كيف نعالج الفتور - (3) كيف تعالج فتورك، كيف تتعامل معه؟

منذ 2016-06-24

إنك إذا لم تستطع أن تحفز قلبك، وتجدد نشاطه، فلا تحمل نفسك ما لا تطيق، ولا تشادد الدين، فإنه يغلبك، وخير عملك ما داومت عليه، وذلك حتى تستعيد نشاطك، وتوغل في هذا الدين برفق، وتمرّن نفسك شيئًا فشيئًا.. واعرف موضع قدمك.

الحمد لله وحده.

أعتذر من الطول المضطر إليه.

 

الفتور، كيف تعالج نفسك منه؟

- الفتور: كسل يقوم بالقلب، فيفقد لذة العمل الصالح، ومن ثم تثقل عليه الطاعات، فلا يطيق البدن القيام بما كان يقوم به من قبل، وقد يدبر فيتركها.

- خطورة الفتور في كونه حالة من الهزال والخواء الإيماني، ينفذ منها الشيطان، فيحاول تصدير اليأس من خلالها، ويوسوس له: أنت لست من أهل الطاعة.

- الفتور كثيرًا ما يكون حالة متوسطة، بمثابة القنطرة بين التقوى الواجبة (منزلة المقتصدين)، وبين التقصير وفعل المحظور (منزلة ظالمي أنفسهم).

- ولذلك جاء التحذير من الانسياق مع الفتور للدخول إلى بداية ظلم النفس كما في الحديث: «فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» (مسند أحمد [7077]).

ففي الحديث أن بعض الفتور اقتصاد، وبعضه ظلم وهلكة.

فالنجاح في تجاوز الفتور عن العمل الصالح يتمثل في مرور حقبة الفتور دون الوقوع في معصية (ترك واجب، أو فعل حرام)، بصفة أساسية، فإن زاد بالحفاظ على قدر من الزيادة؛ فهو خير.

كيف تتعامل مع الفتور؟

- لا بدّ للعبد الفطن أن يحايل نفسه، ويصانعها، حتى يستردّ نشاطه وإقباله على الطاعة.

 

- ومحايلة النفس ومصانعتها لها درجتان متعاقبتان:

- الدرجة الأولى: من مصانعة النفس:

العمل على أزّ القلب وتحفيزه وتذكيره، وقد تأمّلتُ أهمَّ طرق هذا التنشيط فوجدتُه في خمس مسالك:

1- استحضار قدْر الرب تبارك وتعالى:

- وفيه يستحضر الفاتر أن الله عزّ وجل موصوف بالكمال المطلق، والجلال المطلق، والجمال المطلق، وأنّ صفاته كلها حسنى، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، وصفاته كلها كمالات، وأنه العظيم، وأنه الجميل، وأنه القوي المتين، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، السميع العليم، وأن الله غنيّ، محمود منزّه عن كل نقص وعيب.

وأن الربّ كريم، برّ، رءوف، رحيم!

- ويستحضر أن الرب تبارك وتعالى هو المعبود لذاته، المحبوب لذاته، أي: محبوب لما هو عليه عز وجل من صفة، مستحقّ للعبادة لذاته، ثم لجميل تصرّفاته.

- ويستحضر العبد أن الله جلّ وعزّ معبود قبل أن يخلق هذه الدنيا، مطاع، وهو الغنيّ عن طاعة الطّائعين، بل المطيع هو الفقير بطاعته إليه، المحتاج إلى جزائه ونعمته عليه بإدخاله في خاصّته من المسلمين، فالمهديّ من خصّه الله بطاعته، وشرح صدره لاتباع دينه.

- فإذا استحضر الفاتر كمال الربّ واستغناءه، وأنه حميد مجيد، وأنه المولى النصير، وأنه منزه عن كل نقص، مستحق للعبادة لذاته؛ ربما أزّ ذلك قلبَه، فقام يشكره، وربما يحصُل له من الرضا عن الرب، والامتنان له؛ ما ينشّطه ليشكر له، على أن أدخله في عباده المسلمين، وربما يبعث جسده على القيام بحقّ الطاعة.

2- استحضار صفة النفس:

- وفي هذا المسلك يستحضر الفاتر حقارة نفسه، وأنه كما أن الله غنيّ قويّ بذاته، فالعبد فقير ضعيف بذاته، كما قال ابن تيمية:

أنا الفقير إلى رب البريات *** أنا المسيكين في مجموع حالاتي!
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده يأتي!
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة *** ولا عن النفس لي دفع المضرات!
وليس لي دونه مولى يدبرني *** ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي!
إلا بإذن من الرحمن خالقنا *** إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات!
ولست أملك شيئًا دونه أبدًا *** ولا شريك أنا في بعض ذرات!
ولا ظهير له كي يستعين به *** كما يكون لأرباب الولايات!
والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا *** كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي!
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم *** وكلهم عنده عبد له آتي!
فمن بغى مطلبًا من غير خالقه *** فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي!
والحمد لله ملء الكون أجمعه *** ما كان منه وما من بعد قد ياتي!

- تأمل قوله:

والفقر لي وصف ذاتٍ، لازمٌ أبدًا *** كما الغِنى أبدًا وصفٌ له ذاتي!!

صدق والله!

- ويستحضر: أنه ضعيف يحتاج للقويّ، ذليل يحتاج للعزيز، فانٍ بكلّ حال، لا يقدر على قوت ولا مال ولا قيام ولا قعود ولا حال دون حال، إلا بقدرة الله وقوّته، وإذنه وإعانته.

- ويستحضر أنه خلق ضالًا جائعًا، عاريًا محتاجًا، ولا سبيل إلى سدّ شيء من هذا النقص إلا بالله، إذا أراد الله، كما قال الله: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ،

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ،

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ،

يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ،

يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي،

يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا،

يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا،

يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» (صحيح مسلم [2577]).

- فإذا استحضر العبد أنه فقير حقير، ذليل وضيع، وأنّه كلّه ملك لله، وأنه ليس لنفسه من نفسه شيء على الحقيقة، بل هو كله لله، ليس له من نفسه شيء لولا أن الله أذن له بالحركة والإرادة، وأنه يعود إلى الله ولا بد؛ علم أنّه لا يصحّ له نعيم إلا إذا تم فقره لله، فطرح نفسه على باب الكريم المعطي.

- وهذا ربما أقامه ليشكر، وأزال ما في قلبه من كسل وخمول.

3- تهذيب الإخلاص:

- وفي هذا المسلك يقوم العبد بالبحث في نفسه عن سبب خفي من أسباب سرعة الملل وحصول الفتور، وهو أن يكون عمله مدخولا، فإن المعجب المرائي أسرع إلى الخمول والفتور من غيره، وليس هذا أمرا لازمًا، بل الفتور وارد على كل سالك كما سبق.

- فيحقق إخلاصه، ويستبرئ لعمله من العجب والشرك الخفيّ، ويبحث فيما عساه أن يكون طرأ على عمله من الالتفات عن إرادة الدار الآخرة وثواب الله عزّ وجل، فإنه يورث العمل ثقلا سرعان ما تطلب النفس التخلص منه.

4- استحضار نعمة الاختيار:

- وفيه يستحضر الفاتر أنه مسبوغ بنعمة القدرة والاختيار، وأنه هو الذي حجز نفسه عن المبادرة!

- يتذكر أنّه اليوم حيّ وغدًا ميّت، وأنه اليوم صحيح وغدًا مريض، وأنه اليوم يملك وغدًا يفتقر، وأنه اليوم في فتوّة وغدًا في شيبة وعجز.

- وهذا كما في الحديث: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْظِرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفْنِدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ، فَشَرُّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» (جامع الترمذي [2306])!

وقول ابن عمر: "خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

- وليتّعظ بحاله بين اليوم وأمس، وأنه لا يمرّ عليه يوم جديد إلا ويثقل بالهموم الدنيوية الواجبة، فيقطع على نفسه رافد التسويف، وينشّط قلبه من تضييع وقت اليوم.

5- استحضار الموت وأهوال القيامة والوعد والوعيد:

- وهذا أعظم ما يؤزّ القلب وينشّطه، ويبعث فيه حياة تجديد العمل، وغالب وعظ الوحي من هذا النوع، كما قال الله: {وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].

- يتذكر أنه ليس باقيًا إلى الأبد، وأنه ميت هالك، وإذا مات انقطع عمله، ثم هو مبعوث مسئول محاسب، موقوف أمام الله مسئول عن نعمه التي أنعم بها عليه.

- وأنه يقرأ كتابه يوم القيامة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وأنه يجد فيه كل تسبيحة، وكل ركعة، وكل ذكر، وكل آية، فيفرح ويستبشر ويسعد، وأنه إن ترك العمل، تألّم لذلك.

- وأنه موقوف عند الميزان، يبحث لنفسه عن الحسنة بعد الحسنة، ويرقب كفة ميزانه، كما قال الله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل:111]، قال ابن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للناس عند الميزان تَجادلٌ وزحامٌ".

- ويتذكر الجنّة وما أعدّ الله فيها من النعيم المقيم، والنار وما فيها من العذاب، وأن الله قد أعدّ الجنّة لمن عمل وتعب، وأنها سلعة الله الغالية، قد تعبت نفوس كثيرين طلبا لها، وهم لها وارثون، فليجعل لنفسه مكانا معهم.

- وبالجملة: يستحضر أن من كفر ومن عصى ومن قصر به عمله، فإن الله ذو عذاب أليم، وهو شديدُ المحال، ومن أطاعه واستهداه؛ هداه، وهو عظيم الإنعام والأفضال.

- وعلى الرغم أن تجديد الدوافع والبواعث بالمحفزات السابقة مسئول عن كثير من التقصير والفتور، إلا أنه قد لا يحصل للعبد بهذه الدرجة ومع كل هذه المحفزات نشاط يبعثه على العمل، فالفتور كما سبق مرحلة وسيطة، ليس بالضرورة يعود العبد منها إلى سابق قوّته، فها هنا ينتقل إلى الدرجة الثانية.

 

- (الدرجة الثانية) من مصانعة النفس ومحايلتها: الرجوع خطوة إلى الخلف!

- في صراعك مع نفسك والهوى والشيطان، اعلم أن غايتك هي ترويض نفسك وتربيتها، لكي تطبعها على الطاعة وحب العمل الصالح، فقد يقع منك بدون قصد اعتساف لمرحلة من مراحل التربية، فتنفر منك نفسك وتعصيك.

- وحينئذ فالواجب عليك ألا تكسرها وتشاددها، حتى لا تكسرها، بل ارجع خطوة إلى الخلف أو أكثر، حتى تدرّب نفسك شيئًا فشيئًا.

- فنفسك كالطفل، لا ينبغي أن تطعمه لحم الضّأن حتى يعتاد الخبز والعسل!

- تأمّل في الحديث الصحيح، حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجدَ، فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال: «مَا هَذَا الْحَبْلُ؟». قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» (صحيح البخاري [1150]).

- وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها امرأة، فقال: «مَنْ هَذِهِ؟» قَالَتْ: فُلَانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا. فقال صلى الله عليه وسلم: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» (صحيح البخاري [43]).

- وفي حديث آخر من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (صحيح البخاري [39]).

- فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلّم أن يشادد أحد الدين، وإلا فسيكون مغلوبًا لا غالبًا، وأمر بحلّ حبل زينب، ونهى أن يكلف أحد نفسه من العبادة (ما لا يطيق)، وأمر بحلّ حبل زينب، مع أنه:

- قال عراك بن مالك التابعي الثقة: "أدركتُ الناس في شهر رمضان، يربطون لهم الحبال يستمسكون بها من طول القيام"، وقد لقي جماعة من الصحابة، ولعلها سنّة عمر رضي الله عنه، فإنه أمر أبيًا وتميمًا الداري أن يصليا بالناس، فكانوا يتكئون على العصيّ من طول القيام.

وقال ابن أبي مليكة: "كنت أقوم بالناس في شهر رمضان، فأقرأ في الركعة: الحمد لله فاطر ونحوها، وما يبلغني أن أحدًا يستقل ذلك".

وقرأ مسروق في ركعة واحدة من القيام: سورة العنكبوت.

ولن أطيل أكثر من ذلك، فالآثار كثيرة ومعروفة، وقريبة ممن طلبها.

- فالحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بحل الحبل، حيث علم أنّ الفاعل لا يطيق، فقال في الحديث الآخر عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، وهذا من حمل الأحاديث بعضها على بعض، وأما هديه الفعلي صلى الله عليه وآله وسلم فالقيام حتى تتورم قدماه الشريفتان.

- فالحاصل: أنك إذا لم تستطع أن تحفز قلبك، وتجدد نشاطه، فلا تحمل نفسك ما لا تطيق، ولا تشادد الدين، فإنه يغلبك، وخير عملك ما داومت عليه، وذلك حتى تستعيد نشاطك، وتوغل في هذا الدين برفق، وتمرّن نفسك شيئًا فشيئًا.. واعرف موضع قدمك.

خذ خطوة إلى الخلف، فاحذف ركعتين من التراويح، أو ربعًا من القرآن، أو أكثر من ذلك، لكن: إياك أن تقع في المعصية، أو ترك الواجب.. ففي الحديث كما أخبرتك: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» (مسند أحمد [7077]).

"فإن قلتَ: كلّ مجدٍّ في طلب شيءٍ لا بدّ أن يَعرض له وقفة وفتور، ثم ينهض إلى طلبه.
قلتُ: لا بدّ من ذلك، ولكن صاحب الوقفة له حالان:
1- إما أن يقف ليجُمّ نفسه (يستجمع قواها)، ويعدّها للسير: فهذا وقفته سيرٌ!
ولا تضرُّه الوقفة، فإنَّ لكلّ عملٍ شرة، ولكل شرة فترة.
2- وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه، وجاذب جذبه من خلفه، فإن أجابه أخَّره ولا بدّ!
فإن تداركه الله برحمته، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره: نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع، ووثب وجمز واشتد سعيا ليلحق الركب..." (ابن القيم).

 

انتهى المقال!

 

لكنني تعرضت فيه للكلام عن العرض الطارئ، لا حقيقة الصراع مع النفس، وإن كنت أشرت إلى ذلك بين السطور.

 

واختصارًا أقول:

1- لا بدّ من الاعتراف بوجود مشكلة في عملية التربية الإيمانية، وطبعًا في الخطاب التربوي في مدة طويلة سابقة، تصل إلى عقود، وأن الناس مع حاجتهم إلى معرفة المسالك والطرق التربوية التي ينمون بها إيمانهم ويثبتونه؛ لا يجدون إلا الوعاظ (غير) المهرة في التعامل مع تنوع النفوس البشرية، واختلاف إراداتها، وقدراتها، وملكاتها، واختلاف درجات إيمانها، وتنوع الإشكالات الواردة عليها.

2- فأصبح الخطاب الوعظي المحدود "الذي هو مجرد: استدعاء نصوص الوعد والوعيد، والجنة والنار والقبر، والحساب، وقصص الصالحين والصابرين والعلماء... الخ"؛ هو كل الأدوات التربوية المسلوكة!

3- وهذه مشكلة كبيرة، أساسها كما ترى: عدم التفريق بين (الوعظ) و(التربية).

4- فكانت النتيجة: أن هؤلاء الوعاظ المفتقدين لمهارات التربية قد وضعوا أمام الناس نماذج هي في القمّة من الإيمان والعمل الصالح، وطالبوهم أن يتحولوا إليها، دون أن يخبروهم: كيف يفعلون ذلك!

مع اختلاف قدراتهم، وعلمهم بالشرع، وصبرهم، وآفات نفوسهم!

5- وهذا يشبه تمامًا قضيّة التعليم المدني العقيم في المدارس الرأسمالية في الدول الحديثة!

ففيها تجد (مجموعة من الكتب مطلوب أن تحفظ وتفهم + وقت ثابت لجميع الطلبة + طريقة واحدة في الشرح لجميع الطّلبة + امتحان ثابت للجميع هو معيار التقييم)، دون مراعاة لاختلاف قدرات الطلبة، وملكاتهم، وبالطبع لا يوجد وقت لاكتشاف مشكلاتهم التعليمية، فضلا عن حلّها.

6- عودة إلى التربية الإيمانية؛ فهذه المشكلة في الخطاب التربوي تظهر لك بوضوح في موسم رمضان، حيث يقبل الناس على المساجد، إما للإقبال وإرادة القرب من الله والعمل الصالح، أو حتى لأن هذه هي العادة.

7- لكن الخطاب المنتشر الذي يفاجئهم في المسجد هو:

- الشياطين محبوسة لا تقدر عليك، فأنت الآن أمام نفسك، وكل تقصير إنما هو من نفسك الأمارة بالسوء.

- كان فلان من السلف يختم في اليوم في رمضان 60 مرة، وفلان يصلي الليل كله، وفلان لا يفطر إلا على تمرات، وهذا موسم الطاعات.

- إذا لم تتب إلى الله توبة نصوحة، فمتى تتوب، وكل شيء متهيء أمامك (سمعتها هذا العام بنفسي).

- إذا لم يكن لك دعاء خالص تبكي فيه في رمضان فاعلم أن صيامك بلا روح (سمعتها بنفسي هذا العام).

8- وهذا الخطاب السابق غالبه ليس في نفسه خطأ محضا، لكن الخطأ فيه تربوي، مثل قضية التعليم التي شرحتها لك منذ قليل.

9- الناس ظالم لنفسه، أو مقتصد، أو مسارع بالخيرات، وعامتنا من الصنف الأول!

نحتاج إلى محايلة النفس ومصانعتها وخداعها، لتربيتها على ترك الحرام، وفعل الواجب، ولا يستقيم ذلك بوضع نماذج من خير أفراد الصنف الثالث (المسارعين بالخيرات)، بحيث نجعل معيار الصلاح واحدًا، ومعيار التعبد واحدًا، وما سواه فانتكاس!

10- هذا مما ينفر النفس، ويهدمها، وليست هذه تربية.. بل هذا من أكثر ما يحمل الناس على النفور، والمقتصدين على الانتكاس، والأمر يطول..

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك
  • 12
  • 1
  • 8,288
المقال السابق
(2) لماذا فترت؟
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً