الساعة القرآنية
يعتاد الناس اليوم ضبط أعمالهم وأطوال نشاطاتهم ومُددَ دواماتهم، بالساعة وأجزائها من الدقيقة والثانية.. وخاصة مع التطور التكنولوجي.. غير أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم كانت لهم ساعة من نوع آخر.. يقيسون بها الأوقات ويقدِّرون بها النشاطات.. فما هي هذه الساعة العجيبة؟!
يعتاد الناس اليوم ضبط أعمالهم وأطوال نشاطاتهم ومُددَ دواماتهم، بالساعة وأجزائها من الدقيقة والثانية.. وخاصة مع التطور التكنولوجي.. غير أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم كانت لهم ساعة من نوع آخر.. يقيسون بها الأوقات ويقدِّرون بها النشاطات.. فما هي هذه الساعة العجيبة؟!
فبعد أن كانت بيئتهم العربية تقدر الوقت بما يستغرق يومياتها أو يملأ حياتها من شاءٍ وبعير، فكانوا يقولون مثلا: مكث قدر حلب شاة، أو قدر نحر جزور أو فواق ناقة([1])... كما نقول نحن اليوم، مكثت ساعة أو ربع ساعة أو نحو ذلك..فكان للصحابة شأن آخر في تقدير الزمن، إإنها ساعة دقائقها وثوانيها آيات القرآن الكريم!!.. ذلك أن القرآن ملأ حياتهم وشغل فكرهم، وضبط بالساعة القرآنية تصرفاتهم، فكان الواحد منهم يجتهد في أن يكون قرآنا يمشي على الأرض.. كما كان القدوة الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما وصفته عائشة رضي الله العظيم لما سئلت عن خُلقه، فقالت: «ألست تقرأ القرآن؟» قلت: بلى، قالت: « «إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (مسلم، صحيح مسلم، رقم:[ 512]).
هذا التعلق بالقرآن والتخلق به، وجريانه منهم مجرى الدم والنّفَس، جعلهم يخترعون منه ساعة يقدرون بها أزمنتهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت: « «تسحرا فلما فرغا من سحورهما، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فصلى»، قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: «قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية» (البخاري، في صحيحه، برقم:[576].
قال ابن حجر: "قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تُقدر الأوقات بالأعمال؛ كقولهم: قدْر حلب شاة، وقدر نحر جزور. فعدَل زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة؛ إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة".
قلت: بل ولأن القرآن ملأ حياتهم، وضُبطت عليه مشاعرهم..
وهذه التقدير بالآيات محزورا كما عندنا بالدقائق..
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: وهي قدر ثلث خمس ساعة، أي أربع دقائق.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : لكنى قرأتها فبلغت نحو ست دقائق (تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام/419).
و قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: خمسين آية متأنية مرتلة نحو خمس دقائق أو سبع دقائق إلى عشر دقائق (الإفهام في شرح عمدة الأحكام/391).
وقد حسبتها لنفسي بقراءتي المتوسطة فوجدها عشر دقائق.
وهذه عائشة رضي الله عنها تتخذ الساعة نفسها؛ فعنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته - تعني بالليل - فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة» (البخاري، الصحيح، رقم:[994]).
وعنها رضي الله عنها، قالت: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام قدر ما يقرأ إنسان أربعين آية» (مسلم، الصحيح، رقم :[731]).
وهذا التفريق في التقدير يدل على أن قولهم قدر الخمسين وقدر الأربعين أو العشر آيات ونحوها، ليس لمجرد التكثير والتقليل، وإنما يدل على الدقة في التقدير والتدقيق والحساب، فكانت هذه مُددا معروفة في أذهانهم متعارفًا عليها بينهم.
والعجيب في الأمر أيضًا أن أحدا منهم لم يسأل عن مقدار أو طول هذه المُدَد المقدرة بعدِّ الآيات، فلم يقل أحدٌ-كما يقال عندنا- بأي قراءة: الشيخ المحيسني السريع أو تجويد عبد الباسط البطيئ!!
هكذا كانوا مع القرآن، لذلك كان ذكرا لهم وشرفًا.. ورِفعة وسناءً
ويُثْلجُ صدرك أن يجيب بعضُهم كم تستغرق في مسافتك بين بيتك والمسجد؛ فلم يقل له عشر دقائق أو عشرين، وإنما قال له: 300 تسبيحة أو تهليلة، وإن كانت الزحمة في الطريق فقرابة الألف تسبيحة أو تهليلية!!
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
إن كثرة التعامل مع القرآن، وطول مصاحبته يجعله يسيطر على مشاعرك، حتى إنك اتضرب به الأمثال وتسوق من الشواهد وتتمثل به المواقف وتُقدّر به الأزمان، من غير تكلف ولا تعسف... ودون ذلك جهاد جهيد... ولكن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
اللهم اجعل القرآن العظيم دستور حياتنا ومنبع أخلاقنا وقائد مسيرتنا واجعله اللهم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا... اللهم اجعله أنيسنا في قبورنا وشفيعنا يوم القيامة.
---------------------
2- كما في الحديث: «لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزو في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة»(الترمذي، السنن، رقم:[ 1650] وغيره). والفَواق: بضم الفاء وتفتح، هو ما بين الحلبتين من الراحة، لأنها تحلب، ثم تراح حتى تدر، ثم تحلب. قاله ابن الأثير. وقال السندي: وقيل: يحتمل أن المراد به ما بين جر الضرع إلى جره مرة أخرى، وهو أنسب ببيان القليل.
19/7/2016
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: