السلفية المعاصرة 2
وأصل دعوتنا اليوم = أنّا ندعو الناس إلى أصل السلفية والاغتراف من ينبوعها، واستنشاق طيب نسائمها، لا كما يظن الكثير أننا نقول بقول يهوي بنا في أودية التضييق والتعصب.
ها هي انحرافات المدارس السلفية المعاصرة -الفقهية- تبلغ ذروتها في زماننا اليوم، حتى رأينا أثرها يمتد إلى الواقع السياسي المعاصر، وقد رأينا ورأى الناس جماعة من المنتسبين إلى الفقه السلفي -من غير المنافقين- وقد اتخذوا مواقف كارثية وقد تبنوا فيها اجتهادات بدعية شاذة نصروا بها الطواغيت وشرعنوا تواجدهم بين أظهرنا بفضل ظاهريتهم في باب -الأدلة- وسطحية نظرتهم في التعامل مع نصوص الولايات والتغلب وما شابه من السياسات الشرعية وأحكام الطوائف، حتى امتد ذلك إلى المتفيقهات من النساء اللاتي ضللن وأضللن تحت مسمى العلم وفقه الدليل، والله المستعان على ما يصفون!
ولا يظن ظان أن معول نكيرنا على تيك المنهجيات لا يغادر جملة من مسائل الفروع الفقهية التي شدد فيها جمع من الأشياخ كالإسبال، ووجوب ستر الوجه، ووجوب زكاة الحلي المستعمل، وتحريم قيام ليلة النصف من شعبان -قولاً واحدًا- وغيرها من مشهور المسائل؛ فحصروا فيها الحلال والحرام على قولٍ أوحد عليه يعكفون لا يبرحون عنه، ولا المسائل التي قرروا فيها أقوالًا شاذة فجعلوها محلًا للنزاع السائغ في حين كونها أقوالًا مهجورة عند السلف الأوائل؛ كالقول بنجاسة الخمر -معنويًا- والقول بالمسح على الجورب الشفاف، وتجويز مس الحائض المصحف من غير حائل، والقول بوجوب التمتع في الحج والنهي عن الإفراد والقران، وكذلك وجوب التحلل لمن رمى الجمرة يوم الحج الأكبر قبل الغروب، وشذوذ الفتاوى في مسائل الطلاق المشهورة، وغيرها كثير.
ناهيك عن مسائل النزاع الفقهية التي أنزلوها منزلة مسائل الاعتقاد، والسنة والبدعة، فخرجت مناطات النزاع عن أصلها وحقيقتها؛ وحكم ترك الصلاة لذلك أنموذج؛ فالقول بعدم الإكفار عند بعضهم معدوداً من علامات الإرجاء، رغم قول جمهرة فقهاء أهل السنة به.
ومن ذلك -أيضًا- جعل دعاء ختم القرآن في قيام رمضان من علامة الابتداع في الدين، وهو الذي نص أحمد على جوازه.
بل ننكر عليهم ما هو أعلى من ذلك وأشد؛ فننكر أصل منهجيات التعليم والتفقه وطرائق الفتيا والجرأة على المذاهب الأربعة -خاصة- وتقريرات السلف -عامة- بحجج متوهمة سموها اتباع الدليل، ويكأن أحمد ومالكًا وإسحاق وسفيان لا يفقهون أدلتهم!
ومرد ذلك إلى كون غلبة الظاهرية على كثير من سلفيّ زماننا -مع الفارق بينهم وبين أمثال ابن حزم الإمام والشوكاني والصنعاني وأضرابهم- مع خوض غمار الاجتهاد دون اكتمال أدنى مقوماته وآلياته.
فترى كثيراً من المنتسبين إلى العلم يحصرون الأدلة في جملة من مناطات الاستنباط الظاهرة فحسب، خلافاً لصنيع الأئمة والفقهاء..
ولا أعرف أحدًا من متقني الفقهاء بعد أعصار الأئمة إلا وقد تفقه على مذهب إمام من الأربعة. بل وشيخ الإسلام الذي يتخذه أكثر المتحررين عن قيود المذاهب مثلًا وإمامًا على ما بلغ من الاجتهاد ومفارقة طرائق فقهاء المذاهب أحيانًا تلقى الفقه ابتداءً على مذهب أحمد، وكثير من المسائل التي يخالف فيها المذهب تجده يقرر أن هذا القول أليق بأصول مذهب أحمد، أو هو رواية عن أحمد وما شابه، خاصة وأن التحرير الدقيق لمذهب أحمد الاصطلاحي قد تحقق واكتمل من بعد شيخ الإسلام، ناهيك عن أن شيخ الإسلام بلغ منزلة من العلم والحفظ والفهم لم يبلغها أحد من أهل زماننا قط، بل لم يكد يبلغها أحد من بعده، اللهم إلا أمثال ابن رجب -حفيده في العلم- وإن خالفه، وابن مفلح -تلميذه الفريد- ممن قد يقاربونه في بعض العلوم أو يتجاوزنه في آحادها.
وقد تجد ابن تيمية -في بعض المواضع- يترك قوله واجتهاده إذا ظهر له مخالفته طريق المتقدمين، ومن ذلك مثلًا قوله في تحديد الصاع والمد بالعرف، ثم أردف قائلاً: لكن لم أعلم بهذا قائلًا، ولا يمكن أن يُقال إلا ما قاله السلف قبلَنا، لأنهم علموا مراد الرسول قطعاً.
مع الإشارة إلى أن مخالفة جماهير السلف والأئمة الأربعة، بل وعامة أهل العلم تقع -أحيانًا- من شيخ الإسلام، ومن ذلك خلافه المشهور في مسائل الطلاق، ولعل ابن رجب قد ألمح إلى شيء من ذلك في رسالته -البديعة-: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة.
وهاهو ابن المنذر -صاحب الأوسط- الإمام الحافظ المتقن، من أوائل من تكلموا في الخلاف العالي، ومع ذلك يعدونه من الشافعية، ويُشار إليه في الطبقات، رغم مخالفته الشافعي أحيانًا.
ولست أشك أن كل طريق يسلكها المتفقه على غير طريقة التفقه المذهبية = لن تبلغ به المنزلة المرضية والدرجة السمية، اللهم إلا ماندر.
ومن تأمل جيدًا طرائق المذاهب الأربعة التي دامت ألف سنة أو يزيد = سيعلم يقينًا أن تلك المدارس بمثابة العمل المؤسسي.
فهي بحق مؤسسات شديدة المنهجية والتنظيم والتدرج كالبنيان الحصين؛ بداية من إمام المذهب ومرورًا بأكابر أصحابه والرواة عنه، ثم من بعدهم أصحاب الوجوه والاجتهاد داخل المذهب، ثم أكابر المصححين والمحققين من أهل ترجيح وتحقيق الروايات، ثم حفظة المذهب وشراحه ونقلته.
ومن يطالع كتب طبقات أصحاب المذاهب يجد دقة متناهية في ذكر طبقات رجالات المذهب وشيوخه، بل إن القاضي أبا يعلى أشار في طبقات الحنابلة إلى سؤالات النسوة للإمام أحمد فذكر جملة من النساء اللاتي دخلن على أحمد وسمعن منه بلا وسيط.
يتعاقب على ذلك أئمة كبار جيلًا من بعد جيل؛ وكل في فلكٍ محدد لا يتجاوزه ولا عنه يحيد. حتى وصلنا اليوم عملًا متكاملًا -أصولًا وفروعًا- بقوانين وقواعد مطردة متقنة.
ومن عجيب ما رأيت في الزمان الحاضر أن أقوامًا جعلوا التفقه طريقين؛ طريق ما يُسمى بفقه الدليل مقابل طريق التمذهب؛ فجعلوا الدليل قسيم التمذهب، وكأن أصحاب المذاهب يقولون على الله بلا دليل.
وهل في الدنيا من بعد أحمد من هو أعلم بالسنة والحديث والآثار؟!
وهل خاض الشافعي في دين الله بغير علمٍ ودليل!!
ولست بزاعمٍ أن الفقه موقوف على هؤلاء الأربعة وكأن الاجتهاد لا يغادر ناديهم، بل شهد المسلمون أن من دونهم أئمة لا يشق لهم في الفقه غبار، لربما فاق بعضهم آحاد الأربعة؛ ومن ذلك قول الشافعي: "الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به = يعني أن أصحابه من المصريين لم يعتنوا بمذهبه حفظًا وتدوينًا وتأصيلًا، فاندثر مذهبه".
وإني لألتمس في ذلك وأستأنس بمقالة ابن خلدون في المقدمة: "ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودَرَسَ المقلدون لمن سواهم".
يقصد= انقرضت مذاهب غيرهم ومقلدوهم.
وليس في ذلك تضييق وحصر لمعين الوحي وينابيع القرآن والحكمة على أناس دون غيرهم؛ ولكن مرد ذلك إلى أن الله عز وجل هيأ لهؤلاء الأربعة تلاميذ وأتباعًا وأجيالًا اعتنوا بمذاهبهم وقيدوها ووضعوا لها قوانين كلية وتفاصيل جزئية -تحريرًا تديعًا متكاملًا- ما تعاقبت السنون والأزمنة.
ولم يتحقق ذلك لمن سواهم ممن اندرست مذاهبهم وهُجرت.
ولست الآن بصدد الحديث عن حكم الخروج عن أقوال المذاهب الأربعة، فالخلاف في ذلك مشهور بين قائل بالمنع وقائل بالجواز، ولعلي أحكي هنا نقلًا يسيرًا عن أحد أفراد أكابر المحققين من بعد عصور الأئمة حتى يتضح لك مرادي جليًا..
قال إسحاق بن راهويه: "إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر= فهو سنة".
قلت -أي الذهبي-: "بل السنة ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده.
والإجماع = هو ما أجمعت عليه الأمة -قديمًا وحديثًا- إجماعًا ظنيًا أو سكوتيًا، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم لقول باجتهاده احتمل له.
فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة فلا يسمى مخالفًا للإجماع ولا للسنة، وإنما مراد إسحاق = أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالبًا، كما نقول اليوم: لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها" قاله الحافظ الذهبي في السير.
قلت: تأمل قول الذهبي: "نهاب أن نجزم أن الحق في خلاف ما اتفقوا عليه، يظهر لك مرادي جليًا".
ثم إني بقول الذهبي أقول، لا أحيد عنه قيد أنملة.
وانظر في قول ابن رجب يوم أن قال: "المجتهد على تقدير وجوده، فرضه اتباع ما ظهر له من الحق، وأما غيره ففرضه التقليد".
ومرد ذلك أن الحنابلة يجوزون حصول الاجتهاد المطلق -نظريًا- بعد موت الأئمة الأربعة، في حين يمنعه غيرهم، ومع ذلك سياق كلام ابن رجب يدل على استبعاد وجود ذلك في عصره -الذي هو عصر ابن تيمية وابن القيم وابن مفلح ومن شابههم-، فكيف بغيره من الأعصار!
ولست أظنني كاذبًا إن قلت بأن عصرنا يخلو يقيناً من أصحاب الاجتهاد المطلق، بما فيه من مجامع فقهية وهيئات لكبار العلماء، ومشاهير المشايخ.
وختامًا أقول:
وأصل دعوتنا اليوم = أنّا ندعو الناس إلى أصل السلفية والاغتراف من ينبوعها، واستنشاق طيب نسائمها، لا كما يظن الكثير أننا نقول بقول يهوي بنا في أودية التضييق والتعصب.
وإني لأدعوك في ذلك إلى شيء من التأمل في صنيع الأئمة وتصانيف أهل المذاهب.
تلكم التصانيف التي سُطِرت على طرائق حكاية الخلاف العالي، وهو ما يسميه الناس في يومنا هذا = الفقه المقارن.
والناظر في تلك المطولات التي بلغت المنازل العلية والدرجات السمية، كالتمهيد والمغني والمجموع وأضرابها من مصنفات أصحاب الوجوه والاجتهاد في مذاهبهم = يدرك جليًا كم كانوا يستحسنون أقوال أئمة غير مذاهبهم ويستبشرون بها توسعة على المسلمين وتيسيرًا...
وما أروع صنيع أبي عبد الله العثماني الشافعي يوم أن صنف كتاباً سماه -رحمة الأمة في اختلاف الأئمة-، وفي مثل ذلك ورد عن أحمد -رضي الله عنه- أثر بديع يوم أن عرض عليهم أحدهم كتاباً سماه الاختلاف، فقال: بل سمه السعة..
تلك الرحمة هي التي ندعو الناس لها اليوم في زماننا. تلك السعة هي التي نبغي بثها في أرواح طلبة العلم والمنتسبين له؛ باتباع مسالك المتقدمين ومشارب تفقههم، خروجًا من ضيق السلفية المتوهمة إلى سعة السلفية الأم.
أما وقد بثثت تيك الخاطرات من بعد طول تردد، فما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان، وما أصبت فيها حقًا فمن الله.
ولست فيها بزاعم أن الحق لم يغادر طيات أحرفي وكلماتي، بل أحسب أني أردت فيها بلوغ ما أظنه حقًا وصوابًا -نصحًا وتبليغًا-، والله أسأل صدق نية وإخلاصًا، فما أصعبهما.
ولعل من جميل الإنصاف أن أقر في ختام كلماتي بأن السلفية على ما فيها من مآخذ إلا أنها أقرب المناهج المعاصرة لاعتقاد السلف في أبواب الاعتقاد وتوحيد الطلب وتوحيد العلم والإثبات، خلافًا لعامة المتصوفة والأشاعرة وغيرهما.
ولا يظن ظان أني أردت بكلماتي انتقاص أحد من الأشياخ الأجلاء -المعاصرين- الذين ذكرت بعضهم، فإني والله لأترحم عليهم وأقر بأن الله نفع بهم نفعاً عظيماً فرفع بهم ألوية التوحيد وجعل لهم اليد الطولى في محق البدعة وإظهار السنة، وجعل لهم في الأرض القبول.
فعفا الله عنهم وتقبلهم في زمرة العلماء المصلحين الهداة المهديين، ورضي الله عن أبي حنيفة النعمان -الإمام المُعظم-، ومالك -إمام دار الهجرة-، والشافعي محمد بن إدريس -الإمام المُبجل-، وأبي عبد الله أحمد بن حنبل -إمام أهل السنة- وثاني الصديقين، ومن سبقهم ثم من سار على دربهم من مصابيح الدجى وأئمة الهدى، وجمعنا بهم في دار كرامته، إذ لا نصب ولا وصب، والله خير مسؤول.
وصلى الله على إمام النبيين وقدوة العلماء الربانيين محمد بن عبد الله، و على آله وصحبه وزوجاته أمهات المؤمنين.
والحمد لله رب العالمين.
- التصنيف: