البلايا تحن إلى اللبيب

منذ 2016-05-25

ومن البلاء ما ينطوي على مدلول تربوي وبُعد قيمي يحقق للشخصية المسلمة من التوازن وسمو النفس ما لا تدركه عبر صيغ التعبد المألوفة، كما يصقل معدنها ويحررها من آفات الغفلة والركون إلى الدعة والملذات.

يتولد عن البلايا التي تفجأ المسلم اللبيب في مسيرة حياته ثمرتان هما: الصبر والرضا.

أما الصبر فلعلمه بأن قضاء الله لا راد له، وأن الحق سبحانه هو وحده القادر على أن يرفع عنه البلاء، ويعيد لحياته الطمأنينة والسكينة فيصبر. وأما الرضا فليقينه بأن الله تعالى هو أرحم الراحمين، وأن في طيات المحنة نعمة وثوابا وحكمة، فيقابل البلية بارتياح ضمير، ويسأل ربه أن يرزقه البصيرة كي يتلمس تجليات حكمته سبحانه فيما قدره على عبده من محن ونوائب.

فما بال شبابنا اليوم يدفع بحيرته وتساؤلاته إلى حد الاعتراض على البلاء بزعم أن أهل المعصية أولى به، وأن من آمن وأطاع (يجب) أن يعيش في نعيم ورغد دون أن تعترض حياته نكبات، أو تعتري سماء وجوده غيوم واضطرابات؟ أهو منسوب التربية الإيمانية الذي بات يشهد انخفاضًا ملموسًا على مستوى الفكر والسلوك؟ أم هي القيم التي تتذبذب ناشئتنا بين الولاء لها أو أن يستبدل بها قيمًا أخرى تتلاءم مع متطلبات العصر؟

لا شك أن الأسرة ببعض تمثلاتها الخاطئة، والإعلام بمقولاته وأدواته المجلوبة من ثقافة أخرى قد أسهما في حدوث التباس لدى المسلم المعاصر بشأن علاقة الأسباب بالمسبب، إذ بات البلاء في عرفه ثمرة معصية أو ظلم واعتداء على الآخر، وبالتالي لا يليق بمن تجنبهما أن يكون محل ابتلاء.

هذا الفهم الذي لا يستقيم مع ما تقرره الآيات القرآنية والسنة النبوية يحتاج إلى مراجعة متأنية تعيد لفقه الابتلاء اعتباره في وجدان المسلم وفكره وسلوكه، خاصة وأن الجيل الناشئ لا يخفي عجزه عن تبين الحكمة من صور البلاء المتعددة التي يضج بها واقع العالم الإسلامي اليوم، وهل يتعلق الأمر بتمحيص واختبار لرفع الدرجات، أم بعقوبة عاجلة على ما أحدثه الفرد من فساد وانحراف قيمي؟!

تُنسب للفضيل بن عياض قولة طريفة تحيل على ما ينبغي أن يتمتع به المسلم من قراءة موضوعية للمُلمات التي تُربِك سير حياته اليومية. يقول الفضيل: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك من خُلُق خادمي وحماري"، أي أنه يستشعر مخالفته للمنهج في تجليات وأفعال قد لا يعيرها الآخرون اهتمامًا من قبيل تلكؤ خادمه وعصيانه، أو عناد حماره!

هذه الدقائق والتفاصيل التي لا نلقي بالًا لأسبابها، كانت عند الفضيل وأمثاله من الصالحين مدعاة للتساؤل حول سر حدوثها، ومقدمات أو إشارات يجدر التنبه لها والتقاط الحكمة منها بما يدفع لمحاسبة النفس ومراجعة السلوك. كل ذاك الاستشعار والتنبه مرده إلى إلمام بفقه البلاء والابتلاء، وإدراك أن لكل ما يصدر عن المرء من أفعال، سيئة أو حسنة، ثمارًا عاجلة وأخرى آجلة، والحازم من يسارع إلى التوبة والاستغفار قبل أن تثمر زلاته بلاء أدهى وأمر!

لكن ليس كل بلاء ثمرة لمعصية، بل إن منه ما يندرج ضمن لوازم اصطفاء أفراد مخصوصين للقيام بمهام النبوة، وأداء الرسالة وتبليغ دعوة التوحيد. وما من نبي أو رسول إلا وغدا الابتلاء قرين رحلته في مواجهة العقائد الفاسدة، والتصدي للانحراف الفكري والسلوكي في محيطه الاجتماعي، وضمن هذا السياق ورد الحديث الشريف: «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ» (صحيح الجامع: [993]).

لذا فالبلايا في هذا المقام، مقام النبوة والاصطفاء، هي تشريف ورفع للدرجات، وتقديم النموذج المثالي الذي يقتدي به المسلم في مواجهته للشدائد.

ومن البلاء ما يندرج ضمن لوازم الاختبار والتمحيص الواجب قبل إثبات صفة الإيمان، وجدارة الانتساب إلى خير أمة أخرجت للناس. ومنه ذاك الذي  لقيه الصحابة في صدر الإسلام، وما يتعرض له حتى اليوم كثير من العاملين في الحقل الإسلامي، قيادات وأتباعًا، وزمرًا وأفرادًا آمنوا بأن الفكرة الإسلامية يمكن أن تتجاوز حدود المنبر وحلقة الوعظ، لتسهم في تحسين الظروف الاجتماعية، وتحقيق العدل وضمان حقوق الإنسان.

إنه بلاء لتثبيت الإيمان، ورفع الدرجات، وفصل الشوائب عن النسيج حفظًا لتماسكه!

يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (الصبر في القرآن): "إنما كانت المحن ضرورة لأهل الإيمان لجملة معان وحكم نبه عليها القرآن، منها: تطهير الصف المؤمن من أدعياء الإيمان من المنافقين والذين في قلوبهم مرض. فإبان العافية والسراء يختلط الحابل بالنابل، والخبيث بالطيب، وإنما يقع التمييز بين الأصيل والدخيل بالمحن والبلاء، كما يتميز الذهب الحقيقي من الزائف بالامتحان بالنار".

ومن البلاء ما ينطوي على مدلول تربوي وبُعد قيمي يحقق للشخصية المسلمة من التوازن وسمو النفس ما لا تدركه عبر صيغ التعبد المألوفة، كما يصقل معدنها ويحررها من آفات الغفلة والركون إلى الدعة والملذات.

وفي آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ما يُلمح إلى هذا المقصد:

يقول الله عز وجل مقررا المقصد الأسنى من سنة الابتلاء في المجتمع المسلم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].

ويقول سبحانه: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران من الآية:154].

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يُرِدِ اللَّهُ بِه خيرًا يُصِبْ مِنهُ» (صحيح البخاري: [5645]).

وروى الترمذي بإسناد حسن صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ، حتَّى يلقَى اللهَ وما علَيهِ خطيئةٌ» (سنن الترمذي: [2399]).

إن نزول البلاء بساحة المؤمن يحرره -كما أسلفت- من الجمود على حالة واحدة للتدين لا يفارقها، إذ يُحدث في النفس رجة تستحث صاحبها للتنقل بين وجوه التدين الأخرى التي قلما يلتفت إليها في حال العافية.

فلولا البلاء ما تذوقت النفس معاني الصبر والرضا والاحتساب، ولا لهجت الألسنة بالدعاء الحار أو تضرعت للحق سبحانه برفع الكرب ودفع المحنة.

يقول ابن الجوزي في (صيد الخاطر): "ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة ويتجنب المحظورات فحسب. إنما المؤمن هو الكامل الإيمان، لا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يُساكن نفسه فيما يجري وسوسة. وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه.. والإيمان القوي يبين أثره عند قوة البلاء".

وردت في ثنايا مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ربه إثر حادثة الطائف عبارة بليغة تتحات أمامها مظاهر السخط والتذمر التي تختلج في قلب المسلم كما يتحات الورق اليابس. عبارة تخفف وقع البلايا وتضيء نبراس العقل ليحث صاحبه على رفع الخلل والاعتذار عن الزلل: «إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي».. نعم، لأن البلاء المحض كما يقول ابن الجوزي ما يشغلك عنه، أما يقيمك بين يديه ففيه جمالك ورفعتك.

إن البلايا اليوم تحن إلى اللبيب الذي يستحضر هذه المعاني والدقائق، فيتلمس المنحة في طيات المحنة، ويستحضر لحظة البلاء أن الآمر بذلك هو أرحم الراحمين!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 4
  • 0
  • 16,460

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً