زحفٌ غير مقدس!
مع الانحسار الحضاري لأمتنا، أصبحت أمة "اقرأ"، وأمة "استعمار الأرض"، وأمة "الاستخلاف"، أمة مستوردة، وليتها حين استوردت أعادت تصحيح المستورد الفكري بما يناسبها، ويتوافق مع دينها وثقافتها؛ بل أخذته على علاته، ثم لم تحسن تطبيقه، فتسرب لها الخلل من طريقين هما: خطأ الاستيراد الكامل، وخطأ التطبيق الناقص، وسنظل في متاهات هذين المسارين من الخطأ وما يترتب عليهما؛ مالم تنتشل الأمة نفسها من وهدة التخلف، وعار التبعية، وخور الهوان.
سيظل الشأن السياسي مجالًا رحبًا على صعيد التنظير، والتطبيق، والتحليل، والاستشراف، ولذا تكثر حوله الكتب، والدراسات والمداولات، ولا عجب في ذلك؛ لأن دين الناس ودنياهم ومصالحهم ترتبط بهذا الشأن ارتباطًا أصيلًا، وعليه فما أعظم جرم من يدعو لهجرانه كلية، وما أعظم جناية من يدخله دون علم، وتجربة، ومعرفة عميقة بالواقع والتاريخ.
ومع الانحسار الحضاري لأمتنا، أصبحت أمة "اقرأ"، وأمة "استعمار الأرض"، وأمة "الاستخلاف"، أمة مستوردة، وليتها حين استوردت أعادت تصحيح المستورد الفكري بما يناسبها، ويتوافق مع دينها وثقافتها؛ بل أخذته على علاته، ثم لم تحسن تطبيقه، فتسرب لها الخلل من طريقين هما: خطأ الاستيراد الكامل، وخطأ التطبيق الناقص، وسنظل في متاهات هذين المسارين من الخطأ وما يترتب عليهما؛ مالم تنتشل الأمة نفسها من وهدة التخلف، وعار التبعية، وخور الهوان.
وبين يدي كتاب مختلف، عنوانه: الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدِّين، تأليف د.سيف الدين عبد الفتاح، صدرت طبعته الأولى عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في عام (2016م)، ويقع في (176) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون الكتاب من أربعة فصول، ورابعها أطولها، ثم خاتمة، يتلوها قائمة بالمراجع.
عنوان الفصل الأول: مقدمات في المنهج: بين اللياقة المنهجية وفاعلية المنهج، حيث اعترف المؤلف بالصعوبة التي واجهها في هذا البحث الذي كلِّف به عن المواطنة، ومع أنه تلقى نصائح ببحثه من منظور علماني، أو بالنظر لوضع الأقباط، بينما حثه آخرون على جعله عن الهوية الوطنية، والإفادة من الدستور وتقارير التنمية البشرية، مع تكرار التأكيدات باستخدام مناهج بحثية معتادة، والاتكاء على مصادر بعينها، إلا أن الباحث قرر تجاوز هذه "النصائح"؛ لأنه وجد الفائدة منها قليلة وكليلة، وكفى بالقلة والكلالة مسوغًا للبحث عن طريق آخر.
ولأن بحثه متداخل مع ثلاث كلمات هي الدولة، والدين، والمواطنة، والعلاقات بينها فيه قدر من التداخل والتعقيد، مما يعسر مهمة الباحث في الجلاء والبيان، لدرجة ضعف استجابة البحث لمناهج الدرس والتحليل، وعليه بدا للكاتب حتمية قراءة المجتمع كنص، ويشمل هذا النص: الإدراكات، والمفاهيم، والخطابات، والسياسات، والمؤسسات، وأخيرًا شبكة العلاقات.
ويمكن قراءة النص المجتمعي بما تعكسه مصادر غير تقليدية، ومواد ذات معلومات مختلفة، تغلب عليها فكرة اللقطات، من خلال حادثة قد تبدو فردية؛ بيد أنها بالنظر العميق، والتحليل الدقيق، يتبين أنها وإن لم تمثل ظاهرة فهي تؤشر عليها، وتجتمع هذه اللقطات لتصير كالبؤرة المجمعة للصورة تلو الصورة، ويرى الباحث أن الانطلاق من هذه الصور أجدى من الانسياق خلف الرطانة البحثية المعتادة؛ التي ربما تستر الحقائق ولا تكشفها!
ولتوضيح فكرة "اللقطات" نقل عن تيموثي ميتشيل في كتابه المهم"استعمار مصر" فكرة المعرض التي يستكشف من خلالها مناهج النظام والحقيقة، كما لو كانت معروضة أمام مراقب بصير، حيث أن المفاهيم تبنى على الأرض، وهي أصدق مما يكتب أو يقال.
ثم عرج د.سيف الدين على خطاب السلطة ونصوصها، ورأى أنه خطاب لا يهدف إلى الوضوح، بل يسعى للتعتيم باستخدام صيغ لغوية تقطع الطريق على أي محاجة أو معارضة منطقية؛ لأن غاية هذا الخطاب ليس الإقناع بل الإذعان والخضوع؛ فخطاب السلطة نهائي، ولا يحتاج إلى تعليق، وسلطة هذا شأنها تكون مؤسسة على السكوت لا على الحوار؛ وإن جعجعت به.
ونجم عن ذلك حضور طاغ للسلطان في كل محفل، حيث يمنح الإذن بالكلام أويمنعه، وغدا واجبًا على المواطن أن يفكر بالطريقة التي يريدها القائد، وأن يستبق أفكاره استجلابًا لمرضاته، وضمن هذا الإطار صار "التمثيل" مطلوبًا من المواطن، وملخصه أداء علني يرضي القيادة، مما أفرز خطابًا مستترًا بعيدًا عن خشبة المسرح، وأي خطاب شارخ فهو خروج على النص، وفي هذا السياق أحال المؤلف لكتاب أثنى عليه عنوانه" المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم" لجيمس سكوت.
وفي ختام هذا الفصل قرر د.عبدالفتاح أن هذه الأمور التي تعرض لها مهمة للغاية؛ حينما ندرس خطاب السلطة والمجتمع كنص كاشف لموضوع المواطنة، وهذا المفهوم يحتاج إلى منظومة مبادئ وأدوات تضمن تحقيقه على أرض الواقع، كي تكون بنيته قوية متماسكة خالية من الثغرات والضعف، وأشار لكتاب مهم حزين العنوان لمؤلفه ناصيف نصار: "متى يصير الفرد في الدول العربية مواطنًا؟".
وأما الفصل الثاني فعنوانه: مفهوم الدين قبل الزحف: رؤية حول مفهوم الدين الشامل، ويستهله المؤلف بالتنبيه إلى أن تصور محاولة الدولة احتكار الدين لايمكن أن تفهم إلا بعد وضع الدين في إطاره الصحيح، الذي يشمل شبكة من المقاصد الكلية الكبرى، شاملة الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
وعليه فمعنى الدين واسع جدًا، فهو انطلاق في الحياة والسلوك دون أن يقتصر على أفعال محددة أو كلمات مرددة، وبالتالي يتطور معنى صلاح الإنسان ليكون بمقدار إصلاحه في أي مجال، ويتبين أن المنزوي في جنبات المسجد دون أن يتعاطى مع شؤون الحياة قد وافق العلمانية في إقصائها الدين عن الفعاليات والنشاطات، ففي الفهم الصحيح للدين تكون الأرض كلها مسجدًا وطهورًا ومجالًا للحراك النافع، والإصلاح المنظم، والعمل الدؤوب المتقن.
وينتهي المؤلف الذي كتب عدة أبحاث تربط بين مقاصد الشريعة والسياسة وفقه الواقع، انتهى في هذا الفصل إلى أن تحجيم الفاعلية الدينية، أو تهميشها، أو تلوينها، أو اختصارها، أو حتى حرقها والاستيلاء عليها، إنما هو تحريك لدوائر الحياة من سلطان الدين إلى دين السلطان، وهذا التحريك هو عين التحريف والتبديل.
ويحمل الفصل الثالث عنوان: مفهوم الدولة والبحث في المواطنة المصرية، وتعد "السيادة" أهم مميزات الدولة القوية، ويرى المؤلف بأن نشأة الدولة العربية الحديثة كانت نشأة مستوردة مشوهة أحدثت انفصالًا بين الحكومة والمجتمع، وغدت الدولة كالحابس وليس الحارس، واستهدفت الفاعلية المجتمعية للسيطرة عليها، وتقليص مساحاتها.
ويعني مفهوم السيادة بأن سلطة الدولة سلطة عليا لا يوازيها أو يفوقها سلطة بشرية أخرى، وهي سلطة أصيلة تستمد منها الهيئات الإدارية سلطاتها، وهي سلطة واحدة غير قابلة للتجزئة، وتعدد السلطات إنما هو تعدد في الاختصاصات فقط، وهي سلطة آمرة تفرض إرادتها على الغير.
وللسيادة مظهران داخلي وخارجي، وقد أسرفت بعض الحكومات في شأنها الداخلي إلى درجة أصبحت معها الدولة "متألهة" تنازع فيما ليس لها من حقوق الإله سبحانه، وفي مقابل هذا الإفراط يلاحظ المتابع تفريطًا في السيادة الخارجية حتى أصبحت الدولة مجالًا منتهكًا لقوى عظمى خارجية؛ مما أوقع المواطن في عسرين: دولة مستأسدة داخليًا، ودولة مستباحة خارجيًا!
ونبه المؤلف إلى ضرورة التفريق بين السلطة وممارسيها، فالسلطة مجردة ومستقلة ودائمة؛ خلافًا للممارسين الذين يفترض فيهم أنهم أدوات عرضية مؤقتة، وبالتالي فالسيادة في الاختيار والمراقبة للأمة وليس لأشخاص السلطة، تمامًا كما أن سيادة التشريع حصرية للإله سبحانه، وكل تنظيم بشري يجب أن يخضع لأحكام الدين، ومقاصده العظام.
ويرى الكاتب بأن الخطاب السياسي يغتصب الحديث باسم الأمة، ويتحدث عما ترضاه أو مالا ترضاه، وزحفت الدولة على المجالات والفضاءات، متمسكة بالغنم، متخلية عن الغرم، وصدعت بالسيادة والسلطة في عنفوان وبطش واستبداد حين يتعلق الأمر بالداخل، وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بينما تترك السيادة نهبًا مستباحًا حينما يتعلق الأمر بالقوى الخارجية، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وصارت الدولة بالنسبة للمواطن كالتنين، ولا يستطيع المسكين الخروج عن سيطرتها، وهي قادرة على رده إليها طوعًا أو كرهًا، وغدا الإنسان بجميع أحواله واقعًا في إطار رقابة السلطة؛ هذه الرقابة التي تمارسها الدولة في أقصى درجاتها تجاه المواطنين، وبالمقابل فرقابة المواطن عليها محض خيال، ومساءلتها أشبه بالمستحيل! وأصبحت الدولة "متغولة" بدلًا من أن تكون متغلغلة فقط.
وأدى هذا التغول إلى احتكار مفهوم المواطن الصالح، وإخراجه بصورة من المواصفات والشروط ذات الصبغة الأمنية، ومما يزيد أسى الإنسان أن هذه الشدة تجاه الداخل يقابلها رخاوة تجاه الخارج أشبه بالانبطاح التام، وزادت أحداث سبتمبر من تهيئة البيئة لمزيد استباحة وانبطاح، حتى نافس الخارج الدولة ونازعها احتكارها لتفسير الدين، وبتنا نسمع عن مواصفات أمريكية لما تراه الصحيح من دين رب الأرض والسماء!! وصيرت هذه المنازعة المواطن في حال ممزقة بين استبدادين، وأصبحت تبعيته مركبة، وأضحى الدين الحنيف مجالًا للزحف من الداخل والخارج.
ونجم عن هذا التدخل الخارجي تآكل مفهوم الشرعية للنظام الداخلي، الذي كان يقاس بمدى الرضا العام عنه، ثم انتقل ليقاس بالاستقرار السياسي ضمن الرضوخ للواقع، وتطور بعد ذلك حسب المتغيرات الدولية، وصياغات ما بعد سبتمبر، وصار مفهوم الشرعية أسيرًا لاعتبارات خارجية، ولم يلق بالًا للمحكومين؛ حين أصبح البيت الأبيض قبلة الشرعية، وما رافقه من هوس للحصول على أي شهادة تزكية أمريكية لنظام أو لزعيم، وغدا هذا الهوس هزلياً في مسيرة البحث عن إعلان أمريكي يعزز الشرعية!
عنوان الفصل الرابع هو: مفهوم الزحف على الدين وتأميمه (الزحف غير المقدس)، حيث زحفت الدولة على ذات المساحات التي يعنى بها الدين، وهي مساحات تشمل كل شؤون الحياة انطلاقًا من المقاصد المرعية، وباتت الدولة تستولي عليها مساحة إثر مساحة حذار تمكن الدين منها، وسيطرته على توجيه الفعاليات، ومن ثم تمكنه من السلطة والسيادة، فأصبح المواطن أسيرًا لاستبداد الدولة، وأصبح الدين محاصرًا في الزاوية التي ترضاها الدولة فقط!
ولتحقيق ذلك هاجمت الدولة "تسييس" الدين، وأنذرت كل أحد من مغبة توظيف الدين، وحين شعرت بنجاحها في هذا المنع، زحفت على هذه المساحة مستخدمة "تسييس" الدين من أوسع أبوابه؛ فاغتصبت مفهوم صحيح الدين لها دون أي أحد، واحتكرت مفهوم تطبيقه لها، فكأن "التسييس" حرام على غيرها، حلال لها كيفما فهمت الدين، وكيفما طبقته!
ومن ضمن سياسات منع الآخرين من "التسييس" فقد حظرت الأحزاب الدينية، وعدت أي نشاط لها جريمة تستحق المساءلة؛ مهما بلغت جماهيرية هذا الحزب أو تلك الجماعة، وبالمقابل حركت الدولة الرموز العلمانية لمهاجمة تسييس الدين أو تديين السياسة، ومن المفارقات سكوت هذه "النخب" عن استخدام الدولة للدين "بالقطعة"؛ حينما يخدم مصالحها!
واستمرت الدولة في زحفها غير المقدس؛ حيث سحبت المزيد من مساحات الدين إلى الدنيا تحت ذريعة أنتم أعلم بأمور دنياكم، ثم استولت على البقية الباقية من الدين بحجة التنظيم والترتيب، ومنع تسييس الدين، في عملية صياغة متغيرة لدين السلطان؛ مما تسبب في تآكل سلطة الدين، والعبث به وبالناس معًا.
ثم أسهب المؤلف في ذكر الأمثلة واللقطات من واقع الحياة في مصر، وهي تعزز الفكرة التي بنى عليها كتابه، وعبر عنها العنوان بوضوح وصرامة، وحشد لذلك نفسه ليوضح للقارئ في بحث غير مسبوق كيف تزحف الدولة على حياة الناس ومصالحهم من خلال زحفها على الدين، وعلى مفاهيمه وتطبيقاته، من خلال سياسات وإجراءات وتنظيمات وقوانين، مع محاولات المواطنين للتفلت والالتفات على "كمائن" الدولة؛ من باب الاعتراض الفعلي عليها.
وعرج د.سيف على مواضع حزينة أليمة حول الفقر، والسكان، والتعليم، والتشرد، والإكراه، والتسلط، واتهام المواطن، حتى غدا مواطنًا متهمًا، مملوكًا، مسحوقًا، منتهك الإنسانية والحقوق؛ حتى لو أدخلته الحكومة في مسرحية"الحوار الوطني"، و مسلسل"الانتخابات النيابية"، والمشتكى لله القوي الكبير المتعال.
والحقيقة التي ينبغي التنبيه إليها هي أن المسلمين في قرونهم المتأخرة، فقدوا النموذج الذي كانت عليه دولة النبوة والخلافة الراشدة، ولم يبقوا على طريقة ملك بني أمية والعباس-على الأقل-، وفشلوا في نقل النموذج الغربي؛ لأنه انطلق من ثقافة ومقدمات وأوضاع قد لاتناسب أمة لها حضارة عريقة، وتطبيقات راشدة، ودين قويم، وكتاب مقدس غير محرف، وسيرة نبوية وراشدية دالة لمن رام الهدى؛ وقليل ماهم!
- التصنيف:
- المصدر: