حرائر فلسطين في زمن انقلاب وتحول القيم

منذ 2010-02-21

أما الأطفال الذين حضرت جدتهم لترعى شؤونهم فقد ذهب ثلاثة منهم إلى المدارس بملابسهم القديمة وشنطهم القديمة ودون أن يكون في جيوبهم مصروف..



تعيش الساحة الفلسطينية هذه الأيام زمن انقلاب الصور وتحول القيم، فالأمر لا يتوقف على مشاركة الدكتور سلام فياض في مؤتمر هرتسيليا للأمن القوي الصهيوني ومخاطبته من على منصة المؤتمر قتلة الشعب الفلسطيني ومغتصبي أرضه الذين وقفوا له جميعاً وعلى مختلف انتماءاتهم الحزبية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ليصفق الجميع له مطولاً وبحرارة في قاعة تفوح بروائح لحوم أطفال فلسطين المشوية على نار قنابلهم الفسفورية، والمزينة بجماجم رجال المقاومة من المجاهدين والمناضلين على مدار سنين الاحتلال لفلسطين التاريخية، وليتوج فياض من على المنصة التي تقطر بدماء شعبه بمنحه لقب بن غوريون، هذا الاسم الذي يرتبط ويقترن بالمسؤولية الكاملة عن تلك العصابات التي اقترفت الجرائم والمجازر والمذابح بحق الشعب الفلسطيني ومارست التطهير العرقي في حرب إبادة وتشريد جماعية حيث بُقرت بطون الحوامل وهدِّمت البيوت على رؤوس ساكنيها وعمَّ الرعب في أرجاء الوطن وليعلن ابن غوريون قيام دولة الكيان على الأراضي المغتصبة وأنقاض القرى التي شرِّد وهجِّر أهلها قسراً تحت حراب العصابات والقتلة الذين وقف أمامهم فياض في هرتسيليا يبادلهم الابتسامات بعد أن صافح بحرارة تلك الأيدي الآثمة والملطخة بدماء الشعب الفلسطيني وبحميمية فاقت لقاء الأخوة والأصدقاء والأحباب، لذلك لم يكن غريباً على فياض أن يصافح القتلة وقادة من انتهك الأعراض الفلسطينية واغتصب الحرائر من أبناء هذا الشعب العظيم، فياض الذي يقف على رأس أجهزة أمنية تجردت من وطنيتها وتاريخها وقيمها وسارت في طريق بن غوريون حيث تقوم بملاحقة المجاهدين والمقاومين وحرائر هذا الشعب ليكتمل المشهد ويُطِبْقُ فكيِّ الكماشة على المقاومة الفلسطينية ورجالاتها وحرائرهم .

 

أقول ذلك ونحن نعيش زمن الرويبضة، زمن الانهيار المزلزل في القيم، زمن استدعاء الحرائر والتحقيق معهنَّ من قبل أبناء الجلدة،أزلام من وقف أمام القتلة في هرتسيليا، أدوات دايتون وشلومو، في هذا الزمن حيث يستنسر البغاث في ذروة النسر، في هذا الزمن ومع غروب ذلك اليوم كانت إحدى حرائر هذا الشعب، وزوجة أحد المجاهدين المغيبين خلف قضبان سجون الاحتلال تقوم بتحضير أبنائها استعداداً لليوم التالي الذي يصادف أول أيام العام الدراسي الجديد 2008-2009 وما يتطلبه من مبالغ إضافية ترهق كاهل العائلة الفلسطينية بشكل عام وتلك العائلة على وجه الخصوص لغياب المعيل، وبينما كان فلذات أكبادها يناقشونها عن الأسباب التي حالت دون شراء ملابس وحقائب جديدة لهم وهل هذا يعني عدم شراء قرطاسية ودفع الرسوم المدرسية ؟ وماذا عن تأمين المصروف اليومي ؟

وإلى متى سيبقى هذا الوضع هكذا سيما وأن الاحتلال الإسرائيلي وعلى الدوام ينغص على حياتهم من خلال الاعتقالات المتكررة لوالدهم الذي زادت مجموع سنوات سجناته عن العشرة أعوام، كانت تلك الحرة تصغي إليهم وقلبها يتفطر حزناً وألماً وكمداً وهي الصابرة المحتسبة تبتسم في وجوه أطفالها الست وتصبرهم وتؤملهم بفرج الله الذي لا ينساهم وأن الأرزاق بيده وحده، كانت الأجواء مشوبة بالعاطفة المتبادلة ما بين الوالدة وأطفالها، وإذا بطارق على الباب، وهنا استبشرت الأم خيراً وسرحت في خيالها بعيداً حول هوية طارق الباب وماذا يحمل معه، حيث دار في خلد الأم وأبنائها أنه ربما يكون أحد أصدقاء الوالد الذي طالما وقف زوجها إلى جانبه جاء وفي آخر لحظة بعد أن تدبر شؤونه وهو الذي فصلته سلطة دايتون من وظيفته، ليرد بعض الجميل متذكراً حاجة أخيه الذي كسا أبناءه يوم كان مغيباً هو في سجون الاحتلال ويدرك أن عائلة أخيه ماسة لبعض المال في هذه الظروف الصعبة، حيث يُحارَبُ المجاهدين وأبناء الحماس في لقمة عيشهم، ذهبت الأم بعيداً في خيالها وهي تمد يدها لتأخذ المبلغ من يد صاحب زوجها الذي استطاع من تدبير الأمر مستديناً من أحد الأثرياء وليقتسم ما استدانه بين أبنائه وأبناء صاحبه، أو ربما أحد الأعمام أو الأخوال الذي تذكر صلة الرحم وحاجتهم فجاء ببعض ما تيسَّر بين يديه ليفكِ به محنة رحمة ويرسم البسمة على وجوه أطفالها،أو ربما جاءهم الذي يعرف حاجة أبناء جاره لمتطلبات العام الدراسي الجديد، حيث استبعدت الأم ذلك لأن زوجها والعائلة محسوبون على حماس، وساق الله على أيام الجمعيات الخيرية الإسلامية التي كانت تدعم كل أهالي وأبناء الأسرى مادياً ومعنوياً دون تمييز على أسس فصائلية أو غيرها، هذه الجمعيات التي جففت سلطة دايتون ينابيع تمويلها قبل أن تغتصبها وتسيطر عليها، تنهدت الأم مع فتحها الباب، وكم كانت المفاجأة، ويا للعار !!

ويا للأسف !! لم يكن الطارق أي واحد من هؤلاء الذين تخيلتهم الأم، وإنما كان أحد أذناب الخسة والنذالة، أحد المندوبين المكروهين من أبناء شبعهم يجمل ورقة تبليغ بضرورة حضور الأم، صبيحة غدٍ إلى مقر الجهاز الأمني، فأي عارٍ هذا، وأي خسة ونذالة، وهل سبق الكلب سيده، فالاحتلال على إجرامه وتعسفه كان يحسب ألف حساب قبل أن يجرؤ على إرسال تبليغ لحرائر فلسطين لتوافه الأمور والأسباب، أن الأجهزة الأمنية قد تجاوزت كل المحرمات وكل القيم بتجرؤها على استدعاء الحرائر واعتقالهن والتحقيق معهن وخاصة عندما تكون الماجدات المستهدفات زوجات وبنات الأسرى والشهداء اللواتي ينبغي أن تكون حرمتهنَّ أشد، والأصل أن تكون هؤلاء وعائلاتهن محط احترام وتقدير وحماية وأن لا ينقص عليهم شيئاً، ولكن زمن انقلاب الصور وتحول القيم تنقلب في الموازين أيضاً.

 

لقد تناولت الزوجة المجاهدة الصابرة ورقة تبليغ العار، والشاهد على الانهيار المزلزل في القيم الوطنية والأخلاقية، وكتمت غيظها وحبست دمعتها التي كادت تفرُّ من مقلتيها ليس خوفاً أو جبناً، حاشا لله، ما كانت الحرائر والمجاهدات لتتسرب إلى نفوسهنَّ في يوم من الأيام تلك المشاعر، فنفسية الحرة زوجة الحر تسامي العلا، لكن الذي كاد أن يفلق كبدها أن تصل النذالة إلى هذا الحد، حيث يَصيحُ الحمار بأعلى صوته : أنا سيدَّ الغابة !، ومن يصدق ما يحصل في ضفة العياش والجمالين وأبو هنود والأخوين عوض الله، لقد أخذت الأم الحرة والأبية قرارها بوقف هذه المهزلة وعزمت على اتخاذ الموقف الذي لا بد من أخذه سيما وأنه أول تبليغ يصل لأول ماجدة وحرة بعد الحسم العسكري في غزة فكان الامتناع عن مجرد التفكير بالذهاب مهما كلف الأمر ومهما كانت النتائج، وكم كانت فخورة عندما شدَّ من عزيمتها ردة فعل الأشبال الذين وضعوا العزة والكرامة والإباء والمقاومة من يديها بعدما علموا بما في التبليغ، لقد انتابتها مشاعر العزة والفخار وهي تصغي لابنها البكر الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره وعلى سليقته ودون تكلف وبصوت الواثق لن تذهبي يا أماه إلى هؤلاء الزعزان، والزلمة منهم يقترب من البيت.

 

أي عزة هذه، وأي إباء هذا، لله درَّ من قال من شابه أباه ما ظلم، ونشر الخبر في كل أنحاء الحارة، ولكن ما الفائدة من انتشار الخبر وقد غاب الرجال، وهنا يصل الخبر لإخوتها وأخوة زوجها وتفور الدماء في العروق مع بداية تناهي الخبر إلى مسامعهم ويستنكرون ويزمجرون ويهددون ويذهبون لبعض المعارف من مسؤولي الأجهزة وأبناء فتح ويتصلون في المحافظ لوقف هذه المهزلة، ولكن للأسف ليتهم ما تحركوا ولا ذهبوا ولا تدخلوا فقد رجعوا إليها بوجه غير الذي ذهبوا به وكأن القوم سحروهم، لا بل لقد هددهم القوم بالاعتقال إذا لم يتوقفوا عن الإدانة والاستنكار، وأن قرار السلطة والأجهزة لا يمكن أن يُكسر إلا من قبل دايتون وشلومو فقط، لقد رجع الأخوة والأسلاف إلى الزوجة الحرة الأبية لإقناعها بأن الأمر عادي وأن هناك أسئلة للإجابة عليها من أجل إغلاق الملف، وأن الأمر لصالحها مستقبلاً، وأنهم أخذوا الوعود من المحافظ ورجالات فتح في البلد بأن المقابلة ستكون عادية ولفترة قصيرة وتعود بعدها إلى البيت، أية فتنة هذه، بل أية معيبة وأي ابتلاء هذا حيث تقبل الغيرة في النفوس تحت عبارات التهديد والوعيد حيث تتبدل الصور ويصبح المؤازر والسند وسيلة ضغط إضافية، ولكنَّ الله مع الصابرين يثبتهم في وقت تزيغ فيه الأقدام، لقد اتخذت قرارها الذي هو قرار زوجها الذي عرفته على مدار خمسة عشر عاماً من زواجهما، هذا الزوج لم تغير القيود أو سني الأسر من عزيمته فهو حرُّ أبي، وفي منتصف الليلة التالية طرق الباب وإذا بزوار الليل من بني جلدتنا وقد غيَّروا في أشكالهم وصبغوا وجوههم بألوان حتى أصبحوا كالشياطين يقتحمون المنزل وسط صراخ الأطفال ومقاومة الابن البكر الذي أخذ يصرخ في وجوههم بصوت الرجال لقد اعتقلوا المجاهدة الصابرة واختطفوها من بين أبنائها وسط بكاء الأطفال وفي أجواء من الرعب سيطرت على الحارة والعمارة التي تسكن فيها تلك الحرة، وتغيب هناك في سجن السلطة، يا له من زمن حيث تستخدم القوة بحق الحرائر وأبناء الشعب الشرفاء، أما سكان العمارة وأهالي الحي الذين لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً فكل واحد منهم يتمتم على قدر سمعه " الله يوخدكم يوخذ السلطة معكم "، هذا هو نبض ومشاعر المواطن العادي حيث تكميم الأفواه ومصادرة الحريات في زمن الرويبضة، وطار الخبر مع الأيام ليتناقله الأسرى من خلال الزوار ليصل إلى مسامع الزوج، هذا الأسد المقيد بسلاسل الاحتلال، وهو الذي يعاني مرارة الأسر ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، فخرج إلى فورة السجن مختالاً بموقف زوجته البطولي والرائع الذي اتخذته بعدم التجاوب مع استدعاءات أزلام دايتون وشلومو وبدأ يتحدث إلى إخوانه المجاهدين عن زوجته وأصالتها، ويثني عليها بكل ما فتح الله عليه من عبارات الثناء والمديح الذي تستحقه، لقد كظم غيظه وعضَّ على شفتيه ضارعاً إلى الله بالدعاء إلى زوجته أن يثبتها وينزل السكينة عليها وأن يكشف الله الغمة ويفرج الكربة ومتمتماً نعم النساء حرائر فلسطين في زمن انقلاب الصور وتحول القيم .

 

أما الأطفال الذين حضرت جدتهم لترعى شؤونهم فقد ذهب ثلاثة منهم إلى المدارس بملابسهم القديمة وشنطهم القديمة ودون أن يكون في جيوبهم مصروف.

 

المصدر: ماجد عباس - موقع كتائب القسام
  • 1
  • 0
  • 2,805

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً