تذوق المعاني - [25] أذكار الصباح والمساء (4)
قال القرطبي: "قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر"، وقيل معناه: الشافية الكافية، وقيل الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه هدى وشفاء، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.
عَن خَوْلَةَ بِنْت الحَكِيمِ قالت: سمعت رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يقَولَ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثم قالَ أَعُوذُ بِكلِمَاتِ الله التّامّاتِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرّهُ شيءٌ حَتّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» (صحيح مسلم [2708]).
«مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً»: يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم.
«أَعُوذُ»: اعتصم والتجئ وأحتمى.
كلمات الله: «كلِمَاتِ الله»: هي القرآن.
و«كلِمَاتِ»: جمع قِلة دال على الكثرة لوجود الدليل، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، وأبلغ من هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
«التّامّاتِ»: الكاملات المنزهات عن كل نقص وعيب.
قوله: «التّامّاتِ»، تمام الكلام بأمرين: الصدق في الأخبار والعدل في الأحكام.
قال القرطبي: "قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر"، وقيل معناه: الشافية الكافية، وقيل الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه هدى وشفاء، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.
ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك".
وقال ابن القيم: "ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداماً، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به".
«مِن شَرّ مَا خَلَقَ»: من كل مخلوق فيه شر.
قوله: «مِن شَرّ مَا خَلَقَ»، أي: من شر الذي خلق، لأن الله خلق كل شيء: الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه، لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، فكان خيراً. وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر، لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
- شر محض؛ كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير.
- خير محض؛ كالجنة، والرسل، والملائكة
- فيه شر وخير؛ كالإنس، والجن، والحيوان.
وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر، قال ابن القيم رحمه الله: "أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسياً أو جنياً، أو هامة أو دابة، أو ريحاً أو صاعقة، أو أي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة".
والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه.
«حَتّى يَرْحَلَ»: حتى ينتقل.
«لَمْ يَضُرّهُ»: لم يصبه أذى ولا ما يؤدّي إلى الأذى.
الشرح الإجمالي
تخبرنا خولة بنت حكيم - رضي الله عنها - بأن النبي صلى الله عليه وسلم سن للمسلمين هذه الاستعاذة عوضاً عن الاستعاذة بالجن وغيرهم من المخلوقات، وأخبر أن من استعاذ واعتصم بكلمات الله الكاملة المنزهة عن كل نقص وعيب، فإن الله سيكفيه شر كل مخلوق فيه شر حتى ينتقل من مكانه الذي استعاذ فيه.
قوله: «لَمْ يَضُرّهُ شيء»، نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله، لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.
ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره والشاهد من الحديث: قوله: «أَعُوذُ كلِمَاتِ الله».
والمؤلف يقول في الترجمة: الاستعاذة بغير الله، وهنا استعاذة بالكلمات، ولم يستعذ بالله، فلماذا؟ أجيب: أن كلمات الله صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق، لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز في مثل هذا الأمر، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة بها.
ولهذا كان المراد من كلام المؤلف: الاستعاذة بغير الله، أي: أو صفة من صفاته.
وفي الحديث: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»، وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته، ولم يستعذ بالله، والعزة والقدرة من صفات الله، وهي ليست مخلوقة، ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته، لأنها غير مخلوقة.
أما القسم بالآيات، فإن أراد الآيات الشرعية، فجائز، وإن أراد الآيات الكونية، فغير جائز.
أما الاستعاذة بالمخلوق، ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه، فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة"، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله، لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله، سوى الله، ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بأصحاب القبور، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون، فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيداً عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه، فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في (تيسير العزيز الحميد)، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في (صحيح مسلم) لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتن، قال: "فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به".
الفوائد:
1. بيان بركة هذا الدعاء.
2. أن القرآن منزل غير مخلوق.
3. أن الاستعاذة لا تكون إلا بالله أو بصفة من صفاته.
4. بيان كيفية الاستعاذة المشروعة.
5. بيان شمول القرآن وكماله.
6. هذا ما شرعه الله لأهل الإسلام، أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته.
7. فضل هذا الدعاء، وأنه ينبغي العمل به.
8. يستحب قول هذا الدعاء عند نزول منزل، ويدل على فضل هذه الاستعاذة وأنها من أسباب العافية من شر الجن والإنس.
9. فيه التوسل بصفات الله.
10. أن القرآن منزل غير مخلوق، والرد على الجهمية والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن، لأنه لو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر بها النبي بالاستعاذة بها، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
- التصنيف:
- المصدر: