سلسلة إمام أهل السنة - [2] فتنة القول بخلق القرآن
كان أمر الناس جارياً على السنة والسداد من إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأن القرآن كلام الله.. هذا الأصل العقدي محل إجماع من جميع الصحابة رضي الله عنهم، وعليه عامة التابعين إلى بعد المائتين حيث ظهر المأمون الخليفة -وكان ذكياً متكلماً، له نظر في المعقول- فاستجلب كتب الأوائل، وعرّب حكمة اليونان، وحمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء فلم يُمْهَل، وهَلَكَ لِعامه، ثم استفحلت جداً في أيام المعتصم، ثم استمرت على هذا المنوال في أيام حفيده الواثق بن المعتصم، وثلاثتهم أمهاتهم: أم ولد.. كانت هذه المقولة إلى وفاة الرشيد "فتنة" تدور في فلك البحث والمناظرة، وكان القول بها من المتبنِّين لها، على وجل وخوف.
فتنة القول بخلق القرآن
كان أمر الناس جارياً على السنة والسداد من إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأن القرآن كلام الله.. هذا الأصل العقدي محل إجماع من جميع الصحابة رضي الله عنهم، وعليه عامة التابعين إلى بعد المائتين حيث ظهر المأمون الخليفة -وكان ذكياً متكلماً، له نظر في المعقول- فاستجلب كتب الأوائل، وعرّب حكمة اليونان، وحمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء فلم يُمْهَل، وهَلَكَ لِعامه، ثم استفحلت جداً في أيام المعتصم، ثم استمرت على هذا المنوال في أيام حفيده الواثق بن المعتصم، وثلاثتهم أمهاتهم: أم ولد.. كانت هذه المقولة إلى وفاة الرشيد "فتنة" تدور في فلك البحث والمناظرة، وكان القول بها من المتبنِّين لها، على وجل وخوف.
فلما ولي المأمون، اعتمد خطة قسرية مشؤومة لحمل الناس عليها.
وكان متولي كبرها ثلاثة نفر:
1- أحمد بن أبي دؤاد رئيس قضاة المأمون، المتوفي سنة (240هـ).
2- خادمه في بغداد، المصعبي: إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب الخزاعي المتوفي سنة (235هـ) صاحب الشرطة في بغداد ، أيام المأمون والواثق والمتوكل.
كان المأمون يبعث له وهو في طرسوس سنة (218هـ) الكتاب يتلوه الكتاب حتى بلغت في هذا العام خمسة كتب ساقها ابن جرير في تاريخه (2/112-121) وكان ثانيها في شهر ربيع الأول عام (218هـ).
بدأ بكتابه الأول بدعوة العلماء إلى دار الشرطة ببغداد، وأخذ جوابهم على القول بخلق القرآن، ثم بعث أجوبتهم إليه، وخص من لهم مناصب من العلماء، وجعل عقوبة من لم يجب العزل منصبه، ولم يلتفت إلى كتابه أحد من العلماء الأحرار الطلقاء.
فكتب ثانية له ببعث سبعة من المحدثين هم:
محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويزيد بن هارون، وابن معين، وأبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي.
وتحت التهديد والامتحان أجابوا مكرهين.
فلما علم الإمام أحمد تمنى لو صبروا، وقاموا لله، لكان الأمر قد انقطع ، وقال: "هم أول من ثلم هذه الثلمة" لأنهم أجابوا وهم عيون البلد، فاجتُرئ على غيرهم.
وكان أحمد لا يرى التحديث عمن أجاب في الفتنة، ولم يُصَلِّ على من أجاب، منهم أبو نصر التمار.
ثم تتابعت كتب المأمون، وكان من الذين أجابوا أبو معمر القطيعي، وكان من شدة إدلاله بالسنة يقول: لو تكلّمتْ بغلتي لقالت: إنها سنية.
وأخذ في المحنة، فأجاب، فلما خرج قال: كفرنا وخرجنا.
ثم اشتدت لهجة المأمون في كتبه، فجعل فيها عقوبة من لم يُجب الحبس، وأمر بإحضار علماء بغداد، وامتحانهم على ذلك، فلم يجب أربعة منهم، وهم:
أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وعبيد الله بن عمر القواريري، والحسن بن حماد المشهور بلقب: "سجّادة" وقد أجاب الأخيران بَعْدُ تقية، وأصر أحمد ومحمد بن نوح على الحق: "القرآن كلام الله غير مخلوق".
من هنا حبس الشيخان، وقيدا، وحملا على جمل متعادلين، وبُعث بهما إلى المأمون في طرسوس، وكان أحمد وهو في الطريق يسأل الله أن لا يرى المأمون، فمات المأمون، وهما في الطريق سنة (218هـ) فردّا إلى بغداد، ومات محمد بن نوح في الطريق بمحل اسمه: " عانات " فحلت أقياده وغسِّل، وصلى عليه الإمام أحمد، ودُفع بأحمد إلى السجن في بغداد.
3- صحفي الفتنة، تلميذ ثمامة بن أشرس، والنظام: الجاحظ عمرو بن بحر بن محبوب البصري الكناني مولاهم المتوفي سنة (255هـ) كان ينشر المناظرة، ويروجها، وقد أهدى كتابه (البيان والتبيين) لابن أبي دؤاد فأجازه عليه خمسة آلاف درهم.
هذه صورة لخطوات الفتنة، فالمحنة وبينما هي على أشدها كذلك في عهد المأمون هذا، إذ ينازعه المرض، فلما أحس بدنو الأجل، كانت وصيته لأخيه المعتصم الخليفة من بعده، أن يواصل أمر المحنة على القول بخلق القرآن، وحمل الناس عليه، ولهذا بلغ البلاء أشده في عهد المعتصم.
المحنة في عهد المعتصم:
تولى المعتصم محمد بن هارون الرشيد سنة (218هـ)، ولم يكن على درجة المأمون في معلوماته، بل كان موصوفاً بالجهل، وهو القائل: "لا حول ولا قوة إلا بالله" خليفة أميّ، ووزير عاميّ، وذلك لما مرت عليه كلمة "الكلأ" فلم يعرف معناها لا هو ولا وزيره.
وفي هذه النوبة تسلطت الأضواء على السجين المكبل، المعذب الإمام أحمد بن حنبل الذي باء المعتصم بالأمر بضربه في عهده حتى خُلعت يداه، إذ لم يضرب قبل في عهد المأمون ولا بعد في عهد الواثق.
بقي أحمد مقيداً في بغداد ينقل من سجن إلى سجن، حتى حول إلى سجن العامة، وكان يصلي بأهل السجن، وهو مقيد، فصار مكثه نحواً من ثلاثين شهراً.
وكان يناظره في السجن رجلان هما: أحمد بن محمد بن رباح، وأبو شعيب الحجام، وكانا كلما فرغا من مناظرته، زاداه قيداً على قيوده، وآلت به الحال إلى إثقاله بالقيود، وجعله في سجن ضيق مظلم لا نور فيه.
وكان ممن توفي في السجن عام (217هـ) شيخ دمشق ومحدثها أبو مسهر الغساني عبد الأعلى بن مسهر ببغداد في حبس المأمون، لكونه لم يجب إلى القول بأن القرآن مخلوق.
ثم حمل الإمام أحمد على دابة إلى المعتصم في العشر الأواخر من رمضان عام (219هـ)، فيناظره أحمد بن أبي دؤاد، وجمع كثير من أصحابه في مجالس متعددة يحاجه هذا ثم يحاجه آخر.
وكان الإمام أحمد لا يلتفت إلى أحمد بن أبي دؤاد ولا ينظر إليه، وكان يرفض أحياناً محاجته، لأنه عامي، فيزداد غيظ ابن أبي دؤاد، وينزل من عيون الحضور.
والإمام أحمد في هذه المجالس المتعاقبة لا يرى الأخذ بالتقية والإجابة في الفتنة، فاستمر وهو صابر ثابت محتسب صلب مصمم، مصرّ على كلمة الحق، وما ضبط عليه لحن قط، والناس في رحبة الدار خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، في أيديهم الصحف والأقلام والمحابر، يكتبون ما يقوله أحمد، وأما ما يصيبه من الأذى والابتلاء على رؤوس الملأ ، فحدث ولا حرج:
إحضار الجلادين معهم السياط، يُضرب بها الإمام حتى يسقط، فإذا أفاق لعن وسب، ومع نخسه بقوائم السيوف، والإمام في كل هذه الأحوال مقيد، وفي بعضها وهو في حال الصيام، استمر الإمام على هذه الحال ثمانية وعشرين شهراً.
والمعتصم في هذه الأحوال، يرقّ للإمام أحمد، ويقول: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي، ما عرضت لك، ويريد أن يخلي سبيله، وأحمد بن أبي دؤاد يصرفه عما يريد، ويهول عليه سوء العاقبة إن أطلقه وخلّى سبيله.
ثم استدعى المعتصم عَمّ الإمام أحمد، وقال لهم: ها هو صحيح البدن، فقال: نعم، قال: سلمته إليكم، وما هذا إلا لعظم منزلة الإمام أحمد في نفوس العامة والخاصة، فخاف أن يموت من الضرب، فتخرج عليه عامة بغداد، وخلع عليه المعتصم ثياباً ورياشاً، فلما وصل أحمد إلى داره خلع ما كان عليه، وأمر به فبيع، وتصدق بثمنه.
هذا ملخص خبر محنته أيام المعتصم حتى مات المعتصم سنة (227هـ)، استمرت من السنة التي مات فيها المأمون إلى تولي أخيه المعتصم سنة (218هـ)، ابتداءً من شهر جمادى الآخرة، حتى شهر ذي الحجة من عام (220هـ)، وبعدها أطلقه المعتصم من السجن، ورفع عنه المحنة وعن غيره، وعاش الإمام طليقاً يحضر الجمعة والجماعة، بعد برئه من مرض ما لحقه من الضرب والتعذيب، يباشر التدريس، والفتوى، والتحديث، وذلك لمدة سبع سنين دأباً.
حتى مات المعتصم سنة (227هـ).
بدن يعذب لكن روحه في نعيم، وأُنْس بالله عز وجل وصبر واحتساب في ذات الله، ونصرة دينه، وإيثار للدين على الدنيا، لهذا لما أفلت الفتنة في عهد المعتصم، كان من سمو نفسه، وعالي خلقه، وشرف طبعه إعلانه العفو عن كل من آذاه ، وأنه في حل وجعل المعتصم في حل يوم فَتَحَ بابل وعمورية.
أما المحنة في عهد الواثق الذي ولي الخلافة بعد أبيه المعتصم (227هـ) وهو من أم ولد، وكانت وفاته سنة (232هـ)، ولم يؤثر عنه أنه ألحق بالإمام أحمد أذى أو محنة في الفتنة، لأنه علم مقام الإمام أحمد من العامة والخاصة، فخشي ثورتهم عليه، ولأن ذلك يزيد الإمام أحمد منزلة عند الناس، ويزيد فكره ذيوعاً وانتشاراً، لكن كتب الواثق كتابه إلى عامله إسحاق بن إبراهيم، ينهى فيه الإمام أحمد عن مساكنته وليذهب حيث شاء..
عندئذ قطع أحمد التحديث في آخر سنة (227هـ) واختبأ بين داره ودور أصدقائه، وما زال كذلك حتى هلك الواثق، قال دعبل بن علي الخزاعي:
خليفة مات لم يحزن له أحد *** وآخر قام لم يفرح به أحد
هذه هي الفتنة وهذه هي مجرياتها وأحداثها، وفيها عبر، وللحديث صلة إن شاء الله.
- التصنيف:
- المصدر: