خطب مختارة - [47] الباب الذي لا يغلق؛ التوبة

منذ 2016-02-08

قد أمر الله عباده بالتوبة وهو غني عنهم، لا ينتفع بطاعة مطيع، ولا يتضرر بمعصية عاصي. وأمر بالتوبة لأن بني آدم خطاؤون مذنبون مسرفون على أنفسهم بالمعاصي، وخطؤهم بالليل والنهار. والله غفور رحيم، وهو سبحانه شديد العقاب.

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. وقد أمر الله عباده بالتوبة وهو غني عنهم، لا ينتفع بطاعة مطيع، ولا يتضرر بمعصية عاصي. وأمر بالتوبة لأن بني آدم خطاؤون مذنبون مسرفون على أنفسهم بالمعاصي، وخطؤهم بالليل والنهار. والله غفور رحيم، وهو سبحانه شديد العقاب.

والذنوب -عباد الله- سبب غضب الرب وسبب ظهور الفساد والخراب في المعيشة في البر والبحر؛ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم 41]، ويقول تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر:45]، يقول التابعي المفسر مجاهد: "إن البهائم لتلْعن عصاةَ بني آدم لمنعهم المطر بسببهم".

وباب التوبة هو باب المؤمنين الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، لأنه باب التطهير من الذنوب؛ فالتوبة تجب ما قبلها، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:8].

والتوبة بابُ تبديل السيئات إلى حسنات؛ يقول الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68-70]. والتوبة باب تطهير القلوب، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أذنب العبد ذنبا نكتت فيه نكتة سوداء، فإذا تاب وندم واستغفر صقل قلبه» [صحيح الترغيب: 3141].

والتوبة باب رضوان الله على العبد؛ لأن الله يحب التوابين؛ ويفرح بتوبة عبده، يقول صلى الله عليه وسلم: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ثم وجدها قائمة عند رأسه» [صحيح البخاري: 6309]. والتوبة باب الحياة الحسنة المطمئنة؛ يقول تعالى: {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود:3].

والتوبة والاستغفار الباب الذي يزول به الكرب والضيق، ويتحقق به الغنى والغيث والولد والزرع، يقـول الله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12].

والتوبة البابُ الموصلُ إلى الجنة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } [التحريم:8].

عباد الله، ولما للتوبة من أهمية في حياة المسلم فإن الله تعالى أمر بها في كتابه أمرًا واجبًا، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وأمر بها صلى الله عليه وسلم جميع الناس إذ يقول: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة أكثر من مائةِ مرة» [السلسلة الصحيحة: 1452].

اللهم اغفر لنا وتب علينا؛ اللهم اغفر لنا وتب علينا؛ اللهم اغفر لنا وتب علينا.

الخطبة الثانية:

يقول تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]. لقد فتح الله باب التوبة، ولا يُقفل إلا إذا قامت قيامة الإنسان الصغرى بموته، أو قامت القيامة الكبرى بطلوع الشمس من مغربها، يقول صلى الله عليه وسلم: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» [صحيح مسلم: 2703]، وقال: «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» [سنن الترمذي: 3537].

إخوة الإيمان، إنّ من علامات صدق التوبة والإنابة والرجوع الصادق إلى الله والاستسلام له تعالى؛ الامتثال لأمره والانتهاء بنهيه وتصديق كتابه ونبيه وتطبيق حكمه وشرعه.

ومن علامات التوبة النصوح اتباع الكتاب والسنة، فهما أحسنُ ما أَنزل الله، وهما حبلا الله المتين وصراطُه المستقيم، من تمسك بهما سَعُد، ومن أعرض عنهما شقي، وهما مصدرا الشريعة، وهما المخرج من الفتن، يقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53-55].

ومن علاماتها الإيمان، فلا تتحقق التوبة إلا بالإيمان، ولا تثمر إلا بالإيمان؛ لأن الإيمان إصلاح للظاهر وإصلاح للباطن، ولأنه الطريق لقفل أبواب المعاصي وفتح أبواب الطاعات.

ومن علاماتها العمل الصالح؛ لأنه وظيفة الدنيا وحسنة الآخرة، وخير زاد يتزود به العبد وخير لباس يتزين به العبد.

ومن علاماتها طلب الهداية بأسبابها؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، ويقول تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].

ومن علاماتها الاستمرار بالاستغفار؛ يقول صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا اغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم».

ومن علاماتها الندم على ما مضى من ذنوب، فإن الندم توبة.

ومن علاماتها إصلاح الحاضر بالإقلاع عن الذنب وتركه بالكلية ومفارقةِ مكانَه.

ومن علاماتها العزم على إصلاح المستقبل وألا يعود إلى الذنب مرة أخرى.

ومن علاماتها الإخلاص لله؛ فلا تكون التوبة إلا خوفًا من الله ورجاءً فيه.  

ومن علاماتها رد المظالم إلى أهلها؛ إن كان هناك تعدٍّ على أحد من الناس.

عباد الله، الواجب التعجيل بالتوبة؛ لأن الأجل مجهول، ولأن الأعمال بالخواتيم، ولأن مداواة المرض في الحال مطلوب؛ لأن بتأخيره ربما يَستعصي علاجُه.

اللهم إنا نسألك أن ترزقنا التوبة النصوح؛ اللهم أعنا على أنفسنا، اللهم أصلح منا السر والعلن. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا؛ وما أسررنا وما أعلنا؛ وما أنت أعلم به منا. اللهم اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، وتب علينا.

  • 24
  • 5
  • 14,724
المقال السابق
[46] الانتخابات البلدية ودورنا
المقال التالي
[48] البدعة وخطرها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً