الصيف أمل وألم

منذ 2010-07-05

الألم والأمل اشتركتا في الحروف، ولكنهما يختلفان في المعنى فشتَّان بين ألم يقطع الأواصر، ويباعد عن الحق، ويقرِّب من الباطل، وأمل تُشرق به النفس، وتلتذُّ بحروفه الألسن، وتعلو به الحياة همة ورقيَّا.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يُحب ربّنا ويرضى، حمداً يليق بجلاله وعظمته، والصلاة والسلام على الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

ثم أما بعد: فيا رب..


بك أستجير ومن يُجير سواك *** فأجب فقيراً يحتمي بحماك
يا رب أذنبت فأغفر زلّتي *** أنت المجيب لكل من ناداك



أيها القارئ الكريم:

هذه ومضات محبة، ونبضات مودة، وهمسات أخوة، أُرسلها لك هتاف من فؤادٍ مشفق، وبنان مخلص، إنها مما يختلج في الفؤاد ويسكن في الصدر ويمتزج بالقلب ويهيمن على الذهن من ألم وأمل.

ألم لِما وصل إليه الحال وانتهى إليه المآل من قلوب متباينة في الوعي، وأنفُس متشنجة في الفهم فلم تعرف للزمن قيمة ولا للحياة ثمن.

وأمل في صحوة القلوب من غفلتها، واستفاقة العقول من سباتها وانتباهة للمشاعر من تيهها، والتفاتة للنفوس للمبادرة إلى ترميم حبال الوقت، وإقامة جسور الهمّة، وتشييد صروح الحق، واجتماع الشعور والمشاعر حتى تلتقي الأرواح والأجساد معاً.
 

نحن من نعمائه حلف إخاء *** قلبنا والروح واللفظ سواء


إنه لمن دواعي سروري أن أكتب لك عن الصيف، هذا الوافد الكريم الذي كان السلف يحبونه حتى قال أحدهم: "صوموا يوماً شديداً حرّه ليوم النشور".


عزيزي القارئ:

الوقت قيمة نبيلة، وشعيرة عظيمة، سريع التقضي أبي التأتي، ولأهميته أقسم الله به {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2]، {وَالضُّحَى} [الضحى:1]، {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] وغيرها.

الوقت عمرك وحياتك، فاعمل فيه ما يقربك من ربك وإلا فالوقت يُقطع والعمل مَجزي به.. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} [فصلت:46].
 

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أهون ما عليك يضيع
 


أيها القارئ الكريم:

الألم والأمل اشتركتا في الحروف، ولكنهما يختلفان في المعنى فشتَّان بين ألم يقطع الأواصر، ويباعد عن الحق، ويقرِّب من الباطل، وأمل تُشرق به النفس، وتلتذُّ بحروفه الألسن، وتعلو به الحياة همة ورقيَّا. وعلى هذا فلا يجتمع الحسن والقبيح، ولا النور والظلام، ولا الألم والأمل.

الصيف أمل وألم، في فراغه وعمله، وقضائه وانقضائه، وفي حره واعتداله... في كل هذا، الصيف أمل وألم...

الصيف أمل للمتزوجين لبناء حياة جديدة، وأسرة سعيدة على منهج الله ورسوله ترفرف فوقهم السعادة وتعمِّر حياتهم البهجة، يستقبلون أبناء صالحين وبنات عفيفات ليدعموا بناء الأمَّة بلبنات صالحات تُعزز البناء في زمان كثر فيه الهادمون.


ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى *** فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم



لذا فالصيف أمل للمتزوجين حياة كالضياء وعيشة هي النقاء وقلباً كالصفاء.

الصيف ألم لمن يسافر إلى بلاد خُلعت فيها الكرامة وسُلخ فيها الحياء، فلا همَّ لهم إلا الدرهم والدينار، شهوة وشبهة، ليلهم نهار، ونهارهم ليل، يعيشون هناك ما بين سكرة وشهوة، أضاع دينه وخلقه وما علم أنه "«لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به».

الصيف أمل لعابد مشرق الوجه والزمان يعيش عيشة ناضرة إلى ربها ناظرة، يتشوق لنفحات ليل أزهرت نجومه.
 

قلت لليل كم بجوفك سر أخبرني ما أروع الأسرار
قال ما سمعت في حياتي حديثاً كحديث المنيبين في الأسحار


وعلى هذا فليل الصيف أمل لعابد صَفَّ في محراب السحر{سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] يتلو آية فيجد قلبه وروحه تتألقان في روح وريحان، وحياته هناء وصفاء، ووجهه نور وألق. سئل الحسن البصري رحمه الله: ما بال المتهجدين لهم في وجوههم نور؟ فقال رحمه الله : "أولئك قوم خلوا بالله فأكسبهم نوراً من نوره" فهنيئاً لأصحاب الأمل الخالد والعمل التالد.

والصيف ألم لأقوام ما عرفوا في الليل إلا الظلام، زعموه ساتراً لقضاء شهواتهم مابين أغنية ومزمار، ومسرح وطار، وفيلم وأوزار، على الأرصفة يلهون، وعلى الأعراض يتلصصون بالأبصار والأسماع، فهداهم الله من أقوام ما عرفوا لليل جميل أسراره، وفيض أستاره، وجلالة أنواره.
 

خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى



الصيف أمل لصلة الأرحام وزيارتهم، فكم من قريب عققناه، وكم من رحم قطعناه، «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت :هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال الله : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك.قالت: بلى. قال: فذلك لك» (صحيح مسلم:2554). هذا لفظ الحديث في صحيح مسلم ولعل الكاتب الكريم استشكل اللفظ.


وإن الذي بيني وبين بني أبي *** وبين بني عمي لمختلف جداً
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس رئيس القوم يحمل الحقدا
 

والصيف ألم للبطّالين الذين لا همَّ لهم إلا تضييع أوقاتهم في قيل وقال في مجالسهم ومنتدياتهم، وكثرة السؤال فيما ليس من ورائه ربح في دنيا ولا فلاح في آخرة. وإضاعة المال في الإسراف والتبذير وسفاسف الأمور وقبيح الفِعال .


قال ابن القيم رحمه الله : "السنة كشجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد وعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرّها".



الصيف أمل لمن أراد العمرة وزيارة الديار المقدسة، عمرة لله خالصة حتى تكون كفَّارة. "والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما".

وكن ممن زار مسجد الحبيب عليه السلام وصلّى فيه، تنل أجراً عظيماً وعملاً رشيداً، وتذكَّر أن الديار المنورة سار على ثراها الحبيب عليه السلام، ودرج عليها أصحابه الأطهار،فعسى أن تكون خطوة على خطوة، وطريق على طريق. "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".


أتيتك ماشــــــياً وودت أني *** ملكت سواد عيني أمتطيه
ومالي لا أسير على المآقي *** إلى بلد رسول الله فيه



الصيف أمل للآمرين بالمعروف على علم والناهين عن المنكر بحكمة، فبهذه الشعيرة يصلح المجتمع ويكثر الخير ويضمحل الشر ويقل المنكر، وبإضاعة هذه الشعيرة يتفرق المجتمع وتقسو القلوب وتظهر الرذائل ويصعد صوت الباطل.

فيا من جعل صيفه أمل، من حق إخوانك عليك نصحهم وتذكيرهم أمراً ونهياً، واعلم أن هذا من تكفير الذنوب «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، تكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (صحيح مسلم:144). هذا هو لفظ الحديث في صحيح مسلم

الصيف ألم على وليٍّ ضيع أمانته في تذكير ولده بأهمية الوقت وحسن الرفقة وسلامة النفس والحفاظ على أعراض الناس.
 


الصيف ألم على من فرّط في تذكير ابنته بالحجاب الشرعي والعفّة، وأن قيمة المرأة بحيائها. وأن السياحة في الأرض والخروج للتنزه ليس معناها الخروج عن آداب الإسلام وخُلقه.

الصيف أمل لأب كريم وجّه أبناءه إلى استغلال أيام فراغهم في مراكز التوجيه ومحاضن التربية ينهلون الخُلق ويتربون على الحق يحفظون آية وحديثاً ويتنفسون أدباً وحكمة، يعلمون قول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير البيت الذي ليس فيه من كتاب الله تعالى شيء، وأن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خرب كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه". سند هذا الحديث من قول ابن مسعود - موقوفا - فيه كلام وهذا - حسب بحثي - أكثر الألفاظ صحة، وأقربها للفظ الذي استخدمه الكاتب.

والصيف أمل للكُتّاب والمربين ودور الإعلام، ليقوموا بواجبهم نحو التوجيه وبناء المجتمع بناء يُعزز القيام بواجبات الدين وحقوق الأمة وتقدم البلد.



الصيف أمل للمتصدقين الذين يُعطون لله ما يساهم في ستر إخوانهم عن الحاجة والفاقة فهم يخلفون مجاهداً في أهله بالإنفاق ومعسراً بالسداد وأسيراً بفكاك أسره "نعم المال الصالح في يد العبد الصالح".

الصيف أمل للعارفين بحقوق أخوانهم، فهم يعودون المرضى في المشافي يُطيِّبون الخاطر ويدعون بالشفاء، «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده». (صحيح مسلم:2569) أي وجدت ثوابي وكرامتي. وهذا دليل على شرف المؤمن وحظوته عند ربه.

وختاماً.. الوقت كله أمل وألم، أمل لمن أحسن استثماره وألم على من ضيَّع وفرَّط، وعند الصباح يحمد القوم السُرى.


أخي القارئ الكريم:

إن الهدف سام، والمطلب غالِ، وتربية النفس طريق طويل يعين الله فيه من أخلص النيَّة وأصلح السريرة، واتبع السُّنة. ذاك الذي يسارع في الأعمال الصالحة دون طلب ويقوم بها دون سؤال يستثمر الفرص في رحلة طويلة إلى جنة عرضها السموات والأرض.



أخي: اقبل حديثي إليك على علَّاته فهو جهد المقل ولكنه أمل المشفق.


جاءت سليمان يوم العرض هدهدة *** أهدت له من جراد كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائـــــــــــلة *** إن الهدايا على مقدار مهديها
لو كان يُهدى إلى الإنسان قيــــمته *** لكان يهدى لك الدنيا وما فيها



فعذراً على التقصير، فالبضاعة مُزجاة، والجراب خالي الإهاب، والصيد قليل في جوف الفرا.
 

وربك ليس إمساكي لبخلي *** ولكن لا يفي بالخرج دخلي
وفي نفسي السماحة غير أني *** على قدر الكساء مددت رجلي


فلا تحرمني أيها القارئ الكريم من دعاء بظهر الغيب، جعل الله صيفك أملا صالحاً على منهج الله وزادك حرصاً وتوفيقاً، والله يتولاك وهو أعلى وأعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
 

المصدر: حسن بن محمد الشريم - دار ابن الأثير
  • 3
  • 1
  • 19,681
  • nada

      منذ
    جزاك الله خيرا مقال اكثر من رائع,نفع الله بك الامه...امييين

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً