وما يدريكم؟!

منذ 2016-01-15

الآفة التي انتشرت مؤخرا في مجتمعنا مغلفةً بلذة خفية تخدع كثيرا ممن وقع فيها وتصرف بصره عن حقيقتها؛ إنها تلك اللذة التي تنتابك حين تعين نفسك حكَما على غيرك وتقرر أن تطلق الأحكام على هذا وذاك..

في موطأ الإمام مالك رحمه الله خبر عجيب عن رجلين عاشا في عهد رسول الله ﷺ وكانا متآخيين متصاحبين غير أن أحدهما كان أشد اجتهادا في الطاعة والعبادة من الآخر!
مات هذا المجتهد الطائع قبلَ صاحبِهِ بأربعينَ ليلةً فذُكِرَتْ فضيلةُ الأولِ مِنْهما عِندَ رسولِ اللهِ ﷺ فقال:
«ألمْ يكنِ الآخرُ مسلمًا؟»؛ قالوا: بَلى وكان لا بأسَ بهِ. (وفي هذا تلميح إلى ما نعرفه اليوم بأنه كان شخصا عاديا ليس فيه ما يميزه عن غيره)؛ فقال الرسولُ ﷺ: «ومايُدريكَ ما بَلغَتْ بهِ صلاتُه؟!؛ إنَّما مثلُ الصلاةِ كمثلِ نهرٍ عذبٍ يَمرُّ ببابِ أحدِكمْ يَقتحمُ فيهِ كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ فما ترونَ ذلكَ يُبقِى مِنْ درنِهِ فإنَّكمْ لا تَدرونَ مابلغَتْ بهِ صلاتُهُ».

تأمل مرة أخرى قول الرسولﷺ: «ومايُدريكَ ما بَلغَتْ بهِ صلاتُهُ»؛ هذه العبارة تلخص كثيرا مما أريد قوله وتكفي لعلاج تلك الآفة التي انتشرت مؤخرا في مجتمعنا مغلفةً بلذة خفية تخدع كثيرا ممن وقع فيها وتصرف بصره عن حقيقتها؛ إنها تلك اللذة التي تنتابك حين تعين نفسك حكَما على غيرك وتقرر أن تطلق الأحكام على هذا وذاك..

نعم للأسف؛ هذه هي الحقيقة المؤسفة التي يرفض كثير منا الاعتراف بها؛ تقييم الآخرين والحكم المستمر عليهم؛ له لذة خاصة بلا شك.. لذة العُلُو وتعاظم النفس؛ الآخرون دوما مخطئون ومقصرون بل فاسقون معتدون..

النتيجة المباشرة والسريعة التي تتبادر للأذهان تتلخص في جملة بسيطة؛ أنا - أعني قائل هذا - لست مخطئا ولا مقصرا مثلهم وبالطبع لست فاسدا أو فاسقا؛ أنا نموذج الصلاح وعنوان الهداية وعلامة التقوى وخزانة العلم ومفتاح الخير والبر.. حتى لو لم يصرح ناهش غيره للمستمع بهذه المعاني فيكفي أنه يشعره بها ويلقيها في روعه من خلال تلك المتلازمات:
هم عاصون؛ إذاً فأنا الطائع.
هم مبطلون؛ فأنا المحق
هم ناقصون؛ فأنا المكتمل
شعور ممتع هو… أليس كذلك؟!

المشكلة أنه مورث للإدمان؛ إدمان لهذا العلو القائم على رفات الآخرين الذين يشكل نقدهم الدائم والمستمر وقودا لبقاء هذا الشعور الذي أدمنه صاحبه وصار تجارته الرائجة وصار من ملوك سوقه؛ والمشكلة الأكبر أنه كأي مدمن طبيعي سيستزيد ويستزيد؛ وسيستكثر ويستمر في تناول وقود علوه من خلال التربص بالآخرين ونهشهم الدائم حتى ينسى في نهاية الأمر وجود مرآة تستحق أحيانا أن ينظر إليها ليُقيِّم أهم شخص ينبغي أن يقيِّمه ويحكم عليه…. نفسه!

ففي خضم عواصف النقد والنقض التي صار يتقلب بين رياحها سينسى تماما مراجعة نفسه ونقدها ولو بين الحين والآخر، أيضا تتسرب إليه بالتدريج آفة أخرى في منتهى الخطورة وهي التي يتعلق بها ذلك السؤال النبوي الذي صدرت به المقال. إنها آفة السطحية وضعف معايير التقييم سواء للنفس أو للغير.

تأمل مشهد تلك السيارة الفارهة ذات الطراز الفاخر وهي تقف في إشارة مرورية مزدحمة فيسارع إلى نافذتها الداكنة ذلك المتسول بالي الثياب رث الهيئة أشعث الرأس يمد يده ليسأل ذلك الرجل الذي تبدو عليه آثار النعمة: صدقة لله.
فيخرج الرجل الثري يدا ناعمة تزينها ساعة ثمينة من ماركة عالمية شهيرة ليضع في يد الفقير الخشنة ما جادت به نفسه؛ هذا المشهد في تناقضه الحاد يعطي مثالا واضحا لمدى التفاضل الدنيوي بين الناس؛
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} [الإسراء:21].

ذلك التفاضل الشديد والفروقات الاجتماعية والمادية الهائلة التي نشهدها في الدنيا؛ لا تعد شيئا يذكر من تفضيل الآخرة والمسافات الشاسعة بين درجاتها؛ لذا تأتي الجملة القرآنية بعدها لترسخ تلك الحقيقة؛ {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21].

وهنالك تكون فوارق أيضا ودرجات مختلفة ومتباعدة لكن لا علاقة لها بفوارق الدنيا المادية؛ ولربما تفاضل نفس الشخصين المذكورين في المثال فكان ما بينهما في الآخرة أشد تفاوتا؛ لكن التفاضل عندئذ لن يكون بالمال وعلو الدرجات لن يكون بالثراء والمنصب والجاه؛ هنالك ليس ثمة تفاضل إلا بالعمل والتماس مرضاة الله.

لكن أصحاب تلك الآفة التي أتحدث عنها لا يدركون هذا بل يقتصر تقييمهم المسطح على ذلك المشهد الظاهر وتلك التفاضلات الملحوظة أو المحسوسة؛ وينسون في خضم أمواج النقد والنقض والتفضيل والتقييم أن يتوقفوا هنيهة ليسألوا أنفسهم ذلك السؤال النبوي الجامع: وما يدريكم؟!

  • 0
  • 0
  • 2,200

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً