مصير تعليم الأولاد بعد "الثانوي" مجهول
في زواريب "عين الحلوة".. فقر يدفع الناس لانتظار "السمك في البحر" ..
في زواريب "عين الحلوة".. فقر يدفع الناس لانتظار "السمك في
البحر"
بعيداً وبعيداً جداً عن "فوبيا" المخيمات الفلسطينية، وعميقاً جداً في زواريب مخيم عين الحلوة الضيقة، نحو الحياة حيث اللاحياة.
قد يمكنك أن تقمع فضولك بالامتناع عن الأسئلة، فقط انظر في تقاسيمه وترى شكل الغيتو محفوراً في خطوط وجهه المتهالك والمحترق من أشعة الشمس اليوميه، فتأتيك إجابات تشبع كل ما يراود نفسك من اسئلة، وربما أيضاً تثير تساؤلات أخرى ما كانت لتخطر ببال عاقل.
إنه صلاح عوض، الرجل الأربعيني الذي يروي مقت أيامه مستبدلاً غصّاته بضحكات ساخرة، ربما يكون واقعه هو المستهدف بها. واقع أشبه ما يكون بالمبالغات الصورية أو الروائية وربما السينمائية ايضاً.
الصياد صلاح
لكنها الحقيقة والحقيقة كاملة أن صلاح أبٌ لستة أبناء أكبرهم في الـ15 من عمرها وأصغرهم توأماً لم يتجاوزا الرابعة من العمر. وأمام استحقاقات هذه العائلة ليس بوسع صلاح أن يعمل في أي وظيفة داخل المخيم إذ لا وظائف ولا مصالح ولا شركات هناك، كما أنه عاجز عن العمل خارج بقعة المخيم لأنه لا يملك المؤهلات ولا أشياءَ أخرى لحقت به إلى شاطئ البحر لتحكم عليه بأن يبقى أبداً صياداً للسمك مع وقف التنفيذ.
وليس أمامه من خيارٍ سوى ان يعمل صياد سمك في الممنوع، صياد لا يجني في الشهر أكثر من 200 ألف ليرة لبنانية في موسمي الصيف والخريف ويقطتع منهم إيجار المأوى العالي الرطوبة، الواقع بين بيوت يلاصق أحدها للآخر، حيث يفتقر المكان حتى إلى شرفة تطل على السماء.
أما النافذه فلا فائدة منها أكثر من الحديث مع الجيران المتاخمين للمنزل. ذاك المكان لا تزيد مساحته على غرفة نوم وصالة ينام فيها الأولاد الستة ومطبخ ومرحاض واحد تبلغ مساحته متراً ونصف المتر فقط. قد ينعم القدر على صلاح بـ500 الف ليرة لبنانية في مواسم الصيد، وقد ينعم عليه أيضاً بمخالفة صيد ومحاصرة الشّباك إذا رأته القوى المسؤولة فتكلفه هذه النعمة ما يزيد على مليون ونصف المليون ليرة لبنانية اي ما يعادل 1000 دولار أمريكي. ويذكر صلاح أن القدر أكرمه بمخالفتين من هذا النوع.
لم يكن صلاح صياداً أصلاً إنما هو ممن يعشقون البحر والصيد، حيث كانت مهنته الأولى طلاء سيارات، لكن صحته تهاوت فتدخل الأطباء ومنعوه من العمل بهذه المنهة لأنه اصيب بداء الربو، فبات محظوراً عليه طبياً العمل في هذا المجال، غاب الأطباء وغاب معهم مصدر الرزق الوحيد لصلاح، لكن ما لبثت الهواية أن تحولت إلى مصدرٍ للرزق، لكنه يقول ان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. فالفلسطيني أيضاً ممنوع من مزاولة مهنة الصيد في لبنان.
ويقول صلاح إنه كي يتمكن من العيش بشكل يؤمن له قوت أولاده واحتياجاتهم اليومية يجب ان يكون الحد الادنى لدخله ما يعادل 750 ألف ليرة لبنانية، أي أكثر بثلاث مرات مما يجنيه شهرياً. وهذا طبعاً مع اخذ العلم ان الأولاد يدرسون في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. لكن ماذا بعد ان ينتهوا من التعليم الثانوي، حيث إن "الأنروا" لا تؤمن تكاليف الدراسة الجامعية؟ فأجابني حتى يحين ذلك اليوم يخلق الله ما لا تعلمون.
مصروف العائلة
وبين بؤس العمل وبؤس المكان بؤس آخر، فالعائلة لا تعرف في الجغرافيا اللبنانية اكثر من مساحة المخيم، لأنّ من لا إمكانية له على تناول الطعام بالشكل الطبيعي يومياً فحتماً لا إمكانية له على الترفيه، فصلاح وعائلته لا يعبرون المخيم إلا في الأعياد فقط، لأن الخروج من المخيم يحتاج مصروفاً إضافياً فأين تذهب عائلة مؤلفة من ثمانية أشخاص والسؤال الاهم كيف تذهب في الوقت الذي يمتلكون فيه ثمن المواصلات إلى خارج جدار المخيم؟ عندما يضجر الأولاد ينزلون الى الملعب الذي أخذ شكلاً جديداً ابتكرته ثقافة المخيم، فتحوّل الزاروب الضيق إلى ملعب ينزل إليه الأولاد متحمسين ويعودون باكين لأن لعبهم يزعج الجيران الذين يسكنون في المكان نفسه ما يخضعهم للمعاقبة من قبل الجيران فيجبرون على ترك الملعب والعودة، حيث الرطوبة العالية والضجر الذي يرافقه الظلام حينما ينقطع التيار الكهربائي، وحينما سألته ما إذا كان يشترك في خدمة المولد الكهربائي، أخبرني بأنه يفضل الظلمة على جوع الأولاد.
من المنطقي أن يحصل كل طفل على مصروف يومي فهل يستطيع صلاح أن يعطي مصروفاً لستة أولاد قد تصل قيمته إلى ما يفوق إنتاجه اليومي؟ ضحك صلاح ضحكته الساخرة والمليئة بالأسى والأسف في الوقت عينه قائلاً: "هل أعطيهم مصروفاً يومياً في الوقت الذي ليس لدي امكانية لإطعامهم أكثر من وجبة طعام واحدة؟ أنا عادةً اعطي الصغار أما الكبيرة البالغة 15 عاماً فقد تحصل احياناً على 500 ليرة لبنانية وقد لا تحصل، أنا أعرف أن هذا الأمر يزعجها لكن العين بصيرة واليد قصيرة في الواقع نحن لا نأكل سوى وجبة طعام واحدة لنحصل على أخرى في اليوم التالي".
ولكن هل يستطيع الصغار تقبل هذا الواقع الذي يفرض عليهم الحرمان بكل أشكاله؟
هو يعلم أن اطفاله يرفضون هذا الحرمان والفقر لكنه أيضاً يعلم انهم مازالوا صغاراً ليشعروا بمعاناته. لكن فلنقل انهم محظوظون ولو بالحد الأدنى إذ لديهم جد وجدة يمكن أن يؤمنوا لهم بديلاً عن المصروف الذي قد لا يحصلون عليه من والدهم.
أما الزوجة فهي ربة منزل تعمل على تربية الأطفال الستة، وتدبير امر العائلة بما أوتيت من قلة قليلة فتعمل جاهدة على اقتصاص إيجار المنزل الشهري منها كي لا يصبحوا ذات يوم دون منزلٍ يستر لهم جوعهم وضجرهم واحتياجاتهم.
مساعدات
وفي صراع صلاح مع لقمة عيشه ونقمة قدره، ليس هناك من مورد آخر سوى مساعدات عينية من بعض الأصدقاء الذين ليسوا أحسن حالاً بكثير من حال صلاح، لكن أصدقاءه أيضاً يؤمنون بمقولة (الناس لبعضها).
من المنطقي سؤاله عن الخدمات التي تقدمها منظمة التحرير للعائلة، لكن صدمة الحقيقة قد أوجعت صلاح اكثر مما أوجعه بؤس حاله، فصلاح غير منتمٍ لمنظمة التحرير ولا اي تنظيم فلسطيني آخر. إذاً هل هو ممن لا يستحقون الحياة؟ وهل من ليس له موطئ قدم في التنظيمات والأحزاب السياسية يصبح محكوماً بالحياة في عدمية ليس كمثلها شيء؟
وفي سؤال عن امتناعه الالتحاق بأي تنظيم فكانت وجهة نظر صلاح "أنه في السابق كانت التنظيمات تقاتل من أجل القضية أما اليوم فهم يقاتلون أنفسهم" وغاب في صمتٍ عميقٍ يفتح الاحتمالات على أسئلة كثيرة وشائكة، فهل عاد جرح الستين الى الواجهة عبر حديثنا معه أم أنه أصلاً يعاني الجرحين جرح القضية وجرح المنفى بكل اشكال الحصار المحيطة به؟
لكنه يعاود الحديث "أنا لا ألوم منظمة التحرير، هي مغلوب على امرها ولا تستطيع ان تقدم اكثر من وعود، وبالسابق كانت تقدم الخدمات الصحية كتأمين الدواء واليوم لم يعد بمقدورها حتى تأمين الدواء كما السابق"، ويتابع حديثه "ليس انا الوحيد الذي يعاني من قلة العيش فهناك عائلات كثيرة غيري. ويعانون اكثر مني بكثير".
كم لفتني كبرياء هذا الرجل الذي مازال يملك القدرة على العيش في زمن اللاعيش واللاعدالة اجتماعية، أو ربما يبعث برسالة إلى جهة ما أو واقع ما أنه رغم ضيق الحال سيبقى مكافحاً للحفاظ على عائلته.
إنه بكل ما يعانيه من فقر وحرمان وقلق وبيئة لا تصلح للحياة، يبقى عليه أن يعيش مرغماً ومكرهاً ويقضي حياته صياداً هارباً منفياً ممنوعاً من الصرف والتصرف.
- التصنيف: