آلام النفس

منذ 2016-03-13

جراح الروح وطعنات الفؤاد ربما لا تنزف دما؛ لكنها في الحقيقة تستنزف الإنسان من أعماقه وتقضي عليه في النهاية إن لم تتداركه رحمة ربه..

كثيرا ما نتعامل مع الآلام النفسية على أنها محض ادعاءات أو أوهام كاذبة؛ بعضنا يعامل المتألمين نفسيا على أنهم متكلفين مدعين أو بالعامية البسيطة (متدلعين)؛ نحتقر آلامهم ونزدري تأوهاتهم ونغض الطرف عن مشاعرهم وأحاسيسهم.

الحقيقة أن هذه كارثة لا يدرك مداها إلا صنفان من البشر؛ من كابدوا تلك الآلام بأنفسهم أو عايشوا قريبا أو حبيبا تعرض لها؛ ومن فهموا وأدركوا طبيعة تلك الآلام من خلال علمهم واطلاعهم الذي سمح لهم بالوصول لتلك الحقيقة الصادمة؛ حقيقة أن آلام النفس تقتل أحيانا.

جراح الروح وطعنات الفؤاد ربما لا تنزف دما؛ لكنها في الحقيقة تستنزف الإنسان من أعماقه وتقضي عليه في النهاية إن لم تتداركه رحمة ربه..

ربما لا تكون تلك الآلام ذات أسباب مادية ملموسة؛ وربما لا تظهر علاماتها في تحليل أو أشعة تشخيصية؛ لكن المفاجأة أن آثارها حقيقية ومادية للغاية.

لو أنني دعوتك لوجبة عشاء دسمة وتركتك تأكل بنهم ولم أشاركك متحججا بوعكة صحية أو ما شابه؛ ثم بعد انتهائك من وجبتك وامتلائك حتى الشبع فاجأتك قائلا بجدية: لقد سممت تلك الوجبة.

أو فلنكن أكثر واقعية لكي ينطلي عليك الأمر ولا داعي لموضوع السم ده ولنكتفي بإخبارك أن الطعام الذي تناولته منذ قليل قد بصقنا فيه قبل تقديمه لك من باب المزاح الثقيل.

ربما لن تصدق في البداية وستدرك أبعاد الخدعة وستكذبني بشكل حاسم لأنك لا تتصور جديتي في مثل هذا؛
لكن علامات الجدية لم تزل ترتسم على وجهي مؤكدا بإصرار أن الطعام كان مبصوقا فيه؛
لم تصدق بعد... ربما.

لكن تلك التقلصات التي تنتاب أحشاءك تدريجيا وهذا الغثيان الذي يسارع إلى حلقك يشهدان بأمر آخر؛ لقد بدأت تصدق تلك المعلومة المقززة؛ ولقد بدأت آثارها في الظهور؛ وتلك الآثار حقيقية جدا وملموسة رغم أن سببها غير حقيقي والطعام نظيف تماما لم يلوثه شيء.

هذا الغثيان وتلك التقلصات التي قد تتطور إلى المزيد ليست وهما ولا ادعاء؛ حتى لو كان سببها كذلك ولو أنني لم أسارع بتدارك الموقف وطمأنتك لآل الأمر إلى ما لا يحمد عقباه.

هذا نموذج واضح لما يمكن أن تفعله الآلام النفسية بالبشر؛ بل كما قلت آنفا إنها تقتلهم أحيانا؛ الأمر لا يحمل مبالغة ولعل أشهر نماذجه؛ ما حدث لذلك العامل الذي تشتهر قصته عند الحديث عن هذا النوع من الألم!

الرجل كان يعمل في أحد المصانع التي تحتوي على غرف تبريد عملاقة مخصصة لحفظ الأطعمة؛ وبينما هو يعمل لوقت متأخر داخل أحد تلك المبردات العملاقة؛ إذ أغلق الباب عليه من الخارج ظنا ممن أغلقه أن الغرفة فارغة. ولقد كانت الليلة التي تسبق عطلة نهاية الأسبوع.

عاد الموظفون بعد نهاية عطلتهم ليجدوا جثة العامل داخل المبرد العملاق؛ وحولها بعض الكتابات على الأرض والجدران؛ يصف من خلالها الرجل مشاعر التجمد التي أحسها تدريجيا؛ أثناء تلك الأيام التي ظل فيها حبيس غرفة التبريد حتى توفي.

المفاجأة أن صاحبنا لم يكن يعلم أن المبرد لم يكن يعمل! عطل ما؛ سبب انقطاع غاز التبريد عنه؛ وأدى صعود درجة الحرارة بداخله لمعدلات طبيعية لا يخشى منها.

ما الذي قتله إذا؟!
إنها تلك الآلام النابعة عن معلومة خاطئة وظن غير صحيح؛ حتى في غياب الوعي قد تقتل تلك المعلومات المختلة والأوهام.

أثناء ذلك الكابوس الشهير بأنك تهوي من حالق وتسقط من ارتفاعات شاهقة؛ ثم تستيقظ قبل الوصول إلى الأرض؛ هل تعلم أنك إن لم تستيقظ قبل الارتطام في الحلم؛ فإن هناك فرصة كبيرة لألا تستيقظ أبدا؛ لا قدر الله؛ بسبب الصدمة العصبية الناشئة عن تصورك الباطن لتلك السقطة؟

وهل تعلم أن كثيرا ممن يسقطون من ارتفاع شاهق يقضون نحبهم قبل الارتطام بالأرض نظرا لتلك الصدمة العصبية التي تصيبهم أثناء السقوط ويكون تأثيرها أقوى من تأثير السقطة التي أحيانا لا تكون قاتلة؟!

كل هذه النماذج وغيرها لو فهمتها وأدركتها لعلك تفكر كثيرا قبل أن تقرر الاستخفاف بهؤلاء المتألمين والتهوين من شأن آلامهم... آلام النفس.

  • 1
  • 0
  • 1,960

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً