مخيم الرشيدية.. حكِم على بعض سكانه بالأشغال الشاقة مدى الحياة
بيوت متلاصقة تمنع الهواء.. وحلم العودة معلّق حتى إشعار آخر .
حينما يوضع الفيتو على الجنسية، يصبح رأس المال بحده الأقصى مطبخا صغيرا ومرحاضا وغرفة لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أمتار. حيث لا نوافذ، لاشرفات ولاهواء، سوى رائحة الرطوبة التي تحتل أرجاء الغرفة، والسقف الذي يرشح المياه من الأعلى، يشكو من ضيق المكان، وغياب عنصري الحياة الرئيسيين؛ الهواء وضوء الشمس.
بيئة شبه البيت الموبوءة هذه، إن لم تؤذك، فإنها تضيِّق عليك التنفس لأنه ليس من مكان صحيّ آخر في بقعة جغرافية تعجّ فيها البيوت الملتصقة ببعضها وكأنها لعبة بازل (puzzle).
هذا هو نصيب عبد الكريم الأحمد وعائلته؛ رجل خمسيني تغزو جسده أمراض مزمنة، ومازال يصارع حياة البؤس والجوع والتهجير.
هو ابن مخيم الرشيدية في مدينة صور، له زوجة وخمس بنات أكبرهن في الرابعة والعشرين من عمرها وأصغرهن في الخامسة.
"ناطور"
عبد الكريم يعمل "ناطور" بناية منذ ستة عشر عاماً بأجر زهيد يساوي مئتي ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل مائة وثلاثة وثلاثين دولاراً أمريكياً، ولأن هذا المبلغ لا يكفي بحال أسرة كبيرة كهذه، كان لا بد للزوجة من إيجاد عمل آخر ألا وهو تنظيف البيوت. ومع هذه الأشغال الشاقة قد يصل معدل دخلهما الشهري الى أربع مائة ألف ليرة لبنانية اي ما تساوي قيمته مائتين وستة وستين دولارا أمريكياً.
وفي حوار أجريته معه سألته كيف يمكّن نفسه وعائلته من العيش في مكان
قاتل وبدخل جد متدن كهذا؟
يجيبني الرجل واصفاً مرارة عيشه الكريه:
"في الحقيقة ودونما أي مبالغة، أنا حالة من حالات الشعب الفلسطيني
الذي يعاني من البطالة، والتمييز العنصري بكافة أشكاله. ونقيم كلنا في
هذه الغرفة، حيث يومياتنا الروتينية القاتل.، في الصباح أدير شؤون
البناية وأنجز المهام المطلوبه مني. وعند الظهيرة تصل الفتيات من
مدارسهن فنتناول الغداء وأساعدهن في دروسهن، ومن ثم نجتمع كلنا
لمشاهدة البرامج التلفزيونية، بعدها نخلد للنوم، والصباح التالي لا
يختلف عما سبقه".
لفتتني لغة الرجل خلال حديثي معه، إنها تنم عن خلفية مغايرة لخلفيات الأميين، فسألته إن كان متعلماً ام لا، فأجابني بأنه حائز على شهادة بكالوريا في العام 1977، وبعد ذلك تعلم مفتش صحة في سبلين التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وتخرج منها في العام 1981 لكنه لم يعمل في اختصاصه.
سألته عن السبب؟ قال: "لأنني فلسطيني وإثر عمليات التمييز العنصري الممارس في لبنان ضد الشعب الفلسطيني الذي أخذ يهرب من مكان إلى آخر، ليس باستطاعة المتعلمين أن يعملوا فيما يتناسب مع اختصاصاتهم وتوجهاتهم".
عائلته
لم تكن معالم الألم غائبة عن معالمه، فهو محبط لما يعترض طريقه وطريق بناته من تمييزٍ يرتكز على الهوية الفلسطينية.
تخرّجت ابنته الكبرى من سبلين ودرست (مختبر) وللأسف الشديد أصبح حالها حال والدها، لم تُوفّق في أي عمل في مجال دراستها، فآثرت الالتحاق بالجامعة، وكبح معاناتها بالاهتمامات العلميه.
ما يعني بطبيعة الحال أن الآمال التي بناها الرجل على تخرج ابنته وتلقي مساعدتها ذهبت سدىً، ليتولى هو دفع نفقاتها الجامعية كاملة.
لم تتوقف مصاريفه على دفع النفقات الجامعية فحسب، ابنته الصغرى ايضاً تحتاج لتسديد تكاليف الروضة التي تعادل نصف المدخول الشهري للوالدين.
لم يخف الوالد حقيقة أنه يدفع ما تيسر له دفعه وإدارة الروضة تعفيه من
الباقي. أما أجرة نقل الفتيات إلى مدارسهن فهي إجبارية، وقيمتها مائة
ألف ليرة لبنانية أي ما يعادل ستين دولاراً أمريكياً. وخلاصة القول إن
مجموع ما يجنيه الزوجان لا يكفي الحد الأدنى لحياة رجل وامرأة وحدهما،
فكيف إذا كانت العائلة سبعة اشخاص؟
والمعلوم أن فتيات في عمر المراهقة لهن احتياجاتهن الخاصة، أي أن عائلة بهذا الحجم كما يقول الرجل تحتاج إلى سبعمائة دولار أمريكي شهرياً لتعيش بالحد الأدنى.
وواقع الحال أن الفتيات محرومات حتى من مصروفهن اليومي، وعبد الكريم بالكاد يستطيع أن يعطي إحداهن خمسمائة ليرة، أي أقل من نصف دولار أمريكي وهذا طبعاً لا يكون بشكل يومي.
وهو يعترف بأنه مقصر مادياً تجاههن ولكن ما ذا يفعل؟
ويقول لي بتجرد: "ها أنا أمامك، نموذجاً عن الواقع المقرف الذي يعشه فلسطينيو المخيمات. ومدخولنا لا يكفينا، لذلك نحن نبدأ بالاقتراض من بداية الشهر، لأن الدخل لا يكفي حتى للطعام. وفيما يتعلق باللباس فالحقيقة أني لا أشتري لأحد، أقولها بخجل تام نحن نحصل على الثياب من الناس".
ليس خفياً في نظره أن أوضاع الفلسطينيين الصعبة المجبولة على التمييز والفقر والحرمان والمعاناة والكبت، تخلق الكثير من المشاكل في إطار العائلة الواحدة، لأنه كثيراً ما يعاني من تذمر الفتيات.
آلمتني جملته: "أشعر كأن سكيناً يمزق لي صدري حينما تطلب مني إحدى البنات طلبا وأعجز عن تلبيته، والأكثر وجعاً هو الدمع في عيني الصغرى، حينما تسألني باكية لماذا والد صديقتي اشترى لها الشيئ الفلاني وأنت لم تفعل؟".
تحت خط الفقر
كل هذا التردي والقول عاجز عن البوح بكل التفاصيل لأن الوضع المقيت المعزول يولّد الكبت والملل، إذ لا وسيلة لديه لأخذ العائلة في فسحة ما، ها هو فصل الصيف ولم يتمكن من أخذ عائلته الى أي مكان حتى البحر، ويقول إن البحر لكل الناس لكنه لا يملك أجرة النقل. والمسكينات لا وسيلة لهن سوى التلفاز حينما تكون الكهرباء متوفرة، فهن لا يزرن صديقاتهن لأن الخروج من المنزل يحتاج إلى ما لا يقل عن خمسة دولارات، وبالكاد تحصل إحداهن على نصف دولار يومياً. وبمعزل عن المصروف اليومي ألا يحتجن لأن يخرجن بثياب جيدة المظهر؟ إنهن فتيات شابات، ولا يحصلن على الحد الأدنى من الحياة الكريمه.
إنها عائلة تعيش تحت خط الفقر بآلاف الأميال. وما يزيد الأمر تعقيداً أنه حينما تذهب الزوجه للعمل، يقوم هو نفسه بالأعمال المنزلية عنها من طبخ وغسل، وتنظيف لأن الفتيات في المدارس ويجب أن يقوم أحدهما بالطبخ.
لم يتذمر عبد الكريم من هذا الأمر معتبراً أنه واجبة عليه مساعدة زوجته التي تعمل وتكد وتنظف بيوت الناس من أجل أن تحافظ على العائلة، غير أن وضعه الصحي جد سيئ.
فعبد الكريم يعاني من كسر مزمن في عموده الفقري ومفصل الخاصرة يحتاج إلى عملية تغيير، والرجل يعيش على الدواء والمسكنات. فعلاجه مكلف جداً، أحياناً يستطيع أن يحصل على مساعدة من قريب أو صديق وأحياناً لا يستطيع تأمينه، ومن يستطيع القول إن الفلسطيني يُعالج على نفقة الأنروا، فليبشر بأن دواء عبد الكريم غير متوفر في الأنروا. ويخبرني أن هناك سياسة تقليص خدمات تمارسها الأنروا على أبناء المخيمات رغم أنها وجدت لمساعدة وإغاثة الشعب الفلسطيني لحين العودة. العملية ضرورية وتبلغ تكلفتها تسعة آلاف دولار أمريكي، والرجل ليس في جيبه دولار واحد، أما منظمة التحرير الفلسطينية فلا تساعده إلا بألفي دولار فقط، ما يعني أنه لن يتمكن من إجراء عمليته قطعياً.
سألته عما إذا كان وضعه الصحي يؤثر على عمله، فأخبرني بأنه يجب أن
يستخدم العكاز ولكنها تعيق حركته، كما أن الأطباء منعوه من حمل
الأوزان الثقيلة، لكنه يصر على أن يعمل ما استطاع ليطعم بناته الخمس،
على أمل أن يكبرن ويساعدنه على مشقة حياته البائسة، وأضعف الإيمان
يساعدنه في تغطية نفقات العملية، لكن كم من الأعوام على هذا الرجل ان
ينتظر ليتمكن من تغيير مفصله؟؟
هو لا يريد أن يكون مليونيراً على حد تعبيره، يريد فقط أن يحيا بكرامة الإنسان، ويشعر بأبوته الحقيقية، ليتمكن من تلبية احتياجات زوجته وبناته ولو مرة واحدة قبل وفاته.
وعلى صعيد الشأن العام يتمنى عبد الكريم لو ينظر العالم كله إلى واقع فلسطينيي المخيمات المرير، قائلاً: "نحن شعب نستحق الحياة، وما نحن عليه اليوم ليس بحياة أبداً".
وبالرغم من بؤسه لم يفقد قوة الإيمان بمستقبل فتياته الخمس؛ فكلهن متفوقات وحائزات على شهادات تقدير في صفوفهن.
أما السؤال الأخير فهو بيد كل قارئ، هل على عبد الكريم الأحمد أن يعمل بأشغاله الشاقة المؤبدة ست عشرة سنة إضافية، وهيهات أن يؤمن طعام العائلة فقط.
- التصنيف: