وهن الانقياد
ولئن كان التسليمُ المطلَق لأوامر الشريعة، وتعظيمُ أمر الله ورسوله ونهيِهما من أوّلِ هذه المحفزات والدعائم؛ فإن هذا أيضاً محفوف بما قد يشوّش عليه ويكدّره، ومِن أجمل العبارات التي استوقفتني في التعبير عن هذه المشوّشات قول أبي إسماعيل الهروي رحمه الله صاحب (المنازل) -في سياق حديثه عن تعظيمِ الأمرِ والنهيِ-: "هو ألا يُعَارَضَا بترخّصٍ جافٍ، ولا يُعرَّضا لتشديدٍ غالٍ، ولا يُحْمَلا على علةٍ توهنُ الانقيادَ" [مدارج السالكين (2/464)].
السيرُ إلى الله تعالى طريقُه طويلةٌ لاحِبَة [1] ولكونها تُقطع بالقلوب لا بالأقدام فقد تكاثرت كلمات الأئمة الأعلام في بيان المحفزات التي تُعين على سلوك هذا الطريق والانتظام فيه، والتحذير من العقبات التي تعترض سالكَه، أو توْهِن سيرَه فيه.
ولئن كان التسليمُ المطلَق لأوامر الشريعة، وتعظيمُ أمر الله ورسوله ونهيِهما من أوّلِ هذه المحفزات والدعائم؛ فإن هذا أيضاً محفوف بما قد يشوّش عليه ويكدّره، ومِن أجمل العبارات التي استوقفتني في التعبير عن هذه المشوّشات قول أبي إسماعيل الهروي رحمه الله صاحب (المنازل) ـ في سياق حديثه عن تعظيمِ الأمرِ والنهيِ ـ: "هو ألا يُعَارَضَا بترخّصٍ جافٍ، ولا يُعرَّضا لتشديدٍ غالٍ، ولا يُحْمَلا على علةٍ توهنُ الانقيادَ" [مدارج السالكين (2/464)].
ولا أخفيك ـ أخي القارئ ـ أنني بقيتُ فترةً طويلةً أتأمل كلمتَه الأخيرة: "ولا يُحْمَلا على علةٍ توهنُ الانقيادَ"! وطفقتُ أتأمل فيها، وفي آثارها، ومرّت أمام ناظريَّ قصةٌ طويلةٌ كَلَّ فيها عزمُ الانقياد عند أشخاص، ولاحتْ في أقوالٍ ومواقفَ مختلفة في الغابرين والمعاصرين، كشف لي عن سرّ ذلك الوهنِ تعليقٌ متين لابن القيّم على هذه الجملة المحكمة من كلام أبي إسماعيل حيث يقول: "وقوله: ولا يحملا على علة توهن الانقياد، يريد: أن لا يُتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال، كما تأول بعضُهم تحريمَ الخمر بأنه معلَّل بإيقاع العداوة والبغضاء، والتعرض للفساد؛ فإذا أُمِن من هذا المحذور منه جاز شربه...، وقد بلغَ هذا بأقوامٍ إلى الانسلاخ من الدين جملةً!
ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلّل الحكم بعلة ضعيفة، لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر، فيضعف انقياد العبدِ إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم؛ ولهذا كانت طريقة القوم ـ يعني السلف الصالح ـ عدمُ التعرض لعلل التكاليف خشيةَ هذا المحذور.
وأيضًا فإنه إذا لم يمتثل الأمرَ حتى تظهر له علّتُه؛ لم يكن منقادًا للأمر! وأقل درجاته: أن يضعف انقياده له...، وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثيرٍ من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يَدري ما أوهنت العللُ الفاسدة من الانقياد إلا الله! فكم عطّلت لله من أمر! وأباحت من نهي! وحرّمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمةُ السلف على ذمّها" [مدارج السالكين (2/467)].
وحاصل كلامه رحمه الله يوضّح أن الوهن في الانقياد لأمر الله ورسوله يعتري السائرَ إذا وقع في أمور، منها: أن يتأول في الأمر والنهي علّة تعود عليهما بالإبطال، وأن يعلّل الحكم بعلة ضعيفة، لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر، أو أنه لا يمتثل الأمرَ حتى تظهر له العلة، ثم لخّص نتيجة هذه المحاذير بأن مآلها في كثير من الأحيان إلى الانسلاخ من الدين! ولهذا كان كثيرٌ من السلف يتحاشى تكلّف علل التشريع، خشيةَ القول على الله بغير علم، وحذراً من برودة القلب تجاه الأمر والنهي إذا وافق العلل الضعيفة التي ارتضاها ذلك الشخص.
إن المتأمل في الساحةِ العلميةِ والفكرية ليجد ما حكاه ابن القيم رأيَ العين؛ إذْ برز أقوامٌ تعاملوا في بدايات بحثهم مع النصوص وعللِها بتأويلات باردة، وتكلّفات ظنيّة لا يُقصَدُ منها تلمّسُ مراد الله ورسوله، فأوصلهم ذلك النظر ـ المشوب بالهوى -إلى أحد أمرين: إما تأولٌ في ترك الامتثال، أو تركه بالكلية؛ فوهنَ انقيادُهم، وضعفتْ عزائمهم، ومنهم من نكص على عقبيه ـ نعوذ بالله من الحور بعد الكور-.
وهل وقعت البدعُ، وسُلخت النصوصُ من بهاء الاتباع، وجلالةِ التسليمِ إلا بمثل هذه التأويلات؟!
ولله درّ الشاطبي حين قال: "فالمبتدعُ من هذه الأمة إنما ضلَّ في أدلتها حيث أخَذَها مأخذ الهوى والشهوة، لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله، وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره، لأن المبتدع جعل الهوى أوّل مطالبه، وأخذ الأدلة بالتَّبَع...، بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه، وأخّر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع" [الاعتصام (1/ 234)].
إن هذا المقام -أعني مقام التسليم- لا تصلح معه التأويلاتُ الباردة، ولا التعليلات التي تُوهن الانقياد، وتُضعف عزم المبادرة، بل لا يصلح معها إلا قلوبٌ قوية العزم في تلقّي الأمر والنهي، وتقول بلسان يغترف من القلب ما قاله ذلك الصحابي الجليل ـ وهو يتلقى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء محبوب له ـ: "نهانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ كان لنا نافعًا، وطواعيةُ الله ورسوله أنفع لنا" [مسلم ح(1548)].
وتتأكد الوصيةُ بهذا الأمر في عصرٍ انفتح الناسُ فيه على مقالاتِ وكتبِ أقوامٍ لا خَلاق لهم، ولم يشمّوا رائحةَ الانقياد والتسليم، بل نصبوا عقولهم حاكمةً على نصوص الشريعة، فعطّلوا النقلَ بالعقل! فليت شعري بأي عقلٍ من عقولهم نَزِن النقل؟! وماذا نصنع لو اختلفت عقولهم؟
لقد تأكد لكل مُطالعٍ لأخبار السابقين واللاحقين؛ أن الوصول إلى مقبرة الانسلاخ من الشريعة يبدأ من "وهن الانقياد" المشوب بالهوى، والسعيدُ من وُعِظ بغيره.
------------
[1] النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 235): "اللاحِب: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ المُنْقاد الَّذِي لَا يَنْقَطِع".
- التصنيف:
- المصدر: