في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق

منذ 2016-03-21

حسن الخلق يدور على قطب واحد وهو بذل المعروف وكف الأذى وإنما يدرك ذلك بثلاثة أمور: "العلم، والجود، والصبر".

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِغدا؛ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ» (صحيح الجامع).

تزكية النفوس -بالتحلي بالأخلاق الحسنة والتخلي عن سيئها- مطلب عظيم وربع الرسالة المحمدية، لقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، ولذا أقسم الله عز وجل أحد عشر قسما متتاليا -لم يأت إلا في موضع واحد من القرآن-ـ على أن الفلاح منوط بتزكية النفوس.

فقال جل شأنه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا؛ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا؛ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا؛ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا؛ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا؛ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا؛ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا؛ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا؛ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا؛ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:1-10] وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ؛ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} [الأعلى:14-15]

وتزكية النفوس ملاك دعوة الرسل بعد التوحيد، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؛ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18-19]

بل إن تزكية النفوس سبب الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى}[طه:75- 76]
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا»(رواه مسلم).

قال المناوي: «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار» أي دخول نار جهنم «غداً» أي يوم القيامة وأصل الغد اليوم الذي بعد يومك على أثره ثم توسعوا فيه حتى أطلق على البعيد المترقب، قالوا: أخبرنا قال: «على كل هين»؛ مخففاً من الهون بفتح الهاء وهو السكينة والوقار « لين» مخفف لين بالتشديد على فعيل من اللين ضد الخشونة «قريب» أي إلى الناس «سهل» يقضي حوائجهم وينقاد للشارع في أمره ونهيه.

قال الماوردي: بين بهذا الحديث أن حسن الخلق يدخل صاحبه الجنة ويحرمه على النار فإن حسن الخلق عبارة عن كون الإنسان سهل العريكة لين الجانب طلق الوجه قليل النفور طيب الكلمة كما سبق لكن لهذه الأوصاف حدود مقدرة في مواضع مستحقة فإن تجاوز بها الخير صارت ملقاً وإن عدل بها عن مواضعها صارت نفاقاً والملق ذل والنفاق لؤم (1)

وحاصل الكلام في حسن الخلق يدور على قطب واحد وهو بذل المعروف وكف الأذى وإنما يدرك ذلك بثلاثة أمور: "العلم، والجود، والصبر".

فالعلم يرشد العبد إلى مواقع بذل المعروف، والفرق بينه وبين المنكر، وترتيبه في وضعه مواضعه، فلا يضع الغضب موضع الحلم ولا بالعكس، والإمساك موضع البذل ولا بالعكس، بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها وموضع كل خلق أين يضعه وأين يحسن استعماله.

قال الحسن البصري: لا يزال العبد بخير ما علم الذي يفسد عليه عمله.

مدحوا عند الفضيل بن عياض رجلا وقالوا: إنه لا يأكل الخبيص، فقال الفضيل: وما ترك أكل الخبيص؟! انظروا كيف صلته للرحم! انظروا كيف كظمه للغيظ! انظروا كيف عطفه على الجار والأرملة واليتيم! انظروا كيف حسن خلقه مع إخوانه!.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطا وكلمتك لينة تكن أحب إلى الناس من الذي يعطيهم العطاء.

وقال يحيى بن معاذ: سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات.

وقال الجنيد: أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه، الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق وهو كمال الإيمان.

روي أن الربيع بن خثيم اشترى فرسا بثلاثين ألفا فغزا عليها وفي يوم أرسل غلامه (يسار) يحتش وقام يصلي وربط فرسه، فجاء الغلام فقال: يا ربيع أين فرسك؟ قال سرقت يا يسار قال: وأنت تنظر إليها؟! قال: نعم يا يسار، إني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجاة ربي شيء، اللهم إنه سرقني ولم أكن أسرقه، اللهم إن كان غنيا فاهده وإن كان فقيرا فأغنه ثلاث مرات.  

أما الجود فيبعثه على المسامحة بحقوق نفسه والاستقصاء منها بحقوق غيره فالجود هو قائد جيوش الخير، قال علي الثقفي: لا تقم على خلق تذمه من غيرك ولا تفعل ما لا يحمد منك حتى تصلحه من نفسك ولو بالتخلق.
وكان يحيى بن أبي كثير يقول: لا يعجبنكم حلم امرئ حتى يغضب ولا أمانته حتى يطمع فإنك لا تدري على أي شقيه يقع.

وقال ذو النون: إذا غضب الرجل فلم يحلم فليس بحليم لأن الحليم لا يعرف إلا عند الغضب.

عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب خادما له قط، ولا ضرب امرأة له بيده، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يكون لله، فإن كان لله انتقم له، ولا عرض له أمران إلا أخذ بالذي هو أيسر حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس منه.

وعن محمد بن القاسم أنه كان يكون بينه وبين الرجل المماراة في الشيء، فيقول له القاسم: هذا الذي تريد أن تخاصمني فيه هو لك، فإن كان حقا هو لك فخذه ولا تحمدني فيه، وإن كان لي فأنت منه في حل وهو لك.

وكان محمد بن واسع يقول: لا يبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة. وكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري ويقول: قد كان لها معنا صحبة.

وشتم رجل أبا ذر -رضي الله عنه- فقال له: يا هذا لا تغرقن في شتمنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.      

وأما الصبر فيحفظ عليه استدامة ذلك ويحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى وعدم المقابلة وعلى كل خير، وهو أكبر العون على نيل كل مطلوب من خير الدنيا والآخرة.

قال يحيى بن معاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.

وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن حسن الخلق؟ فقال: هو أن تحتمل ما يكون من الناس.

عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-  {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199]؛ وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله (2)

وعلى الدرب سار الأحفاد، ولا غرابة فهي ذرية بعضها من بعض .. خرج الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ذات ليلة ومعه حرس فدخل المسجد فمر في الظلمة برجل نائم فعثر به فرفع الرجل رأسه وقال: أمجنون أنت؟ قال عمر: لا، فهم به الحرس. فقال له عمر: مه! إنما سألني أمجنون أنت؟ فلقت لا.

إنها مكارم الأخلاق التي تستعذب النفوس الطاهرة كل مشقة في سبيلها .. قال سعيد بن العاص: يا بني إن المكارم لو كانت سهلة يسيرة لسابقكم إليها اللئام، ولكنها كريمة مرة لا يصبر عليها إلا من عرف فضلها ورجا ثوابها.

_______________

(1) فيض القدير للمناوي 1/254

(2) البخاري ـ كتاب تفسير القرآن برقم  4276

•  صلاح الأمة في علو الهمة  د/ سيد العفاني ج 5
• الآداب الشرعية لابن مفلح

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 11,053

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً