المتوارون عن الولاء
إنَّه الهروب من الواقع، والنكوص عن ميادين المدافعة والدعوة، والحيدة عن معالي الأمور ومجالدة الأعداء وجهادهم، والاستمتاع بملاينة الطغاة والمستبدين، والركون إلى عاجل الفانية وحطامها.
يضخِّم اللاهثون خلف سراب الإنسانية ما يُؤَمَّل من مكاسب الحوارات
الموبوءة، ويُغرِقون في تشييد أمانٍ وأمنيات على جرف هارٍ من الأوهام
والظنون، ويهيمون في مسارب حب «مصطلَم» وعشق مغيَّب، ويتعامون عن
براهين الشرع المنزَّل، وحقائق التاريخ السابق والحاضر.
إنَّه الهروب من الواقع، والنكوص عن ميادين المدافعة والدعوة، والحيدة
عن معالي الأمور ومجالدة الأعداء وجهادهم، والاستمتاع بملاينة الطغاة
والمستبدين، والركون إلى عاجل الفانية وحطامها.
ولم يقف القوم عند هذه المهانة والخنوع للأعداء، واستملاح الذل
والصَّغار، بل هرعوا إلى العبث بالنصوص الشرعية وليِّها، من أجل أن
تتفق مع مسلك الخَوَر ومركب العجز.
وقبل أن نورد نماذج من تلك التحريفات والتأويلات الفاسدة لنصوص الولاء
والبراء؛ نؤكد على استصحاب ما كان معلوماً من الدين بالضرورة؛ من وجوب
موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، حتى
قال بعض العلماء:
"فأما معــاداة الكفــار
والمشركين فاعلــم أن اللــه - سبحانه وتعالی - قد أوجب ذلك، وأكَّد
إيجابه، وحرَّم موالاتهم وشدَّد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله -
تعالى - حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب
التوحيد وتحريم ضده" [1].
كما أن دعوى إلغاء العداء مخالفة لطبيعة الإنسان وفطرته؛ إذ لا ينفك
الإنسان عن حبٍّ وبغض، وموالاة ومعاداة، فأصل كل فعل وحركة في العالم
الحب والبغض؛ كما بسطه ابن تيمية في رسالته: قاعدة في المحبة.
ومعسول السلام، والترنُّم بالوئام مع أعداء الله - تعالى - يخالف سنة
التدافع والصراع بين الحق والباطل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ورحم
الله الأستاذ الكبير (محمد محمد حسين) حيث
يقول:
"وقد جرَّبنا الكلام عن الإنسانية
والتسامح والسلام، وحقوق الإنسان في عصرنا؛ فوجدناه كلاماً يصنعه
الأقوياء في وزارات الدعاية والإعلام؛ ليَنْفُق ويروج عند الضعفاء،
فهو بضاعة للتصدير الخارجي، وليست معدَّة للاستهلاك الداخلي، لا
يستفيد منها دائماً إلا القوي؛ لأنها تساعد على تمكينه من استغلال
الضعيف الذي يعيش تحت تخدير هذه الدعوات، في ولاء مع مستغلِّه
ومستعبده يستنفد طاقاته وقدراته في الأحلام بدل أن يوجهها لعمل نافع
يحرِّره من قيود ضعفه وعجزه.." [2].
ومــن هــذا العبــث في تفـسيــر نصــوص البــراءة من المشــركين:
دعوى بعضهم أن العــداء والبــراء لمجــرد الكفــر والشرك لا
للكافــرين ولا للمشركين.. وهذه سفسطة مكشوفة ومكابرة ظاهرة؛ إذ الكفر
والشرك وصف قائم بأشخاص وأنظمة ودول!!، وقد أمر الله - تعالى - في
محكم التنزيل بالبراءة من الشرك وأهله، بل قدَّم البراءة من المشركين
على البراءة من معبوداتهم، قال - تعالى - على لسان إبراهيم الخليل -
عليه السلام -:
{إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ} [الممتحنة: ٤].
وقال - تعالى - عن الخليل إبراهيم - عليه السلام -:
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ} [مريم: ٩٤].
ويفتري بعضهم الكذب على الله عند قوله - تعالى -:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
[آل عمران: ٤٦] فيزعمون أن كلمة (سواء) هي الإقرار بالربّ، فهو القاسم
المشترك بيننا وبينهم! وقد تعاموا عن سائر الآية:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٤٦].
فالكلمــة الســواء هي عــبادة الله - تعالــى - وحده لا شريك له،
وهذا ما ينقضه النصارى جهاراً نهاراً.
وتحتج طوائف على تبرير ملاينة النصارى واللياذ بأهل الصليب بقوله - عز
وجل -:
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ
آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: ٢٨].
ويغفلون عن الآية التي بعدها: {وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ
إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الْـحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا
مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:
٣٨]؛ فالمقصود بهم من آمن بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهم
شهدوا لله بالوحدانية ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة
والرسالة، فأين هؤلاء من عموم النصارى الذين أشركوا بالله ما لم ينزل
به سلطاناً وتنقَّصوا عظمته وكماله وطعنوا في نبينا محمد - صلى الله
عليه وسلم - .
قال
ابن حزم: "ولو أن الله وصف قولهم
(طائفة اليعقوبية من النصارى القائلين: إن المسيح هو الله) في كتابه؛
لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج السخيف"
[3].
وقال ابن تيمية:
"ففي الجملة ما قال قوم من أهل الملل قولاً على الله إلا وقول النصارى
أقبح منه، ولهذا كان معــاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول: لا
ترحموهــم؛ فقــد سبُّــوا الله مســبَّةً ما سبَّه إياها أحد من
البشر" [4].
وتكايس آخرون فحصروا البغض والعداء في شأن الكافر المحارب دون
المسالم، وهذا مردود بصريح القرآن في آيات كثيرة؛ كقوله - تعالى - على
لسان إبراهيم الخليل - عليه السلام -: {وَبَدَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:
٤]؛ فجعل للعداوة والبغضاء غاية وهي دخولهم في الإيمان بالله وحده،
وقال - عز وجل -:
{لا يَتَّخِذِ الْـمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ}
[آل عمران: ٨٢]، وقال - سبحانه -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}
[المائدة: ١٥]، فموجب العداوة لهم وعدم اتخاذهم أولياء
لأجل كونهم كفاراً يهوداً ونصارى؛ فلم يُعلِّق العداء بالمحاربين ولا
الصهاينة المعتدين!!
ويتحذلق بعضهم في تسويغ الديانات المنسوخة المبدلة، ويستدل بقوله -
تعالى -:
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
[الكافرون: ٦]. وهذه الآية الكريمة حجة عليهم كما
حرَّره ابن تيمية قائلاً: «هي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من
عمله، فإن حرف (اللام) في لغة العرب يدل على الاختصاص.. ولهذا قال
النبي - صلى الله عليه وسلم - - عن هذه السورة -:
«هي براءة من الشرك»
[5].
وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظن بعض
الملحدين، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين.. بل فيها
براءته من دينهم وبراءتهم من دينه.. وهنا أمر محكم لا يقبل النسخ..
فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرضَ قط إلا بدين الله، ما رضي قط
بدين الكفار لا من المشركين ولا من أهل الكتاب"[6].
قد يعتل بعضهم على محبة الكافر بقوله - تعالى -:
{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ}
[القصص: ٦٥]؛ إذ نزلت الآية في
أبي طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والذي مات مشركاً على
ملة عبد المطلب؛ كما ثبت في حديث المسيَّب بن حزْن - رضي الله عنهما -
والذي أخرجه البخاري ومسلم. والجواب عن هذا الاستدلال أن معنى الآية:
من أحببتَ هدايته كما هو ظاهر السياق.
كما قال شيخ المفسرين ابن جرير - رحمه الله -:
"يقـول - تعالى ذكره - لنبيه -
صلى الله عليه وسلم - (إنَّك) يا محمد! (لا تهدي من أحببت) هدايته
(ولكن الله يهدي من يشاء) أن يهديه من خلقه، بتوفيقه للإيمان به
وبرسوله، ولو قيل: معناه: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك، ولكن
الله يهدي من يشاء؛ كان مذهباً" [7].
وقــال الـعلَّامة محمــد الأمين الشنقيطــي:
"ذكــر - جــل وعلا - في هذه
الآية الكريمة أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يهدي من أحبَّ
هدايته.." [8].
وتفوَّه آخرون بتوقير الكافر والاحتفاء به؛ لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قام لجنازة يهودي.. وقد جاء في الروايات الثابتة ما يبيِّن هذا
الحديث؛ فمن ذلك:
«إن الموت فزع»،
ومعناه: أن الموت يُفْزَع منه، إشارة إلى استعظامه، وفيه تنبيه على أن
تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، وفي رواية ثانية
«إنما
قمنا للملائكة»، وفي لفظ ثالث
«إنما
تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس»،
وفي رواية رابعة
«إعظاماً لله الذي يقبض الأرواح»
. ولا تعارض بين ذلك كله؛ فالقيام للفزع من الموت هو من
تعظيم أمر الله تعالى، وتعظيم للقائمين بأمره وهم الملائكة؛ كما
أقرَّه الحافظ ابن حجر في الفتح [9].
فكيــف وقــد توافرت النصــوص الصريحة الصحيحة عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - بمشروعية مجانبة اليهود - وسائر الكفرة - ومخالفتهم
حتى قالت يهود:
«ما يريد هذا الرجل - يعنون نبينا محمداً - صلى الله
عليه وسلم - - أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه»
[10].
والمقصود أن الولاء للمؤمنين والعداوة للكافرين من آكد المحكمات
البيّنات والثوابت القطعيات كما جاء واضحاً جلياً في نصوص الوحيين
وقواعد الشريعة.. وإنْ تطاول أحدهم على هذا الأصل الكبير، ولوَّح بنص
أو دليل يعكر على هذا الأصل؛ فهذا من المتشابه الذي ينبغي ردُّه إلى
المحكم البيِّن. ولا يُعرض عن المحكمات، ويتَّبع المشتبهات إلا أهل
الزيغ من النصارى وأشباههم؛ كما قال - تعالى- عنهم:
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا
يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}
[آل عمران: ٧].
مع يقيننا أن كل دليل يتشبَّث به المخالف لباطله؛ فإن في هذا الدليل
ما ينقض مذهبه ويزهق باطله؛ إذ النصوص يصدِّق بعضها بعضاً، والدليل
الصحيح لا يدل إلا على حق وصواب.
"إن لرسالات السماء أعداء موغلين في الخصام، لهم بيان حسن، ومقالات
مزخرفة، واغترار بالباطل، وتأميل في نجاحه وكسب المعركة به. وأعداء
الإسلام من هذا القبيل لن ينقطعوا، ولن يهادنوا. تُرى: أيغني في
لقائهم الإحساس البارد والقلب الفارغ والابتسام المبذول؟ هيهات
{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ
﴿٨﴾ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
[القلم: ٨ - ٩]" [11].
-----------------------------------------------------------------------------
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية - الرياض.
[1]
النجاة والفكاك من موالاة
المرتدين وأهل الإشراك، لحمد بن عتيق، ص 15.
[2]
الإسلام والحضارة الغربية، ص
192.
[3]
الفصل 1/111، وانظر: 2/199.
[4]
الجواب الصحيح 3/173.
[5]
أخرجه أحمد وأبو داود.
[6]
الجواب الصحيح 2/31-32؛
باختصار.
[7]
تفسير ابن جرير 11/91، وانظر: فتح
الباري لابن حجر 8/506.
[8]
أضواء البيان 6/456.
[9]
3/180.
[10]
أخرجه مسلم ح (302).
[11]
تأملات في الدين والحياة، لمحمد
الغزالي، ص 163.
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
(*)
- التصنيف: