مجرد شغف!

منذ 2016-11-12

من دون ذلك الشغف وجذوته ستجد الرتابة والملل، ستجد التثاؤب والكسل، ستجد أعمالا صورية تخلو من حقيقتها، وعلاقات سمجة سطحية تقوم على شفا جرفٍ هارٍ من الفشل المتوقع.

لم أكن يومًا من محبي القهوة. الحقيقة أنني لم أكن قد أعطيتها الفرصة كاملة كما لم أعط تلك الفرصة لنفسي لكي أكوّن رأيًا منصفًا عنها. كانت القهوة دوما ترتبط في ذهني بالمرارة القاسية التي تميز نكهتها المختلطة بذكريات وفيات عائلية كانت القهوة السادة عاملًا مشتركًا في كل عزاءاتها ولا أدري حتى الآن لماذا كان ذلك الإصرار على تواجدها فيها!
أيضًا ذكريات تسارع في ضربات القلب وربما شيء من الغثيان كانا دومًا يصاحبان المرات المعدودات التي اضطررت فيها لشرب القهوة كي أستطيع مواصلة السهر لمذاكرة ليلة امتحان أو قيادة ليلية طويلة!
بعد سنوات علمت أن هذه الأعراض الجانبية كانت ناتجة عن أنواع رديئة من القهوة صادفتني عند احتياجي لها أو بسبب تناولها في أوقات غير متناسبة مع مواعيد النوم والوجبات.
المهم... منذ فترة ليست بالطويلة صارت القهوة هي مشروبي المفضل بعد أن كنت يومًا من أشد النافرين عنها والرافضين لها صرت فعلًا من عشاقها!
وليس أي قهوة.. بل أقوى وأكثر أنواع القهوة تركيزًا؛ تلك الأنواع وأساليب الإعداد التي قد لا يتحملها كثير من المخضرمين الذين عشقوا القهوة لسنوات.
صرت كلما ارتشفت رشفة من هدية الإيطاليين للعالم المسماة بـ(الإسبريسو) أو أحتسي قدحًا من منافستها التركية العتيدة؛ أتعجب كيف مضت كل تلك السنوات من عمري دون أن أستمتع بذلك المذاق الساحر وتلك التأثيرات المدهشة؟!
كيف بدأ الأمر وكيف انتقلت بين هذين النقيضين وبهذه الحدة؟!
الإجابة تكمن في كلمة واحدة (الشغف)..ذلك السحر الخفي الذي ينتقل بالعدوى! من يحملون الشغف بصدق فإنهم بالفعل يستطيعون نقله للآخرين بفعالهم ومقالهم.
في هذا النموذج الذي ضربته وحدث معي بالفعل كان ذلك الشغف قد انتقل إليَّ عبر مقال قرأته كتبه أحد عشاق القهوة. لم يكن المقال بليغًا للغاية ولا كان يحمل معلومات مبهرة؛ لكن كان يحمل ذلك الشيء الذي أتحدث عنه؛ كان يحمل الشغف!
شغف حقيقي وولع صادق تفجرت بهما سطور المقال ولفتت نظري إلى أن شيئًا سبب هذا الوله لكاتب المقال ينبغي أن يحتوي على ما هو أكثر من مجرد مرارة أو عقوبة غير مفهومة تفرض على المعزين لتنضم لألم الفراق وأحزان الوفاة!
هنا قررت أن أجرب بنفسي وأستطلع حقيقة الأمر لكن في مظانها السليمة؛ فلنجرب نوعًا أصليًا ولتكن نسبة البن الأرابيكا (وهو لمن لا يعلم أفضل خامات البُن) لتكن نسبته فيه مرتفعة للغاية. وبالفعل ذهبت إلى مكان معروف بأنه يقدم أفخم أصناف القهوة وتذوقت.. وهنا كانت البداية؛ بداية الشغف. ذلك الذي انتقلت شرارته عبر كلمات مكتوبة بُثت فيها الحياة من خلال وجود هذه الروح.
وكذلك في معظم الأمور التي نفعلها في حياتنا، الفارق بين وجود الحياة فيها من عدمه هو ذلك الشغف. الدين أو الدنيا، العمل أو الدراسة، الزواج أو الصداقة أو سائر العلاقات الإنسانية، الفكر والثقافة والأدب والفن، الطعام والشراب واللذات والمتع الجسدية الموجودة في أي شهوة خلق الله أصلها في الإنسان وأحل حلالها وحرم حرامها
كل ذلك حيويته وروحه تكمن في الشغف.
أولئك الذين يملكون ذلك الشغف هم من يحدثون الفوارق الحقيقية ويصنعون النجاح الملحوظ في تلك الأمور السالف ذكرها. من يبثون طاقتهم الإيجابية في أفعالهم وأقوالهم ويتعاملون مع تلك الأشياء التي هم شغوفون بها بحماس وروح يصرون على إبقاء جذوتها متقدة فتنعكس على تلك الأعمال والعلاقات والمعاملات التي تحتاج دوما لوجود ذلك الشغف.

من دون ذلك الشغف وجذوته ستجد الرتابة والملل، ستجد التثاؤب والكسل، ستجد أعمالا صورية تخلو من حقيقتها، وعلاقات سمجة سطحية تقوم على شفا جرفٍ هارٍ من الفشل المتوقع. ستجد تدينًا سطحيًا يفتقد الروح وعبادات تفتقر للحياة والحب؛ فقط واجبات روتينية والتزامات أثقل ما تكون على النفس وتباطؤ وتلكؤ وتكاسل يشوب أي حركة فقدت وقود حياتها.. فقدت الشغف!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 3
  • 0
  • 2,046

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً