذي [2459]) وقال: هذا حديث حسن.
فالعاقل الحق في الإسلام هو الذي لا ينسى الدار الآخرة أبدًا، بل يجعلها نصب عينيه في جميع تقلبات حياته العملية  ويسّخر هذه الحياة الدنيا الفانية  للنجاة والفلاح في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

إن من يدقق في آثار غياب اعتبار الآخرة في حياة الناس اليوم، والنتائج الكارثية التي تمخضت عن تغافل وتناسي البشر عن حقيقة حتمية الوقوف بين يدي الله للحساب يوم القيامة، يتأكد له عظم مكانة هذا الركن من أركان الإيمان في دين الله الخاتم، والدور البارز والرئيس لهذا المعتقد في استقرار وسعادة وهناءة حياة بني آدم على وجه الأرض.

 والحقيقة أن من يستقرء السيرة النبوية الشريفة، ويقلب في صفحات حياة السلف الصالح من هذه الأمة: يدرك مكان الآخرة في قلوبهم وعقولهم، وكيف هيمن الإيمان بهذا الركن على جميع تفاصيل حياتهم اليومية، سواء داخل البيت مع الزوجة والأولاد والأهل والأرحام، أو خارجه مع سائر الناس مسلمهم وذميهم ومعاهدهم، وكيف كان لهذا الإيمان الدور الأهم في السعادة التي كانت تهنأ بها مجتمعاتهم في ذلك الوقت.

فهذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما- قد آتاه الله من الذكاء والفطنة والدهاء وتوقد الذهن ما يستطيع به أن يتحايل على كثير من الناس، ولكن دينه وإسلامه وخوفه من الحساب يوم القيامة منعه من استخدام دهائه فيما لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتراه يقول: "لولا الإسلام لمكرت مكرًا لا تطيقه العرب" ويقول أيضًا: "لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  «المكر والخديعة في النار» (الأحاديث الصحيحة للألباني [3/3]) لكنت من أمكر هذه الأمة.

إنه اليقين الحقيقي بحتمية مجيء هذا اليوم العظيم، والذي ينتج عنه سلوك وعمل يتناسب مع ذلك اليقين القلبي، ومن هنا لم نقرأ في سيرة السلف الصالح ما يتناقض في سلوكهم مع الإيمان باليوم الآخر، بل طالعنا الكثير من الروايات والأخبار الموثقة التي تؤكد أمانتهم وصدق تعاملهم مع الناس، تحسبا لهذا اليوم الذي أيقنوا بقرب مجيئه كما أخبر الله تعالى: {إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا. وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6]. قال ابن كثير: "المؤمنون يعتقدون كونه قريبا، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله، عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة" (تفسير ابن كثير 8/224).

أما حين سقطت الآخرة من حساباتنا في هذا العصر، فقد انقلبت الدنيا -كما نرى- إلى مكان مليء بالظلم والقهر والبغي والعدوان، ويعج بالمآسي والآلام والأحزان، وتنعدم فيه الطمأنينة والأمن و السلام، و تحول الناس من بشر خلقهم الله تعالى لعبادته وطاعته، وللتعارف والتعاون في عمارة الأرض، استعداداً للقاء الله والفوز برضاه وجنته في الآخرة إلى كتلة من الشهوات والأهواء تتنافس وتتناحر فيما بينها لإشباع غرائزها.

إن البشرية تحصد بنسيانها وتغافلها وإسقاطها الآخرة من حساباتها الثمار المرة في الدنيا، من خلال ما تعيشه من بؤس وشقاء وتعاسة، ناهيك عن الحساب الذي يتنظرها غدا يوم القيامة أمام الله. 
----------
د. عامر الهوشان

  • 0
  • 0
  • 2,306

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً