عندما تستثمر آحاد الأحداث
في رخاء السراء، وبعيدًا عن بلاء وابتلاء الضراء، يعمد العلمانيون وهم يؤسسون لمزاعم السمو والتميز لكونية علمانيتهم إلى اتهام الإسلام بكونه يحجُر على واسع تنوع النسيج المجتمعي، من جهة ما يحفل به هذا الأخير من اختلافٍ في العقائد وتباين في الأجناس والأنواع والألوان والألسن، دافعين في دائرة هذا العمد باللسان العربي إلى معترك الاتهام، والرمي بسالف التحجير المشار إليه ابتداء.
في رخاء السراء، وبعيدًا عن بلاء وابتلاء الضراء، يعمد العلمانيون وهم يؤسسون لمزاعم السمو والتميز لكونية علمانيتهم إلى اتهام الإسلام بكونه يحجُر على واسع تنوع النسيج المجتمعي، من جهة ما يحفل به هذا الأخير من اختلافٍ في العقائد وتباين في الأجناس والأنواع والألوان والألسن، دافعين في دائرة هذا العمد باللسان العربي إلى معترك الاتهام، والرمي بسالف التحجير المشار إليه ابتداء.
ويا ليت الأمر وقف في استحياءٍ عند حدود هذا التخرص والفرية، إذ يجد المرء أن لوازم هذا العمد تتحرر من أعنة الإنصاف متجاوزة كل الحدود والتوقعات، تجاوز تطرد في مسيرة كرّه إلى الأمام مظاهر الكراهية والجفوة والتضييق على الإسلام والمنتسبين إليه خاصةً منهم أولئك الذين يعتقدون في انتسابهم اعتبار الإسلام منهج حياة ونظامًا متكاملاً مستوعبًا لعلاقة العبد بربه وعلاقته بمكونات محيطه بدءًا بالتشريع والتجارة والأنكحة والتوريث... وانتهاءً بأمور التخلي والخراءة، ومسؤولًا فاعلا في هذا التآلف والتشاكل والتجانس بين الأطياف المنضوية تحت لواء هذا الانتساب المبارك العظيم.
ولا شك أن هذا الرمي والتحامل الذي يتبناه ويأخذ بكلية طرحه الفصيل العلماني والحداثي في ربوع جغرافية الإسلام هو حلقةٌ متجددةٌ من سلسلة حلقاتٍ قديمةٍ متصلة ما فتئت تتجمع وتتكتل تحت رايات وأذرع ربما اختلفت مسمياتها وألقابها وشعاراتها ورمزياتها، ولكن الأكيد أنها ظلت ومنذ استهلالها الأول وإلى الآن وفيّة لمقصدها الأصلي الذي تتفرع عنه أغراض وغايات ثانوية، مقصد الزحف النجس المتواطئ في خيانة على استباحة طُهورية الشرع وهدر نصوصه وتوهين سلطته على الروح والجسد والضمير، ثم الفزع إلى فك وإتلاف مادة الترابط والتشاكل الذي وصل سقف منزلته حد المأثور والمتواتر من أخبار وحقائق نصرة الأقليات المسلمة من غير العرب العاربة ولا المستعربة لقضايا الإسلام وعلوم الإسلام وديار الإسلام ولسان الإسلام ونعني به اللسان العربي المبين، والعض بالنواجذ على هذه اللحمة والأخوة الدينية التي ذابت في حوجلتها شوائب الدم ونعرات القبلية المنتنة.
ولعل التاريخ القريب يحدثنا أن أسلافنا من الوطنيين المغاربة عربا وأمازيغا تصدوا للظهير البربري الذي أصدره المحتل الفرنسي، بل وقاموا "بقراءة اللطيف" في المساجد فزعًا إلى الله ضد ما رأوه يومها تفرقة للصف، ومؤشرا على قرب بداية أكل الذئب من الغنم القاصية، وتنفيذا لمخطط انقسامي يكرس على الأرض واقع ما كان يعرف في أدبيات المستعمر بأرض المخزن وأرض السيبة.
والعجيب أن ترى اليوم من أجيال القنطرة من يحن إلى أعراف "كسيلة" ويرفع عويل الغبن في ضياع فرصة تطبيق هذا الظهير البئيس المفلس، متهما في صفاقة من تصدوا له بالخيانة والعمالة والمأجورية لقضايا العرب وغزو العروبة، مع علم المتهم "بخفض الهاء" أن هذا الظهير سطرت بنوده سلطات الاحتلال الفرنسي لتيسير السطو على الأرض التي كانت تحت أقدام المسلمين الأمازيغ بأقل كلفة وأدنى الخسائر.
غريب حقا وباعث على الغرابة صدقا أن تكتشف بعد حين تنطوي في جوفه عقود من الاستقلال، أن هذا الفكر الزائف لا تزال بقايا مكنونه مخزّنة في صدور خلايا بشرية نائمة نومة من يتحيّن فرصة وقوع منبهات أحداث تراكم وقائعها الأقدار بمعهود تشترك في تأثيث صورته السريالية المآسي كما المسرات، غير أن الاستثناء في قدر هذا المعهود هو أن بعض الوجوه لا ترى إلا بعين واحدة وفي صوب واحد، ولا تقع بؤر الرؤية وإسقاطات النظر منها إلا كما يقع الذباب على كل ركس ونجاسة.
إن حدثا مأساويًا كالذي وقع لبائع السمك والمضارب فيه بالجملة في مدينة الحسيمة المغربية ذات الأغلبية الريفية من الساكنة، لو أنه وقع افتراضا وبتفاصيله الظالمة في العاصمة الإدارية للمملكة الرباط أو الاقتصادية الدار البيضاء ـ وقلنا افتراضا من باب التجوّز وإلا فمثل هذه المظالم لم تخل من وقوعها وبتكرار مدينة في المغرب بله في العالم بأسره ـ لما كان قد حصل ما حصل من سطو وركوب حائف على نعش الضحية، واستثمار لمأساة أهله وذويه استثمارا بلغ استغلاله من طرف هذه الخلايا المستيقظة فجأة إلى التسريع في فتح وتصفية حساباتها الضيقة مع الوطن، مطالبة بالانفصال ومتأبطة في خرجاتها المترادفة مشروعها الطائفي، ورافعة أعلاما وبيارق محلية عاش الكثير منا عقودا من الزمن لم يقف لها على اسم ولا عرف لها رسما ولا فقه لها دلالة لون ورمز، ناهيك عن الشعارات التي رفعت ألويتها وتخرصت بها أفمام توسط أصحابها الزحام وتفرقوا في الأطراف وتواجدوا في المقدمات وفق إستراتيجية من الغباء ألا توصف بدقة التدبير، من جهة علم أصحابها بحقيقة أن زخم الخرجات ومادتها البشرية لم تكن على نسيج واحد، فقد كانت خليطا من الذين خرجوا في عفوية يؤبنون الضحية ويشيعونه إلى ما قدمه بين يدي ربه جل جلاله، مستنكرين في أدب جم ما وقع من ظلم واعتساف حيف، واضعين الأمر في إطاره الذي لا يخرج عن كونه شططا وقع من أناس أضاعوا أمانة الرعاية وأسقطوا صوت الضمير المهني فلا تكاد ترى منهم وبالاطراد إلا الظلم والعدوان والبغي أينما حلوا وارتحلوا، وأصحاب أجندات وخلفيات مبيّتة من النافخين في رماد الفتنة الرائمين بث الفرقة والذهاب مذهب ما تمليه عليهم مصالح المستعمر القديمة المتجددة في غير سفور ولا بشاعة وجه وتطرف مطلب، وهؤلاء كان تعاطيهم ولا يزال مع القضايا والمستجدات يتجاوز النظر إلى الشطط الفردي والظلم الواقع جراء استغلال نفوذ وتطرف الأنفاس الشخصية للقرارات الجائرة، إلى الاعتبار الذي يسحب هذا الاتهام على النظام برمته ويحمل الدولة كامل المسؤولية، ومن ثم يجعل الكل شماعة للقفز إلى مآربه الأخرى، مستنصرا مستصرخا في ضجيج مظلومية بمؤسسات الغرب الرسمية والمدنية، مطالبا في رغبة بتدويل الأزمة وعولمة الإدانة ضد نظام لا يستحيي هؤلاء الذين يرفلون في ثوب الزينة في ظل ما أنعم به الله على البلاد والعباد من نعمتي الأمن والإطعام من الجوع أن ينعتوه بالمستعمر الغازي الغاشم...
ولنرجع لربط ذيل الموضوع برأسه منبهين على ضياع دعوى قدرة الفكر العلماني على النظر إلى الكل المتباين باعتباره وحدة متراصة، وأنها مزاعم سرعان ما تكشف نار الفتنة عن نوعية معدنها وأشابة تكوينها، وليس الكلام من باب الرمي رجما بالغيب، وإنما بلاء الأمر بيّن بما لا يدع هامشا للشك والريبة في كون العلمانية والعلمانيين يرون في وجود غيرها وغيرهم إلى جانبها وجانبهم منكرا من القول وزورا مافتئ يغريها كفكر ويغري أصحابها للطّمع بجرعة جشع في استئصال شأفة الإسلام والمسلمين، ولذلك لا نكاد نسمع ركزا للعلمانية ومن يركبون قاربها المطاطي وهي ترى وهم يرون بطش الغرب وعبث آلته الحربية بأرواح الأبرياء من الأطفال والحرائر والسخائم المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، ويا ليت الأمر التزم منقصة السكوت والصمت المريب، ولكن المصيبة أن نسمع لهم ولها أصواتا تعربد مؤيدة ومناصرة ومدافعة ومسوغة لغشم الغرب الصليبي والشيوعية القاتلة والبوذية الحاقدة والهندوسية المتمردة، ومجموع المعطوفات القاتلة يتلذذ في سادية لا مثيل لها، وتلك أنهار دماء المسلمين العزل تجري من تحت أقدام مدنيتهم التي لا ولن تجد متنفسا لها إلا في انفراط عقدنا وذهاب ريحنا وإيقاد العداوة بين مكونات جسدنا المتراص من خلال التسلل لواذا عبر أحداث يقع من جنسها ونوع ظلمها في بلادهم المئات والمئات ليس في السنة ولا الشهر ولا اليوم ولا الساعة وإنما بتعداد الثواني ولحظات الأنفاس وانتباهة العيون وغمضتها.
ويبقى الفرق أن فاعلهم ومقارف ذنبهم معتوه مخبول مجنون وسفيه تنزل في حقه أقصى الرحمات وتعطل في وجهه أعدل العقوبات، بينما فاعلنا ومقارف ذنبنا إرهابي متطرف وعنصري عروبي صلف وجب أن يُباد لتنبعث من قبره وحفرة وأده رسالات السلام والعدل والحرية والمساواة للإنسانية جمعاء، بله للعالم أجمع...
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف: