التعصب الكروي (الصنم الجديد)

منذ 2010-07-06

أصبحنا اليوم نرى أشياء قد تعطي رسائل سلبية لأولادنا، لما فيها من مخالفات عقدية، كما شاهدنا فريقاً وطنياً يضع الكأس أمامه ثم يسجد سجود الشكر لله، لكن بعض البسطاء تساءل: هل كان سجودهم للكاس أم كان سجودهم لرب الناس؟


بسم الله الرحمن الرحيم
التعصب الكروي لم يعد مجرد ظاهرة انتماء وولاء لنادٍ أو فريق رياضي ما، بل تعدى ذلك إلى ما يمس عقيدة المسلم في صلبها، وليس ذلك الكلام طريقاً إلى التهويل وتحميل الأمور ما لا تحتمل.


بل إن المتتبع لأفعال وتصرفات بعض لاعبي وجماهير الكرة يلحظ أنهم قد انحرفوا بتلك الرياضة عن هدفها المقصود وغايتها المنشودة، من أنها وسيلة لتقوية الجسم كما امتدح الله تعالى طالوت فقال في وصفه: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [سورة البقرة:247]، وكما مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن القوي فقال فيما رواه أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ فَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» [أخرجه أحمد:2/366(8777) ومسلم:8/56 والنَّسائي في الكبرى:10383، انظر حديث رقم: 6650 في صحيح الجامع].
 


كما علمنا الإسلام ما يسمي بالروح الرياضية، حيث ضرب لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في التحلي بالروح الرياضية والخلق الرياضي القويم، وتقبل الهزيمة كتقبل الفوز، والاعتراف للخصم بالتفوق، وعدم غمطه حقه لأن لا يعد ذلك نوعا من الكبر، فعن عروة عن عائشة قالت: «خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي تعالى حتى أسابقك فسابقته فسبقته فسكت عنى حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال تعالى حتى أسابقك فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك » [أخرجه أحمد في المسند:6/264، تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده جيد رجاله ثقات رجال الشيخين غير عمر بن أبي حفص المعيطي وابن ماجة:1979 والألباني في السلسلة الصحيحة:1/204].
 

وعَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ، لاَ تُسْبَقُ - قَالَ حُمَيْدٌ: أَوْ لاَ تَكَادُ تُسْبَقُ - فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ: «حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ » [أخرجه أحمد:3/103(12033) والبُخَارِي:4/38(2871) وأبو داوود:4803 والنَّسائي:6/227، وفي الكبرى:4413].

 


ولكن بعض الناس اليوم أخذوا الرياضة مجالا للصراع والتنافس غير الشريف، بل وجعلوها أداة للتعصب والولاء والبراء والتصنيف المقيت البغيض، ولكم سمعنا عن أناس أصيبوا بالجلطات والسكتات بسبب المباريات، بل وسمعنا عن رجال هدموا بيوتهم وطلقوا زوجاتهم بسبب مباراة، بل ومن قتل بسبب تعصب أعمي لفريق ما.

بل صار أَهلُ البيتِ الواحد ينقسمونَ على أنفسِهم، هذا يتبعُ فريقًا، وذاكَ يتبعُ فريقًا آخرَ، ولم يقف الأَمرُ عند حدِّ التشجيعِ، بل تعداهُ إِلى سخريةِ أَتباعِ الفريقِ المنتصرِ من أَتباعِ المنهزمين، وفي نهايةِ المطافِ يكونُ هناكَ الشجارُ والعراكُ الّذي يدور بين مشجعي الفريقين، وسقوطُ الجرحى والقتلى بالمئاتِ، من ضحايا كرة القدم!!
 

بل وصل الأمر إلى انتشار البغضاء بين بعض الدول بسبب أن هذا البلد لا يحب فريق البلد الآخر، وما أحداث مباريات كرة القدم بين مصر والجزائر ببعيدة، وهذا من الجهل وعدم الفهم الذي حذرنا الله من أصحابه فقال: {وذرِ الّذين اتخذوا دينَهم لعبًا ولهوًا وغرّتهم الحياةُ الدنيا } [الأَنعام:70]. وأَخرج الشيخان عن أَنس مرفوعًا: «إنَّ من أَشراطِ الساعةِ أن يرفعَ العلمُ، ويظهرَ الجهلُ » [أَخرجه البخاريّ في الصحيح: 80،81،5231،7808،5577، ومسلم في الصحيح: 2671].

 


بل أصبح كثير من أولادنا اليوم يحفظ أسماء الفرق وأسماء اللاعبين أكثر بكثير مما يحفظه من أسماء الصحابة والتابعين، ولقد حدثت مع كاتب هذه السطور هذه الحكاية، حيث دُعيت إلى إلقاء محاضرة في إحدى المدارس وكان الموضوع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والشباب، وفي نهاية المحاضرة قلت لهم: يا شباب أسألكم سؤالاً مهما فالرجاء الانتباه معي، قالوا: سل، قلت: من منكم يشجع فريق كذا؟ فرفع نصف الطلاب أيديهم، قلت: ومن منكم يشجع فريق كذا (الفريق المنافس للفريق الأول)؟ فرفع النصف الباقي أيديهم. قلت: أريد طالباً من مشجعي الفريق الأول يعد لي أسماء لاعبي فريقه، فوجدتهم جميعا يتبارون في ذلك، قلت: لكن عندي شرط، يعد لي أسماء اللاعبين حسب مراكزهم، يعني يعتبر نفسه مدرب الفريق ويضع لي تشكيلة الفريق بالاحتياط، فتنافسوا جميعا على ذلك، فاخترت واحدا منهم، وبالفعل ذكر لي أسماء اللاعبين وكأنه مدرب الفريق، وفعلت نفس الشيء مع مشجعي الفريق الآخر، ثم قلت: والمنتخب الوطني، ففعلوا نفس الشيء. قلت: والآن أسألكم سؤلاً مهماً جداً أرجو الإجابة عنه، فقالوا: سل، قلت من منكم يعد لي أسماء فريق، وسكتّ لحظة، ثم أردفت، فريق "بيت النبوة" فنظر بعضهم إلى بعض وكأنهم استغربوا السؤال، فتابعت: أنا آسف، السؤال صعب، أبسطه وأسهله لكم، من منكم يعد لي أسماء أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسماء زوجاته أمهاتنا أمهات المؤمنين، ألا يعرف أحدكم اسم أمه، ولا أريد أن أشق عليكم وأطلب منكم ذكر أسماء أعمامه أو عماته أو أخواله أو خالاته، وبعد معاناة ومحاولات بائسة، ذكروا لي اثنين أو ثلاثة من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، ومثلهم من أسماء أمهات المؤمنين، رضي الله عنهم أجمعين.

وحتى لا أكسر خاطرهم، قلت لهم، ظلمكم الإعلام يا شباب إذ وضع هؤلاء اللاعبين وهؤلاء الفنانين والممثلين موضع القدوة لكم، وصار الإعلام ليل نهار مشغولا بأخبار هؤلاء، حتى طغت أخبارهم على أخبار وأحوال المسلمين، وحتى صاروا أمامكم مضرب المثل وموضع الإعجاب فلا تشغلوا جلّ أوقاتكم في تتبع أخبار هؤلاء وفي تقليدهم في كلامهم وملابسهم.
 

 

ولقد كنا في الزمن الأول ننتظر الخمس دقائق الأخيرة من نشرة الأخبار لمعرفة أخبار الرياضة، أما الآن فقد انتشرت ظاهرة القنوات الرياضية التي تبث أخبار الرياضة والرياضيين ليل نهار، حتى تكاد تعرف كل شيء عن اللاعبين من بداية يومهم إلى نهايته.


وذكرت لهم أن الرياضة إذا لم تعد بالفائدة على صاحبها، ويتعلم منها الأخلاق والقيم النبيلة فهي مضيعة للوقت، وختمت حديثي معهم بقصة الرجل الذي استأذن على الخليفة أبى جعفر المنصور ليريه مهارته في ألعابه، فأخذ عدداً كبيراً من الصحاف يتقاذفها في الهواء دون أن يقع على الأرض منها شئ، فقال له الخليفة ثم ماذا؟ فأخرج إبرة فرماها على الأرض وأخذ أخرى ورماها فرشقت في ثقب الأولى، وهكذا مائة إبرة، و الناس في دهشة من مهارته تلك، فلما انتهى من ألعابه قال الخليفة: أعطوه على مهارته ألف درهم ثم اجلدوه مائة جلدة، لأنه أضاع وقت المسلمين فيما لا يفيدهم، ولا ينفعهم.
 


والعجيب أن بعض الناس اليوم يقدمون المباريات والجلوس أمام الشاشات لمشاهدتها على العبادات والأعمال المهمة، وكم سمعنا عن أُناسٍ مّمن يتابعونَ مبارياتِ كأسِ العالمِ، أَنَّهم يستيقظونَ في النصفِ الأَخيرِ من الليلِ، ليشاهدوا المباريات على شاشة التلفاز، وتفوتهم صلاةُ الفجرِ؟! وكم من المصلين فاتتهم الصلاةُ في الجماعاتِ، بسببِ جلوسِهم أَمامَ الشاشات؟!
 

بل وأصبحنا اليوم نرى أشياء قد تعطي رسائل سلبية لأولادنا، لما فيها من مخالفات عقدية، كما شاهدنا فريقاً وطنياً يضع الكأس أمامه ثم يسجد سجود الشكر لله، لكن بعض البسطاء تساءل: هل كان سجودهم للكاس أم كان سجودهم لرب الناس؟


وتتابعت الظاهرة فوجدنا مدرباً لأحد الفرق الرياضية يضع "فانلة" الفريق الذي يدربه ويسجد عليها في إشارة لولائه الشديد لفريقه.
 

وهذه ظواهر لا نسيء الظن بأصحابها ولا نتهمهم في دينهم، لكننا نحذر من تنامي ظاهرة الولاء والبراء للفرق الرياضة والتي يصحبها تعصب مقيت وعصبية جاهلية وأشكال من التشجيع أقل ما يقال أن فيها شبهة، وقد أمرنا باتقاء الشبهات، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: « إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ » [أخرجه أحمد:4/269(18558) والبُخَارِي:1/20(52) ومسلم:5 /50(4101)].


والخوف أن يأتي من يتعصب لفريق ويكفر الفريق الآخر، أو يصف من يشجعه بأوصاف يعاقب عليها الشرع، ويتخذ من هذا الهوى إلها، كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الجاثية:23].
والخوف كذلك من أن يصبح هذا التعصب الكروي صنماً جديداً يعبد من دون الله تعالى.

 

المصدر: د. بدر عبد الحميد هميسه - موقع صيد الفوائد
  • 6
  • 0
  • 5,319

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً