معركة شَقحَب أو معركة مَرْج الصُّفَّر

منذ 2016-03-11

لا تزال حادثة سُقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة غُصَّة في صَدْر كل مسلم، وشَجًى في حَلْق كُلّ مؤمن، إنَّ ذِكْرها ليُحدث رَعشة في القلب، وإن جِراحاتها ما تزال تَنزِف دمًا في أعماق أعماقنا. ولا يستطيع دارسُ أحداث هذه العصور أن يَنسى الآلام والمآسي التي تَجرّعها المسلمون في تلك الحِقبة، فيكاد يذوب قلب المسلم أسَفًا وأسىً وكَمدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لا تزال حادثة سُقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة غُصَّة في صَدْر كل مسلم، وشَجًى في حَلْق كُلّ مؤمن، إنَّ ذِكْرها ليُحدث رَعشة في القلب، وإن جِراحاتها ما تزال تَنزِف دمًا في أعماق أعماقنا.

ولا يستطيع دارسُ أحداث هذه العصور أن يَنسى الآلام والمآسي التي تَجرّعها المسلمون في تلك الحِقبة، فيكاد يذوب قلب المسلم أسَفًا وأسىً وكَمدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويَحسُن أن أُورِد هنا ما قاله ابن الأثير عن خروج التّتار، فلقد تَحدّث حديثًا مؤثّرًا عن خروجهم في سنة سبع عشرة وستمائة -ولم تكن بغداد قد سقطت- فقال ما سأورده فيما يأتي، فكيف يكون كلامه لو وقف على الفظائع التي قام بها هؤلاء الوحوش في بغداد سنة 656 هـ.

قال ابن الأثير: "ثم دَخَلت سنة سبع عشرة وستمائة: لقد بقيتُ عدة سنين مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذِكرها، فأنا أقدّم إليه رِجلاً وأُؤخّر أخرى، فمَن الذي يَسهل عليه أن يَكتُب نَعي الإسلام والمسلمين؟

ومَن الذي يَهون عليه ذِكر ذلك؟ فيا ليتَ أمّي لم تلِدني، ويا ليتني متّ قبل حُدوثها وكنتُ نسيًا منسيًّا، إلا أنّي حثّني جماعة من الأصدقاء علي تسطيرها وأنا مُتوقِّف، ثُم رأيتُ أن تَرْك ذلك لا يُجدي نفْعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمّن ذِكر الحادثة العُظمى، والمُصيبة الكُبرى التي عَقَمت الأيامُ والليالي عن مِثلِها، عمّت الخلائقَ، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إنّ العالم منذ خَلَق الله سبحانه وتعالى آدمَ، وإلى الآن، لم يُبْتَلَوا بمِثلِها؛ لكان صادقًا، فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يُقارِبها ولا ما يُدانيها.

ومن أعظم ما يَذكُرون من الحَوادِث ما فَعَله (بُخْتُ نَصَّر) بِبَني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المُقدَّس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خَرّب هؤلاء الملاعين من البِلاد، التي كُلّ مدينة منها أضعاف البيت المُقدَّس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى مَن قُتِلوا؟ فإنّ أهل مدينة واحدة ممّن قُتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعلّ الخَلق لا يرَون مثل هذه الحادثة إلى أن يَنقَرض العالم وتَفنى الدنيا، إلا يَأْجوجَ ومَأْجوجَ.

وأمّا الدجَال فإنّه يُبقي على مَن اتّبعه، ويُهلِك مَن خالَفه، وهؤلاء لم يُبقوا على أحد، بل قَتلوا النساء والرجال والأطفال، وشَقّوا بُطون الحوامل، وقَتلوا الأجنّة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم" [1].

قال ابن كثير: "وقد اختلف الناس في كَمّية من قُتِل ببغداد من المسلمين في هذه الوَقعة -يعني سقوط بغداد- فقيل: 800 ألف، وقيل: ألفُ ألفٍ و800 ألف، وقيل: بَلغَت القتلى ألفي ألف نَفس" [2].

وقال أيضًا: "وقُتِل الخطباء والأئمة وحَمَلةُ القرآن، وتعطّلت المساجد والجماعات والجُمُعات مدة شهور ببغداد" [3].

ولكن الشخصية المُسلِمة كانت ما تزال متماسكةً، وأركان المجتمع كانت -على الأغلب- قائمة على مَعانٍ أصيلة من الإسلام.. ولذلك فسُرعان ما كان الثَأر واسترداد الكرامة في معركة عَيْنِ جَالُوتَ التي كانت سنة 658 هـ، ولم يمض وقت طويل حتى دان الغُزاة بدين أهل البلاد المَغلوبين، دين الإسلام وإنْ لم يَتخَلَّوا عن هَمجيّتِهم وعُدوانهم وشرّهم.

ثم كانت معركةً انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا، وربما كانت أقلَّ شهرة من المَعارك التي سَبقَتها، وهي معركة شَقْحب موضوع بحثنا هذا.

في اليوم الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة (المُوافق للعشرين من نيسان (إبريل) سنة 1303م) وَقعَت هذه المَعرَكة بين المسلمين والمَغول... بين عَسكَر السلطان الناصر، وعسكر قَطْلُوشَاهْ.

وقد عرفت هذه المَعرَكة بِاسمَين هما: (موقعة مَرْج الصُّفَّر)، و(معركة شَقْحَب) [4]، وكان عدد الجيش المَغوليّ الذي اشترك في هذه الموقعة كبيرًا، يُقدّره بعضهم بخمسين ألف مقاتل، وهناك من يقول: إنّ عَدَده يصل إلى مائة ألف.

والفرق بين الرقمين يدل على أن التقدير غير دقيق، لكن الشيء الواضح من ذلك ضَخامة عدد ذلك الجيش، وقد كان في عِداد هذا الجيش فِرقَتان من الكَرْجِ [5]، والَأرمَن [6].

أما جيش المسلمين فلم يذكُر المُؤرِّخون له عددًا، وإن كان يُرجِّح كثير من الباحثين أنه كان كبيرًا أيضًا، اعتمادًا على قرائن عِدّة.

ولا بد من دراسة معركة شَقْحَب على أنها حلقة من سلسلة الهجمات المَغوليّة على ديار الإسلام.

لقد كان السبب الذي حرّك المَغول في مَعارِكهم واحتلالاتِهم واحدًا، سواء كان فيما سَبَق سقوط بغداد أو كان بعدها.
فمن المعلوم أنّ بلاد المسلمين قد تَعرّضت إلى أَخطار من جهة أوروبا النصرانية التي جيّشت الجيوش، وسيّرت الحَمَلات الصليبية تِلو الحملات، وجاءت هذه القُوى الباغية المُعتدية إلى ديار المسلمين، فعاثَت في الأرض فسادًا، وأَهلَكت الحَرث والنَّسل، وانتهى بها الأمْر إلى أن تُقيم في قَلب العالم الإسلامي دُوَلاً، منها إمارات الرَّها وأَنْطَاكِية، وبيتُ المَقدِس، وطَرابُلس.

واستمر وُجود الصليبيّين في بلاد المسلمين قُرابة قَرنين، وقد أَدرَك المسلمون خُطورة بقاء هذه الإمارات الصليبية في بلادهم، واستيقظ وَعيُهم، فقامت حركة الجهاد، يُذكّيها علماء الأمة ومُصلِحوها، وتَجاوَب الناس معها، فكان توحيد الجبهة الإسلامية غَرضًا مُهمًّا وكان لنور الدين الشهيد محمود زِنْكِي فضلٌ كبير في تحقيق ذلك، وجاء من بعده صلاح الدين الأَيّوبِي، فاستطاع أن يَقطِف ثمرة جهاد الرجل العظيم نور الدين، وانتصر في معركة حِطِّين، واستطاع أن يُطهِّر مُعظَم بلاد الشام من رِجس الصليبيّين.

واستردّ المسلمون بيت المَقدِس، وكُلَّ ما كان بأيدي النصارى من قِلاع وحُصون، ولم يبق للصليبيين إلا جُيوب يَسيرة في أَنْطَاكِية وطَرابُلْس والساحل بين صُور ويافَا.

في هذا الوقت بالذات ظهرَت حركة المَغول في أقصى الشرق، بزعامة جَنْكِيزْ خانْ.

ولقد ثبت بأدلّة قاطعة أنَّ حركة المَغول هذه كانت بتحريض وتخطيط من الصليبييّن المَهزومين من دِيار المسلمين، فقد كانت هناك اتصالات بين الفَريقين قبل سنة 656 هـ (1258م)، فقد أوفد البابا أنوسنت الرابع رَجلا في مَهمّة سياسية إلى مَنْغولْيا سنة 642 هـ (1245م).

ثم أوفد لِويس التاسع المعروف ب (النَّاسِك) بعد ذلك بثلاث سنوات رَجلا آخر [7]، وقد كتب الدكتور مصطفى طه بدر كِتابًا عنوانه (مغول إيران بين المسيحية والإسلام)، وقد قَرّر في هذا الكتاب تعاوُن النصرانية البابوية مع المَغول، في اجتِياح بلاد المسلمين لمَصالِح النصرانية، ومن أجْل انتزاع الأراضي المُقدَّسة عندهم من أيدي المسلمين، وأَثبَت ذلك بأدلة قوية.
إنّ الوجود النصراني في بلاد الشام تضَعضَع بتوفيق الله ثم بسبب اليقَظة التي بدأت تَظهَر، ثم بسبب وُجود بعض العَمالِقة من رِجالاتِهم السياسيّين من أمثال نور الدين الشهيد، وصلاح الدين الأَيّوبي، ثم بسبب قيام عدد من رجال الفكر والعلم والتَّوجيه بواجبهم.

وانْهار هذا الوجود النصراني بعد معركة حِطّين وغيرها، عند ذاك فكّر النصارى بأُسلُوب أكثرَ قوةً وأشدّ عُودًا وأَشنَع وَحشيّة وبربَريّة، فلم يجدوا إلا التَّتار، يقول الدكتور مصطفى طه بدر: "ومع أن المَغول هَدّدوا المسيحية في أوروبا كما هَدّدوا الإسلام في الشرق، واجتاحوا أراضيها في روسْيا وبولَنْدا، ووصلوا حتى هَنغارْيا، وقَتلوا، ونَهبوا، وسَبَوا، وأَنزَلوا الرُّعب في قلوب المسيحيّين هناك، إلاّ أن المسيحية ما لبِثَت غير قليل، حتى صَحَت من غَفوَتها، وزالت عنها الدَّهشة التي تَملّكَتها، وفَارَقها الخوف والفزع، وفكّرت في الاستفادة من المَغول، خُصوصًا بعد أن رأت أن تَيّارهم قد وقف ولم يستقرّ لهم حالٌ إلا في رُوسْيا.

وقد اتجهت المسيحية نحو المَغول، راغبةً في استِمالَتهم، وعقْد أَواصِر الصداقة معهم لكَسبِهم إلى المسيحية أولا وللاستعانة بهم ضدّ أعدائها المسلمين ثانيًا.

والتاريخ يَذكُر لنا الشيءَ الكثير عن العلاقات التي قامت بين حُكّام المَغول الأُوَل من أبناء جَنْكِيزْ خانْ، وبين الدول المسيحية على اختلافها، تلك العلاقات التي كان أثرها رِحْلات يُوحَنّا الكربيني ووِلْيَم الروبريكي".

وقال أيضًا: "أما العلاقات بين البَابَوات والتَّتَر فكانت مستمرة ولم تنقطع طول مدة حُكم التَّتَر في إيران.

وقد كان الرُّسُل يتردّدون من وقت إلى آخر بين بَلاط البابَوات وبَلاط التَّتَار، ويحملون الرسائل التي تَفيض بمظاهر الحب والعطف المُتبادَل.

ويقال: إن البابا إسْكَنْدَر الرابع أرسل إلى هُولاكو خَانْ مؤسس دولة الإِيلْخَانات كتابًا مُؤرَّخًا في سنة 1260م - 658ه) ، وقد ذكرنا في صَدر هذا المَقال أن الاتصالات بدأت مُبكّرة قبل هذا التاريخ، إذ أرسل البابا أَنُوسِنْت الرابع رَجُلا إلى زعماء المَغول في سنة 642 هـ (1245م)".

وقال الدكتور مصطفى طه بدر: "ولا يختلف المُؤرِّخون في أقوالهم عندما يَتناوَلون مسألة عَطفِ الإِيلْخَانَات على المسيحييّن من رعاياهم، ويُؤيّد بعضهم بعضًا.

ويتضح من أقوالهم أن هُولاكُو كانت له زوجة مسيحية، وأنه بسببها عامل المسيحيين من رعاياه معاملة حسنة، ولمّا فَتَح  بغداد أعفى أهلها المسيحيين من القتل.. ولمّا فَتَح  المَغول في عَهده دِمَشق ودَخلوها، تساهلوا مع المسيحييّن من أهلها، حتى أصبحوا نتيجة لهذا التساهُل يشربون الخمر عَلنًا في رمضان، ويَرشُّونها على المسلمين، كما صاروا يُمرّون في الطُرُقات وهم يَحمِلون الصليب، ويُجبرون المسلمين على القيام احترامًا وإجلالا لهم" [8].

وقد أورد ابن العِمَاد في (شَذَرات الذَّهَب) قصيدة مُؤثِّرة لتَقِيّ الدين بن أبي اليَسَر في رثاء بغداد يوم سقوطها في يد التَّتار وفيها قال:

عَلا الصّليبُ على أعلى مَنابِرِها *** وَقام بالأَمْر مَن يَحوِيه زُنّارُ

وقبل هذا البيت يقول تَقِيّ الدين:

لِسائلِ الدَّمعِ عن بغداد أَخبارُ *** فما وُقوفُك والأحبابُ قد ساروا
يا زائرين إلى الزَوْرَاء لا تَفِدُوا *** فما بذاك الحِمى والدارُ ديّارُ
تاجُ الخِلافَة والرَّبعُ الذي شَرُفَت *** به المَعالمُ قد عفّاه إقْفارُ
أضْحى لِعطْف البِلى في رَبعِه أَثَرٌ *** وللدموعِ على الآثارِ آثارُ
يا نار قلبي مِن نارٍ لحربِ وَغًى *** شبّت عليه ووَافى الرَّبْعَ إعصارُ
علا الصليبُ على أعلى مَنابِرِها *** وقام بالأمرِ مَن يحويه زُنَّارُ [9]

لقد كان النصارى في أوروبا يَأمَلون في أن يعتنق المَغول المسيحية، وأن يَتم التحالف بينهم، وأن يُوجِّهوا ضربة قاصمة للإسلام، غير أن هذه الآمال لم تَلبَث أن تبدّدت بفَضل من الله ثم بسبب جهود دولة المَماليك في مصر والشام، وإنزالِ الهزيمة الساحقة بالمَغول في معركة عَيْن جالوتَ (في رمضان سنة 658 هـ) فتحطّمت الأُسطورة القائلة: إن المَغول قوة لا تُقهَر.

يرى المؤرخ الأَرْمَني (هيتون) أنَّ السبب في سَير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شَقْحَب كان رغبة قازَان  في تحطيم سلطان المسلمين في مصر، واستردادِ الأرض المُقدَّسة، وتسليمِها إلى النصارى، وأنّ قازَان كان يريد السَّير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكنّ تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن يُنيب عنه قَطْلوشَاهْ، الذي تعاون مع النصارى، ولا سيما الأَرمَن الذين كانوا يُشكّلون قوة كبيرة في جيش قَطْلوشَاه، وقد استَولَوا على عَدد من مدن المسلمين، وقَتلوا فيها ومَثّلوا ونَهبوا، وفَعلوا الأفاعيل البالغة في الفَظاعة والشَّناعة.

كان الرعب الذي يُرافق تحركات المَغول شديدا، يَملأ صدور الناس ويُوهن مِن قُواهم، فكلما سمع الناس قصْدَهم إلى بلد فرّوا من مُواجَهتهم. وقد سهّل هذا الرعب لهؤلاء الغُزاة المعتدين سبيل النصر والغَلَبة.

وكان الخليفة المُسْتَكْفِي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر - كما هو معلوم - ويبدو أنّ أخبار عزْم التَّتار على تجديد حَمَلاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسئولين في مصر، فعَمل العلماء وأولو الفِكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مُواجَهة هؤلاء الغُزاة، وقام شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة بمَهمّة جَسيمة في هذا المَجال.
ففي شهر رجب من سنة 702 هـ قَوِيَت الأخبار بعزم التَّتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتدّ خوفهم جدًّا كما يقول الحافظ ابن كثير ، وقَنَت الخطيب في الصلوات، وقُرِئ البُخَاريّ، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء، فيَعمَدون إلى قراءته في المسجد الجامع [10]، وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكَرَك  والحصونِ المنيعة، وتَأخَّر مجيء العساكر المصرية عن إبَّانها فاشتدّ لذلك الخوف.

قال ابن كثير: "وفي يوم السبت عاشر شعبان ضُربَت البشائر بالقلعة- أي قلعة دِمَشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السُّلطان بالعَساكِر من مصر لمُناجَزة التَّتار، وفي ثامن عشر من شعبان قَدّمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال (رُكْن الدين بيبَرس الجاشَنْكير وحُسامِ الدّين لاجين وسيف الدين كراي)،ثم قَدِمَت بعدهم طائفة أخرى فيهم بَدر الدين أمير السِّلاح وأَيْبَك الخَزِنْدار.

فقَوِيت القلوب في دِمَشق، واطمأنّ كثير من الخَلق، ولكنّ الناس في الشَّمال سَيطَر عليهم الذُّعر، واستبدّ بهم الفَزعُ، فنَزح عَدد عظيم من بلاد حَلَب وحَماة وحِمْص وتلك النواحي، وتقهقر الجيش الحَلَبيّ والحَمَويّ إلى حِمْص، ثم خافوا أن يَدهَمهم التَّتار فنزلوا إلى المَرْج.

ووصل التَّتار إلى حِمْص وبَعْلَبَكّ وعاثوا في تلك البلاد فَسادًا، وقَلِق الناس قَلَقًا عظيمًا لِتأخُّر قُدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خَوفًا شديدا، وبَدأَت الأَراجيف تنتشر وشَرَع المُثبِّطون يُوهِنون عزائم المُقاتِلين ويقولون:
لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بِلِقاء التَّتار لِقلة المسلمين وكثرةِ التَّتار، وزَيّنوا للناس التراجُع والتأخُّر عنهم مَرحَلة مَرحَلة.

ولكن تأثير العلماء ولا سيّما شيخ الإسلام ابن تَيْمِيّة كان يتصدى لهؤلاء المُرجِفين المُثَبِّطين، حتى استطاعوا أن يُقنعوا الأمراء بالتصدّي للتّتار مَهما كان الحال.

واجتمع الأمراء وتَعاهدوا، وتَحالَفوا على لقاء العدُوّ، وشَجَّعوا أنفسهم ورَعاياهم، ونُودِي بالبلد دِمَشق أن لا يَرحَل منه أحد، فسكن الناس وهَدأَت نفوسهم، وجلس القضاة بالجامع يُحلِّفون جماعة من الفقهاء والعامّة على القتال، وتَوقّدت الحماسة الشَّعبيّة، وارتفعت الرُّوح المَعنويّة عند العامة والجند، وكان لشيخ الإسلام ابن تَيْمِيّة رحمه الله أعظم التأثير في ذلك المَوقِف، فلقد عمل على تهدئة النفوس، حتى كان الاستقرار الداخلي عند الناس، والشعور بالأمن ورَباطَة الجَأْش.

ثم عمل على إلهاب عواطف الأُمّة، وإذكاءِ حَماسَتها، وتهيئتِها لخوض معركة الخَلاص.. ثم توجه بعد ذلك ابن تَيْمِيّة إلى العسكر الواصل من حَماة، فاجتمع بهم في القَطيفة ، فأَعلَمهم بما تَحالَف عليه الأمراء والناس من لقاء العدوّ، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم.

وكان شيخ الإسلام ابن تَيْمِيّة يُحلِّف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكَرّة مَنصورون، فيقول له الأمراء: قُل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تَحقيقًا لا تَعليقًا.

وكان يَتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تَفُتُّ في عَضُد المحاربين للتَّتار، من نحو قولهم: كيف نُقاتل هؤلاء التّتار وهم يُظهِرون الإسلام وليسوا بُغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه. فردّ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيّة هذه الشبهة قائلا: هؤلاء من جِنس الخَوارِج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية رضي الله عنهما ورأَوا أنهم أحَقّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحَقّ بإقامة الحق من المسلمين وهم مَتلبّسون بالمعاصي والظُلْم.

فانجلى الموقف وزالت الشبهة، وتَفطّن العلماء لذلك، ومضى يؤكد لهم هذا الموقف قائلاً: إذا رأيتموني في ذلك الجانب -يريد جانب العدوّ- وعلى رأسي مِصحَف فاقتلوني" [11]، فتَشجّع الناس في قتال التَّتار وقَوِيت قلوبهم.

وامتلأت قلعة دِمَشق والبلد بالناس الوافدين، وازدَحمَت المنازل والطُرُق، وخرج الشيخ تَقِي الدين ابن تَيْمِيّة - رحمه الله - من دَمَشق صَبيحة يوم الخميس من باب النَّصر، بمَشقّة كبيرة، وصَحِبَته جماعة كبيرة؛ ليَشهَد القتال بنفسه وبمن معه، فظنّ بعض الرَّعاع أنه خرج للفِرار، فقالوا: أنت مَنعتَنا من الجَفل وها أنت ذا هارِب من البلد،فلم يَردّ عليهم إعراضًا عنهم وتواضُعًا لله، ومضى في طريقه إلى مَيدان المَعرَكة.

وخرجت العساكر الشاميّة إلى ناحية قرية الكُسْوَة،ووصل التَّتار إلى قارَة [12] وقيل: إنهم وصلوا إلى القَطيفة فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن يكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وأَلحّ الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كُل حالٍ، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دِمَشق، فبشّر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصريّة والشاميّة.

وتابَع التَّتار طريقهم من الشَّمال إلى الجَنوب، ولم يَدخلوا دِمَشق، بل عَرّجوا إلى ناحية تَجمُّع العساكر، ولم يَشغَلوا أنفسهم باحتلال دِمَشق وقالوا: إن غَلبْنا فإنّ البلد لنا، وإن غُلبْنا فلا حاجة لنا به.

ووقفت العساكر قريبًا من قرية الكُسْوَة، فجاء العسكر الشاميّ، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تَيْمِيّة أن يسير إلى السلطان يستَحثّه على السير إلى دِمَشق، فسار إليه، فحثّه على المجيء إلى دِمَشق بعد أن كاد يَرجِع إلى مصر. فجاء هو وإياه جميعًا، فسأله السلطان أين يقف معه في معركة القتال؟ فقال له الشيخ ابن تَيْمِيّة: "السُّنّة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشّام لا نَقِف إلا معهم".

وحرّض السلطان على القتال، وبشّره بالنصر، وجعل يَحلِف بالله الذي لا إله إلا هو: إنكم مَنصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قُل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تَحقيقًا لا تَعليقًا.

وأفتى الناس بالفِطر مدةَ قِتالهم، وأَفطَر هو أيضًا، وكان يَدور على الأجناد والأمراء، فيأكُل من شيء معه في يده؛ لِيعلِّمهم أنّ إفطارهم ليَتقوَوا به على القتال أفضلُ من صيامهم.

ولقد نظّم المسلمون جيشَهم في يوم السبت 2 رمضان (19 نيسان - إبريل) أحسنَ تنظيم، في سَهل شَقْحَب الذي يُشرِف عليه جبل غباغب.

وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المُسْتَكْفي بالله والقضاة والأمراء.

وقبل بَدء القتال اتُّخذَت الاحتياطات اللازمة، فمرّ السلطان ومعه الخليفة والقُرّاء بين صفوف جيشه، بقصد تشجيعهم على القتال وبَثِّ روح الحماسة فيهم.

وكانوا يَقرءون آيات القرآن التي تَحضّ على الجهاد والاستشهاد، وكان الخَليفة يقول: دافِعوا عن دِينكم وعن حَريمِكم.

ووُضعَت الأَحمال وراء الصفوف، وأُمر الغِلمان بقتْل من يحاول الهرَب من المَعرَكة.

ولما اصطّفت العَساكر والْتَحم القتال ثَبتَ السلطان ثَباتًا عظيمًا، وأَمَر بِجَواده فقُيّد حتى لا يَهرب، وبايَع اللهَ تعالى في ذلك المَوقِف يريد إحدى الحُسنَيين إما النصر وإما الشهادة في سَبيل الله، وصَدَق اللهَ فصَدَقه اللهُ.

وجَرَت خُطوب عظيمة، وقُتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حُسام الدِّين لاجين الرّوميّ، وثمانيةً من الأمراء المُقدَّمين معه.

واحتَدمَت المَعرَكة، وحَمِي الوَطيس، واستَحَرّ القَتل، واستطاع المَغول في بادئ الأَمْر أن يُنزِلوا بالمسلمين خَسارة ضخمة، فقُتل مَن قُتِل مِن الأمراء... ولكن الحال لم يَلبَث أن تَحوّل بفَضل الله عز وجل، وثَبَت المسلمون أمام المَغول، وقَتَلوا منهم مَقتَلة عظيمة، وتَغيّر وجه المَعرَكة، وأصبحت الغَلَبة للمسلمين، حتى أقبل الليل فتَوقّف القتال إلا قليلاً، وطَلَع المَغول إلى أعلى جبل غباغب، وبَقوا هناك طُول الليل، ولما طَلَع النهار نزلوا يَبغون الفِرار بعد أن تَرَك لهم المسلمون ثَغرة في المَيسَرة ليَمُروا منها، وقد تتبّعهم الجنود المسلمون وقَتَلوا منهم عددًا كبيرًا، كما أنهم مَرّوا بأرض مُوحِلة، وهَلَك كثيرون منهم فيها، وقُبِض على بعضِهم. قال ابن كثير: "فلمّا جاء الليل لَجَأ التَّتار إلى اقتحام التُّلول والجِبال والآكام، فأَحاط بهم المسلمون يَحرُسونهم من الهَرَب، ويَرمونهم عن قَوس واحدةٍ إلى وقت الفجر، فقَتَلوا منهم ما لا يعلم عَددَه إلا اللهُ عز وجل، وجعلوا يَجيئون بهم من الجبال فتُضرب أعناقُهم" [13]، ثم لَحِق المسلمون أثَر المُنهزِمين إلى (القريتين) [14] يَقتُلون منهم ويَأسِرون.

ووصَل التَّتار إلى الفُرات وهو في قُوّة زِيادته، فلم يَقدِروا على العُبور... والذي عَبَر فيه هَلَك، فساروا على جانبِه إلى بغداد، فانقطَع أكثَرهم على شاطئ الفرات وأَخَذ العرب منهم جماعة كثيرة [15].

وفي يوم الاثنين رابعَ رمضان رَجَع الناس من الكُسْوة إلى دِمَشق، فبَشّروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تَقِيّ الدين ابن تَيْمِيّة البلَدَ ومعه أصحابُه من المُجاهِدين، ففَرِح الناس به، ودَعَوا له، وهَنّئوه بما يَسّر الله على يديه من الخير.

وفي يوم الثلاثاء خامسَ رمضان دَخَل السلطان إلى دِمَشق وبين يديه الخَليفةُ، وزُيّنت البلد، وبَقِيا في دِمَشق إلى ثالث شوال إذ عادا إلى الدِّيَار المصريّة [16]، وكان فَرَح السلطان الناصر مُحمّد بن قَلاوُون والمسلمين بهذه المَعركة فَرحًا كبيرًا، ودَخَل مصرَ دخول الظافِر المُنتصِر، يَتقدّم مَوكبَه الأسرى المَغولُ، يَحمِلون في أعناقهم رُءوس زُملائهم القَتلى، واستُقبِل استقبال الفاتِحين [17].

ولمّا كان ابن تَيْمِيّة رحمه الله بَطَلا من أبطال هذه المَعرَكة، أَحببتُ أن يَطّلع القارئ الكريم على وَصْف رجال كانوا معه في المَعرَكة، يُحدّثوننا عما شاهدوا مُشاهَدة عِيان من مَواقِف الشيخ في هذه المَعرَكة، وبُطولاتِه الرائعة.

قال ابن عبد الهادي: "وقد أَخبَرني حاجِب أمير، ذو دِين متين، وصِدْق لَهجة، معروفٍ في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمَرْج الصُّفَّر وقد تَراءى الجَمْعان: يا فُلان! أَوقِفني مَوقِف الموت.

قال: فسُقتُه إلى مُقابَلة العدوّ وهم مُنحدِرون كالسَّيل تَلوح أَسلحتُهم من تحت الغُبار المُنعقِد عليهم. ثم قلت له: يا سيدي هذا مَوقِف الموت، وهذا العدوّ قد أَقبَل تحت هذه الغُبرة المُنعقِدة، فدُونَك ما تريد. قال: فرَفَع طَرْفه إلى السماء، وأَشخَص بصَرَه، وحرّك شَفتيه طويلا، ثم انبعث وأَقدَم على القتال.

وأما أنا فخُيّل لي أنه دعا عليهم، وأنّ دُعاءه استُجيب منه في تلك الساعة... ثم حالَ القتالُ بيننا والالتِحامُ، وما عُدت رأيته حتى فَتَح الله ونَصَر، وانحاز التَّتارُ
إلى جَبَل صغير عَصَموا نُفوسَهم به من سُيوف المسلمين في تلك الساعة... وكان آخر النهار، وإذا أنا بالشيخ وأخيه يَصيحان بأعلى صَوتيهما تحريضًا على القتال، وتَخويفًا للناس من الفِرار" [18].

وقال ابن عبد الهادي: "وفي أول شَهْر رمضان من سَنَة اثنتين وسبعِمائة كانت وَقعة شَقْحَب المَشهورة، وحَصَل للناس شدّة عظيمة، وظَهَر فيها من كرامات الشيخ وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه، وشدّة نُصحِه للإسلام وفَرْطِ شجاعته، ونهايةِ كَرَمه، وغيرِ ذلك من صفاته، ما يَفوق النّعت، ويَتجاوَز الوصفَ.

ولقد قَرأتُ بخطّ بَعض أصحابه -وقد ذكر هذه الواقعة- قال: واتفقَت كلمة إجماعِهم على تعظيم الشيخ تَقِي الدين ومَحبتِه، وسماعِ كلامه ونَصيحتِه، واتَّعَظوا بمَواعِظه، ولم يبق من مُلوك الشام تُرْكيّ ولا عَرَبيّ إلا واجتمع بالشيخ في تلك المُدّة، واعتقد خَيره وصَلاحه ونُصحَه لله ولرسوله وللمؤمنين.

قال: ثم ساق الله سبحانه جيش الإسلام العَرَمْرَم المصريّ، صَحِبه أمير المؤمنين والسلطان الملكُ الناصر، وولاةُ الأمْر وزُعماء الجيش وعُظماءُ المَملَكة  سَوقًا حَثيثًا لِلِقاء التَّتار المَخذولين، فاجتمع الشيخ بالخليفة والسلطان وأَربابِ الحَلّ والعَقْد وأعيانِ الأمراء عن آخرِهم، وكُلّهم بمَرْج الصُّفَّر قِبليّ دِمَشق، وبَقِي الشيخ هو وأخوه وأصحابُه ومَن معه مِن الغُزاة قائمًا، يُوصي الناسَ بالثَّبات، ويَعِدهم بالنّصْر، ويُبشّرهم بالغنيمة والفَوزِ بإحدى الحُسنَيَين إلى أن صَدَق اللهُ وَعدَه، وأَعزّ جُندَه، وهَزَم التَّتارَ وحده، ونَصَر المؤمنين، وهُزِم الجَمعُ ووَلَّوا الدُّبُر، وكانت كلمة الله هي العُليا، وكلمةُ الكفار هي السُّفلى، وقُطِع دابرُ القوم الكفار، والحمد لله رب العالمين.

ودَخَل جيش الإسلام المَنصور إلى دِمَشق المَحروسة، والشيخ في أصحابه شاكيًا سِلاحَه، داخلا معهم، عالِيةً كَلِمتُه، قائمةً حُجّته، ظاهرةً وِلايته، مَقبُولةً شَفاعتُه، مُجابةً دعْوتُه، مُلتمَسة بَرَكته، مُكرَّما مُعظّمًا، ذا سلطان وكَلِمة نافِذةٍ، وهو مع ذلك يقول للمَدّاحين: أنا رَجل مِلّة لا رَجل دَولة" [19].

وقد سَجَل الشِّعر هذه المَعرَكة وَتغنّى الشعراء بنَصر المسلمين فيها، وسأُورِد شَيئًا من ذلك فقد قال مُحمّد بن إبراهيم الجَزَريّ يصف هزيمة المَغول في هذه المَعرَكة:

مَضَوْا مُتَسابِقي الأَعضَاءِ , فيهم *** لا رُؤسَهم بأرجلهم عِثارُ
إذا فاتوا الرماحَ تَنَاولتْهم *** بِأَرماحٍ من العَطَش القِفَار

وقال مُحمّد البزار المِنْبِجيّ:

إنّ البُغَاة بَنِي خاقانَ أَقدَمَهم *** عَلى هَلاكِهم الطُّغيانُ والأَشَرُ
راموا - وقد حَشَدوا - غَلَبًا فما غَلَبُوا *** وحاوَلوا النصر تضليلا فما نُصِروا
يا وَقعَةَ المَرْجِ مَرْجِ الصُّفَّر افتخرت *** بِكِ الوَقائعُ في الآفاق والعصُرُ
رَفَعتِ بالنصر أَعلامَ الهُدى ولقد *** جَرَدْتِ للشِّرك كَسرًا ليس يَنْجَبِرُ

وقال شَرَف الدين بن الوحيد:

ولما غزا قازان عُقْرَ دِيارِنا *** وأَعطاه مَن يُعطي ومَن يَمنعُ النَّصْرا
تَمَرَّد طُغيانًا وزاد تَجبُرًا *** ولم يَنتبِه بَغيًا ولم يَستفِق سُكْرا
وجاءت مُلوكُ المُغْلِ كالرمْلِ كثرةً *** وقد مَلكَت سهلَ البَسيطة والوَعْرا
فأَنصفَت الأيامُ في الحُكم بيننا *** فكانت له الأولى , وكانت لنا الأخرى
وكان نَهارُ السّبت بالنصْر شاهِدًا بصِدقٍ *** وكان الوقت قد زَحَم العصرا
فلِلّه دَرّ التُّرك كم سَفكَت دمًا *** وكم قَطعَت رَأسًا وكم نَحرَت نَحْرا
فولَّت ولاذَت بالجبال تحصُّنًا *** ولولا تخافُ القتلَ لاختارَت الأَسْرا

وقال شَمْس الدين السُّيُوطيّ يصِفُ معركة شَقْحَب:

يا مَرْجَ صُفَّر بَيّضتِ الوجوهَ كمَا *** فعلت مِن قَبل  والإسلام يؤتَنَفُ
أَزَهْرُ رَوضِك أزهى عند نَفحَته *** أم  يانِعات رُءوسٍ فيكِ تُقتَطفُ؟
غُدْرانُ أرْضكِ قد أضحت لِوارِدِها *** مَمزوجةً بدماء المُغْل تَغترفُ
دارت عليهم من الشُّجعانَ دائرةٌ *** فما نَجا سالِمٌ منها وقد زَحفوا
ونَكَّسوا منهم الأعلام فانهزَموا *** ونَكَّصوهم على الأعلام فانقَصَفوا
ففي جَماجِمهم بِيضُ الظُبا زُبُرٌ *** وفي كَلاكِلهم سُمْر القَنا قُصُفُ
فَرّوا من السيف مَلعونين حيث سَرَوا *** وقُتِّلوا في البراريّ حيثما ثُقفوا
فما  استقام لهم في (اعواج)  نَهْجٌ *** ولا  أَجارَهمُ من (مانع)  كُنُفُ [20]

هذا ومن المفيد أن نَعرِف بالخليفة الذي غامَر بحَياتِه وجاء مُجاهِدًا في سَبيل الله يَحضُر هذه المَعرَكة ويُحرِّض المؤمنين على القتال.

إنه أمير المؤمنين المُستَكفي بالله أبو الربيع سليمان بن أحمد بن الحسن، وُلِد سنَة 683هـ [21] واشتغل بالعلم قليلاً، وخُطب له سنة 701هـ، وفوَّض جميع ما يتعلق به من الحلّ والعقد إلى السلطان الملك الناصر، وحَصَل بينه وبين الناصر نُفور بعد أن كانت العِلاقات بينهما على أحسن ما تكون العلاقات، فغَضِب عليه السلطان وسَيّره إلى قُوص سنة 736هـ! وظلّ يُخطَب له حتى تُوفِّي بقُوص في شعبان سنة 740 هـ.

قال ابن حجر: "كان فاضلاً جَوَادًا حَسَن الخط جِدًّا، يُعرَف بلَعِب الأكره ورَميِ البندق، وكان يُجالِس العلماء والأدباء" [22]، ومن المُفيد أيضًا أن نُعرِّف بالملك الناصر الذي كان له الفضل الكبير في هذه المَعرَكة الفاصِلة:

إنه مُحمّد بن قَلاوُون بن عبد الله الصالِحيّ أبو الفتح، من كبار ملوك دولة المَماليك، ودولة المماليك مظلومة في أَذهان كثير من مُثقَّفي المسلمين، فهم يَتصوّرون عَهدَهم عهد ظُلم وتخلُّف وجهْل وانحطاطٍ، وليس هذا بصحيح على إطلاقه... لقد كانت هناك جَوانب مُضيئة إيجابيّة؛ من أَهمّ هذه الجوانب أن هذه الدولة التي امتدّت قُرابة ثلاثة قرون  كانت هي المُدافِع الأول عن الإسلام. وقد استطاعت هذه الدولة أن تُطهِّر بلاد المسلمين من بقايا الصليبيّين، وأن تُنهي أمر التَّتار إلى غير رَجعة، وأن تُدافِع عن مَذهب أهل السنة والجماعة وتُمكِّن له، وكانت أيامها أيام نُضج علميّ، عمّت فيها المدارس والجامعات الديارَ الشامية والمصرية.

وحبّذا لو عولجت هذه الحِقبة من وِجهة نظَرٍ إسلامية، مُعالَجةً مُتأنِّية مُنصِفة [23]، وُلِد الملك الناصر سنة 684 هـ وكانت إقامته في طفولته بدِمَشق، وَلِي سَلطنةَ مصر والشام سنة 693 هـ وكان عُمُره إذ ذاك تسع سنين، ثم خُلِع منها لِحَداثتِه سنة 694 هـ فأُرسل إلى الكَرَك وهي مدينة مشهورة الآن في الأُردنّ وكانت حِصنًا من أمنع الحصون. وكانت مَركزًا مُهمًّا من أقوى مراكز الدولة في بلاد الشام.

وأعيد للسّلطَنة بمصر سنة 698 هـ وكان قد بلغ الرابعة عشرة من عُمُره ولم تكن لديه الخِبرة ولا الدِّراية التي تُمكِّنه من أن يَسوس الأمور بنفسه مُستقِلا، فكانت أمور الدولة في يد الاستادار الأمير بيبَرْس الجَاشَنْكير ونائب السلطنة الأمير سلاّر.

ولمّا أراد أن يتخلص من سيطرتهما رسم خُطّة، وأَحكَم تنفيذها، فقد تَظاهَر بأنه عازِم على الحج، وأعلن ذلك في الدولة، وتوجّه بأسرته وحاشيته ومماليكه وخيلِه.. وسار حتى بلغ الكَرَك، فنزل بقلعتها واستولى على ما فيها، وأَعلن أنه قد عَدَل عن الحج واختار الإقامة في الكَرَك، وباشر حُكمها وإدارةَ الأمور فيها، وتَرَك السلطنة، وكتب بذلك إلى الأمراء في مصر.

فاجتمع هؤلاء ونادوا بالأمير بيبَرْس الجَاشَنْكير سُلطانًا على مصر والشام سنة 708 هـ ولَقّبوه بالملك المُظفَّر.
وأمضى الناصر في الكَرَك قريبًا من عام، ثم وَثَب فدَخَل دِمَشق وزَحَف إلى مصر، فقاتل المُظفَّر بيبَرْس، وعاد إلى عَرشِه سنَة 709 هـ وقتل بيبَرْس وشَرّد أنصاره، واستمر في سلطنته الأخيرة هذه اثنتين وثلاثين سنة وخمسةً وعشرين يومًا إلى أن مات، كان فيها الحاكم الحَقيقيّ، وكانت له فيها سِيرة مَحمودة، واعتَنى بالعُمران حتى أَضحَت القاهرة زينةَ الدنيا، واقتدى الناس به فتَبارَوا في العُمران. يقول المَقرِيزيّ: "وكأنما نُودِي في الناس ألا يبقى أَحَد حتى يَعمُر وذلك أن الناس على دِين مُلوكهم". وقال الزِرِكْليّ: "وأَحدَث من العُمران ما مَلأ ذِكره صفحتين من كتاب المَقْريزِيّ".

وكان كريمًا غاية في الكرَم، وكان عفَّ اللسان، فلم يَضبِط عليه أَحَد أنه أطلَق لسانه بكلام فاحش في شدّة غَضَبه ولا انبِساطه، كانت عنده غَيرة على الدِّين ورِعايةٌ لأحكامه.

قال ابن حَجَر (24) في (الدرر): "كانت وَقعة شَقْحَب، وكان للناصر فيها اليد البيضاء من الثبات وَوَقَع النصرُ للمسلمين".

وقال : "كان مُطاعًا مهيباً عارِفًا بالأمور يُعظِّم أهل العلم والمناصب الشرعية، ولا يقرر فيها إلا من يكون أَهلا لها ويَتحرّى لذلك ويَبحَث عنه ويُبالِغ. وأَسقَط من مَملَكته مَكْس الأقوات، ومَكْس الأقوات هو الضريبة التي تُفرض على الأقوات".

تُوفّي بالقاهرة في ذي الحجة من سنة 741 هـ رحمه الله رحمةً واسعة.

وهكذا انتهت هذه المَعرَكة بهزيمة التَّتار وانتصار المسلمين، وجَدير بالذِّكر أن نُشير إلى أنَّ هذه الحملة الثالثة من حَمَلات التَّتَار كانت هي آخر الحَمَلات الكُبرى، التي قام بها هؤلاء المُتَوَحِّشُون، يَنقضّون على بلاد الإسلام الآمِنة المُطمئنّة. ولقد كان هناك حِلف واضِح بين التَّتار والنصارى، كَشفْنا عن بعض جَوانبه في الصفحات السابقة، وقد يكون من مَقَاصد هؤلاء التَّتار الاستيلاء على الأماكِن التي يُقدّسها النصارى، ثم إعطاؤهم حقّ الإشراف عليها.

ولكن المسلمين ردُّوهم على أعقابهم خاسرين، فما حَقّقوا لهم ما يريدون ثم إنّ المَغول دَخَلوا في دِين الله العظيم، وكانت هذه مُعجِزة للإسلام؛ فقد عَهِد التاريخ البشري أن المغلوب يَدخُل في دِين الغالِب، ولكن الإسلام العظيم غَلَب، وأصبح هؤلاء القوم بعد إسلامهم مَددًا لِقُوة الإسلام وتَيّاره المُستمِرّ.

وبعدُ فما أَشبَه الليلة بالبارحة.

إن من يتأمّل - على ضَوء أحداث الماضي - أحوالَ المسلمين اليوم وكيف تَتعرّض بلادهم إلى الاحتلال والتقسيم، لَيجِدُ عِبرة عُظمى وموعظة بليغة.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .

1- الكامل 12 / 358 طبع بيروت.
2- البداية والنهاية 13 / 202.
3- (البداية والنهاية) 13 / 203.
4- شَقْحَب: عين ماء جنوب دِمَشق بعد قرية الكُسْوَة على يمين الذاهب إلى حَوْران (انظر الخريطة).
5- الكَرْج شعب جَبَلي يعيش في منطقة تقع شمال منطقة الأَرمَن، وقاعدة بلادهم تَفْليس يتوزع في السفوح الجنوبية لجبال القُوقاز.
6- الأرمن شعب نصراني يعيش في منطقة جبلية وَعِرة بين تركيا وإيران اليوم.
7- انظر كتاب (المجتمع الإسلامي) للدكتور أحمد شلبي ط 3 صفحة 280 وما يليها، وانظر أيضًا كتاب (الكشوف الجغرافية) للدكتور يسري الجوهري صفحة 114 وما بعده.
8- (مغول إيران) صفحة 10.
9- (شذرات الذهب) 5 / 271- 272 وهذا المذكور جزء من القصيدة، والزنار من شارات النصارى.
10- انظر كتابي (الحديث النبويّ) ط 4 صفحة 13- 14.
11- (البداية والنهاية) 14 / 24.
12- قرية في الطريق بين دِمَشق وحِمْص.
13- (البداية والنهاية) 14 / 26.
14- وهي بَلدة على طريق المُسافِر بين بغداد ودِمَشق..
15- (خطط الشام) لمحمد كرد علي 2 / 138.
16-  البداية والنهاية.
17- انظر وَصْف استقبال أهْل مصر للسلطان عند عَودتِه من هذه المَعرَكة في كتاب (الناصر مُحمّد بن قلاوون) تأليف د. مُحمّد عبد العزيز مرزوق من صفحة 150 إلى 152.
18- (العقود الدُّرية) لابن عبد الهادي صفحة 177- 178.
19- (العُقود الدُّريّة) 175- 177.
20- انظر (خطط الشام) 2 / 139.
21- كذا ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) وابن حجر في (الدرر الكامنة) 2 \ 336 - 338 ولكن السُّيوطيّ في (تاريخ الخلفاء) ص784 ذكر أنه ولد سنة 684هـ.
22- انظر في ترجمته (الدرر الكامنة) 2 / 336 - 338 و(تاريخ الخلفاء) 484 - 487.
23- على غِرار ما فَعَل عَدد من الباحثين المُعاصِرين في الآونة الأخيرة من إنصاف الدولة العُثمانيّة المظلومة. جزاهم الله خيرًا.
24- (الدرر الكامنة) 4 / 261- 265.

المصدر: مجلة البحوث الإسلامية-العدد العاشر - الإصدار: من رجب إلى شوال لسنة 1404هـ.

محمد لطفي الصباغ

أستاذ علوم القرآن والحديث بكلية التربية بجامعة الملك سعود - بالرياض

  • 5
  • 0
  • 33,537

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً