باطن العمل

منذ 2016-03-25

ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ، فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ، ألا وهِيَ القَلبُ

باطن مشرق وظاهر مؤثر


العمل ركن ركين في العقيدة الإيمانية، وعقيدتنا ليست فلسفة نظرية أو نظريات جدلية، بل هي تطبيق تنفيذي لما استقر ووقر في القلوب وعقد فيها.

 

ولهذا اتفق أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل، أو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.

 

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ، فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ، ألا وهِيَ القَلبُ» متفق (صحيح مسلم؛ برقم: [1599]، صحيح البخاري؛ برقم: [52]).

 

وقال الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل".

 

وقال شيخ الإسلام: "فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملًا قلبيًا لزم ضرورةً صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلى العابث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه". (مجموع الفتاوى: [7/187]).

 

لذلك فلا تكفي مجرد أمنيات الصلاح أن تصلحه أو تغير أحواله، بل هي تحتاج الى جهد وبذل وعمل، وصبر وعطاء.

 

والعمل الفعلي يبتدىء بالقلب، فللقلب عمل هو الأهم على الإطلاق في دفع النفس للتقدم والإنجاز، فالقلب هو المحرك الاساس للجوارح، والمبادئ التي يعتقدها الإنسان تترجم إلى أعمال وأقوال، وسعي، واجتهاد. وكلما زاد الإيمان في القلب زادت آثاره على الجوارح.


وبين لنا سبحانه نموذجًا رائعًا للمؤمن المجتهد الخاشع حي القلب عندما يعمل ويبذل ويعطي انطلاقا من قلبه، ويظل يخشى ويخاف ألا يتقبل منه، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61].

 

فالعزيمة عمل قلبي، والإخلاص عمل قلبي، والصبرعمل قلبي، وهذه الثلاثة هي أساس نجاح أي عمل.

 

قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد من الآية: 11]، فالتغيير الفعلي إنما هو نتاج تفاعل في عمق النفس البشرية الثائرة، تفاعل إيجابي يدفع الجوارح والظواهر كلها لتتبدل نحو الإصلاح الذاتي، لقد شاء الله سبحانه أن يجعل ذاك التغيير الباطن للصلاح خطوًا أساسيًا لكل خير منتظر.

 

فلا بد أن ينطلق التغيير في المجتمعات من داخل نفوس أبنائه، ورغبتهم الفعالة في تعديله وتصحيح مساره، متخلين عن الأنانية البائسة، وعن المصلحة المذلة، ساعين خلف معاني الأهداف النبيلة التي جعلها الله ليحيا بها البشر معًا.

 

إنه إصلاح باطن يفرض نفسه حتمًا إذا أراد المرء صلاح دنياه ونيل الخير الذي يرتجيه، والنجاح الذي يحلم به، والفلاح الذي يأمله.

 

والأمر ذاته في ظروف المعاناة وأحوال الألم، فالحزن قرين أيام الدنيا، إلا أن لذة الإيمان في عمق النفس والرضا بقضاء الله يحولان الأحزان إلى نوع آخر من الألم، قد يستشعر المرء أثره دون أن يصيبه منه الأذى، فهو قاهر لمظاهر الألم، ومقيد لصرخات الآه.

 

والناظر لضيق ذات اليد على أنها فقر ومعاناة، قد تتغير نظرته بعد أن يُعلم نفسه معنى القناعة، وعندئذ يبدأ في الغنى الحقيقي الفعلي الذي يجعله يستغنى عن الناس كل الناس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغِنَى عن كثرةِ العَرَضِ . ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفسِ » (صحيح مسلم؛ برقم: [1051]).

 

والتارك عينه تحوم حول ما متع الله به الآخرين حسدًا وحقدًا، سيظل يتألم مهما نظر وحسد، ولن يتغير حاله إلا عندما يقتل ذاك الشر العميق في نفسه والسوء المتغلغل في باطن ذاته، فيعلمها الرضا بقدر الله ورزقه، ويرضيها بما قسمه له ولئن هذبها من داخلها، فهو عندئذ مؤذن بخير ينتظر، وبركة تعم قد تغنيه عن كثرة الأموال وكثرة العرض.


ومتمني العلم والفهم سيظل جاهلًا منكسرًا تجاه العلوم ما دام متكاسلًا عن البدء في حلقات الدرس، ومستحيًا من السؤال والمدارسة.


بل إن الداعية الذي يتمنى الأثر الإيجابي في مجتمعه ستظل أمنيته قاصرة مالم يسع بجد نحو فهم واقعه، وتعلم دينه، وتحسين خلقه، وتعلم أساليب محادثة الناس ومحاورتهم وإقناعهم ..الخ


لقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنِّي أتقاكم للهِ وأخشاكم له» (صحيح ابن حبان؛ برقم: [3538])، وكان يقوم معظم الليل مصلياً متهجداً تفيض عيناه بالدموع، وقد ملأ قلبه جلال الله وهيبته، وسكنت نفسه وجوارحه لربه خشوعاً وخشية، وقال علي رضي الله عنه وقد سلم من صلاة الفجر، لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم فقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم مثال ركب المعزى. قد باتوا لله سجداً وقياماً يتلون كتاب الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، فإذا أصبحوا ذكروا الله فتمايلوا كما يميل الشجر في يوم الريح. وهملت أعينهم بالدموع حتى تبتل ثيابهم.

 

إنها خطوات تنفيذية إذن، مبدؤها القلب، وعزيمة لا تكل، وصبر يصاحب اليقين، وجهد وعطاء، وخشية وتوكل على الله سبحانه على طول السبيل.

 

د. خالد رُوشه

  • 1
  • 0
  • 5,721

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً