خطب مختارة - [26] الأخوة الإسلامية 1-2

منذ 2016-01-20

إن هناك رابطةً بين الناس هي أعظم رابطةٍ على وجه الأرض، وهي التي تبقى إذا ذهبت بقية الروابط والصلات، سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، إنها رابطة الأخوة في الله.

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن هناك رابطةً بين الناس هي أعظم رابطةٍ على وجه الأرض، وهي التي تبقى إذا ذهبت بقية الروابط والصلات، سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، إنها رابطة الأخوة في الله، وهي وإن كانت تبدأ في الدنيا فإنها تستمر في الآخرة بخلاف غيرها؛ كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف:67]. والأخوة في الله هي من أوثق عرى الإيمان، وقد أثبت الله رابطة الأخوة بين المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فهي رابطة عُقدت بعَقد الله لها. ويصف الله تعالى حال المؤمنين الصادقين بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. ومعنى أولياء بعض؛ أي: يحبونهم ويناصرونهم.

أيها الإخوة: ما أجمله من شعور، أن نشعر بأن كلَّ مُوحِّدٍ على وجه الأرض هو أخ لنا، له حقوق المسلم، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الأخوة الإيمانية بالجسد الواحد فقال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [صحيح مسلم:2586]، فرابطة الأخوة في الله هي فوقَ كلِّ الأخُوَّات الأخرى؛ فوق أخوة النسب والقبيلة والوطن وغيرها.

أيها المؤمنون: لقد دلت الأدلة الشرعية على عظيم فضل الأخوة في الله. فمن ذلك: أن الأخوة في الله هي طريقٌ لمحبة الله تعالى: فتحصيل محبة الله تعالى غايةُ قلوب الموحدين، وقد بينت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة أن محبة الله تعالى تتحصل بأمور من أهمها المحبة الإيمانية؛ بمحبة المؤمنين وحسن عشرتهم ومواساتهم وموالاتهم والتزاور بينهم. قصة عظيمة - جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» [صحيح مسلم:2657]. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» [الاستذكار:7/457].

ومن فضائل الأخوة في الله: أن المتآخين في الله في ظل الله تعالى؛ ويكفى المتاحبين والمتآخين في الله شرفًا وفضلًا أن يكونوا تحت عرش الله -يوم يخاف الناس وتكون الشمس منهم مقدار ميل: روى أبو هريرة  رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي» [صحيح مسلم:2566]. وعن أبي هريرة  رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.. -وذكر منهم-: وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» [ضعيف الجامع:3238].

ومن فضائل الأخوة في الله أنها طريقٌ لحلاوة الإيمان واستكمال عراه: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ» [سنن الترمذي:2521]. ويقول صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» [صحيح البخاري:16]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [صحيح البخاري:13].

عباد الله، إن الأخوة الإيمانية واجب ديني، وفريضة شرعية، وليست مجرد موقف نفسي أو تنظير فلسفي، بل هي مجموعةٌ من الأعمال تظهر إلى حَيِّزِ الوجود؛ تعبّر عن حقيقةِ هذه الأخوةِ، وما فيها من محبةٍ وموالاةٍ في الله، وذلك من صميم إيمان المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» [صحيح مسلم:54]. اللهم اجعلنا ممن يفشي السلام، وارزقنا محبة المؤمنين، وأكرمنا بالإيمان والجنة يا أكرم الأكرمين.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فإن الأخوة في الله مِنَّةٌ ينعم بها الله تعالى على عباده الصالحين، فتأْتَلِف قلوبُهم وتتوثق روابطُهم. وإن أولَ عملٍ قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلي المدينة -بعد بناء المسجد- هو مؤاخاتُه بين المهاجرين والأنصار، إذ بهذه المؤاخاة شُدَّتْ لَبِنَاتُ المجتمع الإسلامي إلى بعضها البعض، وارتفع صرحُ الجماعةِ الإسلامية عاليًا متينًا، فاستعصى على محاولات الهدم والتخريب التي سعى بها يهودُ المدينة وأعوانُهم من المنافقين والمرجفين، ولا عجب، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم معهم يسدد خطواتهم ويوجِّه أعمالَهم، والقرآن الكريم يبني بهذه المجموعة المباركة مجتمعَ القدوة ومنارة التأسي ليستضئ المسلمون من بعدهم بنورهم الساطع، ويقتفوا آثارهم الواضحة.

وفي زمان المادية الطاغية المعاصر الذي نعيشه - حيث يقاس المرء ويوقر بما لديه من أموال ونفوذ - ما أحوجنا في هذا الزمان إلى معنى الأخوة في الله! وما أعوزنا إلى أن نتحلى به وننشره بين المسلمين؛ حتى نجد حلاوة الإيمان، ونتذوق نعيم الأخوة الخالصة، فإن للأخوة الصادقة حلاوةً لا يعرفها إلاّ من عاشها، حلاوةٌ لا تدرك بمجرد العلم والمعرفة، وإنما بالتطبيق العملي، والذين عاشوا الأخوة في الله، وجدوا الطمأنينة والسلام في عالم يعاني من القلق والتوتر، وتيقنوا أن الأخ الحقيقي ليس بالضرورة أن تلده أمك، فرُزقوا بالعديد من الإخوان ينتشرون في بقاع الأرض، بعضهم رأوهم وعايشوهم، وبعضهم ربما لم يروهم وإنما سمعوا عنهم؛ تبادلوا معهم الحب الصافي والمودة الخالصة على تباعد المسافات.

إن الحضارة الغربية ساهمت في تفكيك علاقتنا بعد أن جزّأت بلاد المسلمين، ولعل من أكبر العوامل في بناء مجتمعاتنا وصياغة أخلاقنا على المنهج الإسلامي تَمَثُّلُ روحِ الأخوة في الله، ونشرها في كل مجتمعاتنا، ذلك أن أُوْلَى علامات العافية لهذه المجتمعات هو الشعور بالجسد الواحد، محبةً وفرحًا وألـمًا ونُصرة، والأخوة في الله كفيلة -بإذن الله- بإحداث النهضة الاجتماعية التي ننشدها، وعودة المجتمع الإسلامي إلى مفهوم الجسد الواحد، مجتمعًا تسوده المحبة والألفة؛ والصفاء والنقاء؛ والتعاون والتناصح.

فيا إخوة الإيمان: اتقوا الله حق التقوى، وتفقهوا في دينكم، وتزودوا إلى ربكم بالأعمال الصالحة التي تقربكم منه، ومن أعظمها تعميقُ رابطةِ الأخوة الإسلامية بينكم، وإذابة النـزعات الجاهلية والعصبيات القبلية والوطنية والقومية، واعلموا ما للأُخُوِّة من فضائل عظيمة وثمرات كثيرة في الدنيا والآخرة. اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح اللهم ذات بيننا، واهدنا سبل السلام. اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا من حبك.

  • 38
  • 16
  • 35,284
المقال السابق
[25] إنفلونزا الخنازير
المقال التالي
[27] الأخوة الإسلامية 2-2

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً