خطب مختارة - [15] أظلم الناس

منذ 2016-01-19

إنّه لا ظلم أعظم من الكذب على الله تعالى، وأعظمه الشرك بالله الذي قال الله عنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان:13]، فالمشرك كذب حين ساوى بين الله تعالى وبين ما يَعبد من مخلوقاته، وكذب حين صرف شيئًا من العبادة لغير الله سبحانه.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا ظلم النفس بالكفر والنفاق والمعاصي، والهجوا داعين بالثبات على الدين القويم، وحسن الخواتيم، ولا تأمنوا تقلب القلوب، والانحراف عن الحق؛ فإن قومًا أمنوا فهلكوا، وإن قومًا خافوا فسلموا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].

 عباد الله، الله حذرنا من الظلم، وحذرنا من عاقبته السيئة، وحديثنا في هذا اليوم عن أعظم هذا الظلم، وسننطلق في ذلك من خلال آيات القرآن الكريم.

أيها الإخوة، إنّه لا ظلم أعظم من الكذب على الله تعالى، وأعظمه الشرك بالله الذي قال الله عنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان:13]، فالمشرك كذب حين ساوى بين الله تعالى وبين ما يَعبد من مخلوقاته، وكذب حين صرف شيئًا من العبادة لغير الله سبحانه.قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين} [هود:18].

 وعاب الله تعالى على اليهود والنصارى ومشركي العرب عدم اتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وإقامتهم على كفرهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصَّف:7]. فأظلم الناس من يُكَذِّب بالحق بعد علمه به، ويرده ولا يقبله.

 وإن من أظلم الناس المفترين على الله الكذب من ادعى أنه أُوحي إليه، وهذا موجود عند كبار بعض الفرق الضالة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ} [الأنعام:93].

 وكثيرًا ما يكون هدف المفتري على الله كذبًا إضلال الناس عن الحق، وغمسهم في الباطل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144]، وبهذه الآية نعلم خطورة القول على الله تعالى بلا علم، كمن يسرعون إلى الفتوى وليسوا من أهلها، ومن يتكلمون فيما لا يحسنون من أمور الدين، ومن يَنسبون إلى الشرع ما ليس منه، ومن يسوقون أحاديث لا يعلمون صحتها، فكل أولئك على خطر عظيم، وخاصة مع هذه الوسائل الحديثة سريعة النشر.

وأضل منهم من علموا الحق، ولكنهم كتموه ولم ينطقوا به؛ لأنه يعارض مصالحهم الآنية الدنيوية، وفي هؤلاء قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ} [البقرة:140]. وأضل من هؤلاء وأظلم من لم يكتفوا بكتم الحق، بل راحوا يفترون على الله تعالى الكذب لحظوة عند البشر، ولمصالح دنيوية يحوطونها بدينهم، فيُحِلون المحرمات، ويسقطون الواجبات، ويُبَدِّلون كلام الله تعالى، ويُغيِّرون شريعَته؛ ليرضى عنهم البشر فيصفوهم بالتنوير والتيسير وفهم روح الشريعة ولبها، ونحو هذا الكلام المنمق الذي لا يغتر به إلا الضعفاء. أو يكتمون الحق، ويجادلون بالباطل، ويفترون على الله الكذب، ويضلون الناس؛ خدمة للإسلام بزعمهم ليرضى عنه الكفار ويقبلوه، وليثبتوا أنه يقرر الحرية بأثوابها الغربية، فلا يصفونه بأنه دين متشدد منغلق معارض للحريات، مهدر لحقوق الإنسان.

 ومن أولئك من ألغوا الجهاد في سبيل الله تعالى وما ينتج عنه من أسر الكفار وأحكام الأسير والرقيق والجزية، ومَن أسقطوا الحدود الشرعية كلَّها أو بعضها؛ ومن غيروا أحكام الله تعالى في الأسرة، والمرأة وساوَوْها بالرجل. كل أولئك هم ممن يفتري الكذب على الله ليضل الناس بغير علم، وما أكثر وقوع ذلك في الناس وهم لا يشعرون!

والمحرفون لكلام الله تعالى، المبدلون لشريعته، يسعون جهدهم لرد الناس عن الحق الذي أنزله الله تعالى؛ لأنّ عِلْم الناس بالحق يؤدي إلى فضيحتهم، وعدم نيلهم مرادهم من الدنيا الذي من أجله لعبوا بدين الله تعالى، وفي هؤلاء يقول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157]، فهم أعرضوا عن الحق لما لم يوافق أهواءهم، ثم صرفوا غيرهم عن هذا الحق بتزيين الباطل لهم. وإنك لترى مظاهر ذلك في هذا العصر جلية واضحة في كثير من النوازل، نسأل الله تعالى العصمة وحسن العاقبة.

إخوة الإسلام، ومن أعظم الظلم الحيلولة بين أهل الحق وبين أماكن عبادتهم التي يُظهرون فيها شعائر الله تعالى، أو هَدْمها وتخريبها، أو نشر الخوف فيها، كما يقع الآن في بلاد الشام من هدم النصيرية مساجدَ المسلمين وتخريبها وتمزيق المصاحف، وقتل المصلين فيها، وكما فعل المشركون من صدِّ النبي عليه الصلاة والسلام عن البيت الحرام عام الحديبية، وفي هذا النوع من الظلم يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}  [البقرة:114].

 ومن أشنع الظلم: الإعراضُ عن التذكرة؛ فيُذَكَّر العبد بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في واجب أخلَّ به، أو معصية وقع فيها، فيشيح بوجهه عن التذكير، ولا يرفع رأسًا بالتنـزيل، ويركب هواه، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22].    

 حَذارِ حَذارِ من الظلم كله، ومن أعظمه؛ فإنه لا عذر لظالم يوم القيامة: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [ الرُّوم:57]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

 الخطبة الثانية

 عباد الله: على المؤمن وهو يقرأ أو يسمع الآيات التي صُدِّرت بقول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} أو بقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ}؛ أن يقف عندها مليًّا فيتدبرها، وينتبه للأوصاف المذكورة عَقِبَها؛ لئلا يكون من أظلم الناس وهو لا يشعر.

 كم من الناس من يقولون على الله تعالى بلا علم فيفترون الكذب ويكونون من أظلم الناس؟!

وكم منهم من يردون شيئًا من أحكام الشريعة لأنه لم يوافق أهواءهم، ويدعون غيرهم للتمرد على هذه الأحكام كرفض الحسبة، أو ردّ أحكام الله تعالى في المرأة وحجابها وحشمتها وصيانتها ونحو ذلك، وهو كثير في الناس، ولا يظن من يفعلون ذلك أنهم بهذا يكونون من أظلم الناس؟!

وكم منهم من يوعظون بآيات الله تعالى ويذكّرون بها فيعرضون عنها ولا يتذكرون، ولا يظنون أنهم من أظلم الناس؟!

وكم منهم من يكتمون شيئًا من دين الله تعالى؛ تصنعًا للخلق، أو مكابرة في مناظرة، أو عزة في مجادلة، ولا يظنون أنهم من أظلم الناس؟!

وكم منهم من يقف حجر عثرة في مشروعات الخير، فيعطلها ويعرقلها، أو يخرِّبها ويلغيها، أو يصدُّ الناس عنها؛ لمصالح متوهمة، أو خوفًا من مفاسد مصطنعة، ولا يشعر هؤلاء أنهم بهذا الفعل يكونون من أظلم الناس.

عباد الله، وظلم الناس في حقوقهم أمره عظيم ولعله أن يفرد له حديث مستقل.

والعاقل يفرّ من الظلم كله صغيره وكبيره، فكيف بأعظم الظلم وأشنعه وأقبحه، ولا يقع الإنسان في ذلك إلا بسبب الجهل أو الهوى؛ فإن الجهل آفة العمل، وإن الهوى يعمي صاحبه عن الحق، نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى، ومن مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. أسأل الله لنا جميعا العفو والعافية في ديننا ودنيانا. اللهم أبعدنا عن الظلم صغيره وكبيره.

  • 94
  • 26
  • 19,169
المقال السابق
[14] أصحاب الأخدود
المقال التالي
[16] أعياد الكفار

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً