غرس العادات الطيبة في الأطفال
إن أهم وظائف التربية في مرحلة الطفولة: إكساب الطفل مختلف العادات الصالحة، إلى جانب الاتجاهات السليمة المرغوب فيها، والعادات التي نريد غرسها في الأطفال ليعملوا بها هي أنماط من السلوك الإسلامي المتميز. إن غرس العادة يحتاج إلى فترة زمنية غير يسيرة، فلا يكفي أن نقول للطفل: اعمل كذا وكذا.. ثم نلتمس بعدها أن تتكون عنده العادة التي نسعى إليها.. بل لا بد من التكرار والمتابعة، رغم أن تكوين العادة في الصغر أيسر منه في الكبر، ومن أجل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء بتعويد أبنائهم الصلاة قبل موعد التكليف بها بقوله: « » (رواه أبو داود وأحمد والدارقطني والحاكم، وإسناده حسن). ومن هنا كانت فترة الطفولة من أنسب الفترات لتعويد الصغار آداب الطعام والشراب والجلوس والنوم والتحية والاستئذان والحديث وقضاء الحاجة.. وغيرها.
وتعتبر القدوة الطيبة الصالحة عند المربية خير معين على تكوين العادات الطيبة؛ لذلك يعتبر من الأهمية بمكان التزامها بالخلق الحسن، إذ تحاسب نفسها على كل كلمة أو حركة، فلا تسمح لنفسها بالتراشق بكلمات سيئة مع الآخرين؛ لئلا تنطبع في ذهن الطفل فيسعى إلى تقليدها، بل تعطي جهدها لتسن السنة الحسنة بحسن سلوكها؛ لتنال أجرها وأجر الأمانة التي بين يديها "الطفل المسلم".
إننا حين نود غرس العادات الطيبة لا بد أن نحاول مكافأة الطفل على إحسانه القيام بعمل ما، الأمر الذي يبعث في نفسه الارتياح الوجداني وحب ذلك العمل؛ فالتشجيع مطلب لا غنى عنه، وهو واجب لا تغفله المربية الحكيمة، فلابد من الحوافز والتشجيع لمعالجة الخطأ أو للنهوض بالطفل نحو الأفضل. والتشجيع قد يكون بأمور مادية ملموسة كإعطاء الطفل لعبة أو حلوى، وقد يكون معنوياً يفرح به كالمدح والابتسام والثناء عليه أمام الآخرين. ولا يفوتنا أن نذكر أن كثرة مدح الطفل، أو التهويل في تفخيم ما أتى به من عمل بسيط؛ يُضر به وقد يؤدي إلى نتائج عكسية. فالشكر يجب ألا يكون إلا على عمل مجد؟
والإسلام إذ دعا إلى شكر صانع المعروف، نهى عن الإطراء والمبالغة في المدح، وهذا توجيه تربوي مهم يلتزمه المربي فلا يُكثر من عبارات الاستحسان؛ لئلا تفقد قيمتها وتدخل الغرور إلى نفس الطفل، فقد يصل به الأمر إلى أن يقول ـ مثلاً ـ لزميله: أنا أحسن منك. وكذلك إذا أحست المربية أن الثواب يمنع الأطفال من الإحساس بالواجب، فلا يعينون بعضهم إلا إذا أخذوا قصة... ولا يطيعون المربي إلا إذا أخذوا الحلوى.. عندها يجب أن يتحول التشجيع إلى إلزام، وقد يضطر الأمرُ المربية إلى العقاب آنذاك. فالعقاب: طريقة تلجأ إليها المربية عندما تُخفق الطرق العادية عندها (من تعلم، وتعاون، ونظام) والعقاب ليس مرادفا للتربية، حيث يظن البعض أن التربية تعني الضرب والشدة والتحقير... بينما الواجب ألا يغفل المربي عن مساعدة الناشئ للوصول إلى أقصى كمال ممكن؛ فيسعى إلى إسعاد الطفل وتهذيبه من غير إرهاق له ولا تدليل، فالأصل ألا يعالج المسيء بالضرب أو القسوة؛ إذ يؤكد الواقع أن العقاب تقل الحاجة إليه كلما ازدادت حكمة المربية، إذ تبتعد عن الأسباب المؤدية إلى العقاب، كأن تبعد الطفل عن مواقف العصيان والتمرد.. (فكيف تمنعه مثلا من إكمال لعبة يحبها وينسجم معها، ثم تحذره من العصيان؟!)؛ لذا كانت المعاملة المبنية على الحب والعطف، لا الإرهاب والقمع، هي خير معين للوصول إلى النتائج المرجوة، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فالمربية الناجحة تعطف على صغارها وتعالج أخطاءهم بحزم وصبر وأناة وتحمل، فلا تكون سريعة الغضب كثيرة الأوامر؛ لئلا تفقد احترام أطفالها. تعودهم احترام مشاعر الآخرين وتساعدهم على معرفتها، كأن تقول: - انظر كيف ضربت جارك (أخاك) فهو يبكي! - أخذت ألعابه وهو حزين! وبذلك يتدرب الصغار على محاسبة أنفسهم فيبتعدون عن الأنانية وحب الذات، وهكذا.. تراعي أحوال أطفالها، وتقدر العقوبة بحسب الحال. ولا تلجأ إلى العقوبة الأشد إذا كانت الأخف كافية، فمن كان يتلقى التشجيع تكون عقوبته الكف عن التشجيع، وقد تكون الإعراض عن الطفل وعدم الرضا، وقد تكون العبوس والزجر.. إلى الحرمان من الأشياء المحببة للطفل. أما الضرب فلا ضرورة له البتة، ذلك أن من يعتاد الضرب يتبلد حسه، ولن يزجره وجه عابس، ولا صوت غاضب، ولا تهديد ووعيد، وكثيرا ما يعبر الأطفال عن استهانتهم بعقوبة الضرب وإقدامهم المقصود على المخالفة بقولهم: "ضربة تفوت ولا أحد يموت"، وأي عقوبة قد تظل شيئاً مرهوناً في بادئ الأمر، ولكنها إن تكررت كثيراً تفقد شيئاً من تأثيرها كل مرة. ومن صفات العقوبة الناجحة:
1- أن يكون العقاب مناسباً للعمل، فمن وسخ ينظف، ومن مزق قصة يحرم من القصص لفترة. ولا يكون من الخفة بحيث لا يجدي، أو من الشدة بحيث يجرح عزة النفس.
2- أن يكون عادلاً، فإن عوقب طفل لأنه ضرب زميله؛ لابد أن يُعاقب من يعمل مثل ما عمل. وإن عوقب لأنه سرق متاع أخيه؛ لا يضحك الأهل له لأنه سرق متاع أخيه.
3- أن يكون فورياً؛ ليتضح سبب العقاب، فيتلو الذنب مباشرة.
4- أن يخفف بالاعتراف؛ ليتعود الأطفال فضيلة الصدق.
5- التدرج في إيقاع العقوبة، فيوبخ سراً في البداية؛ لأن من اعتاده جهاراً حمله ذلك على الوقاحة وهان عليه سماع الملامة. أما إذا وجد المربي أن الأصلح الردع لضخامة الخطأ ومنعاً لمعاودته، فلا مانع من استعمال العقوبة الأشد؛ لئلا يستهين الطفل بالذنب.
6- ألا يتوعد الطفل بما يسيء إلى المبادئ والمثل، كأن يقال: إن عملت كذا سأضربك إبرة، مثلاً... (حتى لا يعتاد الخوف من الطبيب).
7- عدم تكرار الوعيد والتوبيخ الذي لا جدوى منه، إذ يتعلم الطفل عدم الاكتراث والاستمرار في العصيان .
8- البعد عن استخدام ألفاظ: سيئ، بليد، وما شابه هذه الألفاظ؛ لئلا يعتادها الطفل فيتبلد إحساسه. وكذا عدم الاستهزاء به بندائه: يا أعرج، يا أعور... أو مناداته: يا كذاب، يا لص، فيتجرأ على الباطل بهذا النداء، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ولا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
9- عدم مناقشة مشكلات الأطفال أمام الآخرين، فالانتقاد اللاذع للطفل ومقارنته السيئة مع الآخرين خطأ فاحش يؤدي إلى إثارة الحقد والحسد، وهذا أدب علمنا إياه الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلمح ويعرض ولا يصرح، يقول: ما بال أقوام! يفعلون كذا وكذا....
10- أن تتحاشى المربية شكوى الطفل إلى والده أو مدرسته، إلا في الحالات التي تحتاج إلى مساعدة الغير، وبدون علم الطفل؛ لئلا يفقد الثقة بها. وإذا وقع العقاب من أحد الأبوين، فالواجب أن يوافقه الآخر، وكذا إن وقع من المعلمة فلا تناقض الأسرة المدرسية (من مديرة وإداريات ومعلمات) رأي المعلمة ويشعر الطفل بذلك، وإلا فلا فائدة من العقاب.
11- أن يشعر أن العقوبة لمصلحته لا للتشفي وليس سببها الغضب.
12- ألا تعطي المربية وعوداً بالثواب بأشياء لا تستطيع الوفاء بها، وإلا لن تنفعها النصائح والتوصيات المتوالية بالصدق. أما التهديد فلا ضرر بعده من عدم تنفيذ العقاب، وإنما يمكن أن يستتاب الطفل دون تنفيذ التهديد، بشرط واحد.. هو ألا يعتقد الطفل أن التهديد لمجرد التهديد لا للتنفيذ، فينبغي أن ينفذ التهديد أحياناً حتى يعتاد الطفل احترام أقوال المربية.
13- الاهتمام بالثواب أكثر من العقاب، وذلك بسبب الأثر الانفعالي السيئ الذي يصاحب العقاب. أما الاستحسان ففيه توجيه بنّاء لالتزام السلوك المرغوب فيه وحب الخير أكثر منه الكف عن العمل المعيب.
وأخيراً، فالمربية في يقظة تامة، ومتابعة مستمرة لأطفالها ومحاسبة لنفسها، تراعي في تصرفاتها أن تكون بحكمة وروية. وأن تكون طريقها في التربية خالية من الفوضى، وبنظام خال من التزمت، حازمة؛ لأنها تعلم أنها لن تسدي لطفلها صنيعاً إن استسلمت لرغبته، فبالحزم يتعلم الطفل التعامل مع بعض الظروف القاسية في المستقبل إذا خرج إلى معترك الحياة. لا يفوتها تشجيع ذي الخلق من أطفالها، ولا الحزم مع العابث المؤذي؛ فتحاول انتشاله مما هو فيه، مراعية تناسب العقاب مع الخط. ولتعويد الأطفال الطاعة ينبغي على المربية أن تراعي: - عدم إعطاء أوامر كثيرة مرة واحدة. - البعد عن الاستبداد والصرامة، وعدم اللجوء إلى التهديد أو الرشوة. - متابعة تنفيذ الأوامر والتحقق من الاستجابة. - الطلب الرقيق أعظم أثراً من التأنيب. - طلب تنفيذ أمر محدد واضح يساعد على الاستجابة أكثر من طلب أمر عام وعائم. - عدم تعجيلهم؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تأخيرهم أكثر من الإسراع، مع إشعارهم بالثقة بأنفسهم. وختاماً.. فالمربية بحسن حكمتها تضع الأمر في نصابه، وهي مهمة شاقة.. مهمة بناء الأجيال! والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
خولة عبدالقادر درويش
المربية الفاضلة الأديبة خولة عبدالقادر يوسف درويش رحمها الله. توفيت ليلة السبت 22 رجب 1437 هـ الموافق 29 أبريل 2016. بعد عمر قضته رحمها الله في التأليف للبيت المسلم وللمرأة المسلمة وللطفل المسلم. أصدرت 22 كتابا، وكثيرا من المقالات.
- التصنيف:
- المصدر: