إلى حلب...

منذ 2017-01-29

لم يعد في الأوراق مكان لكتابة قصص الألم.

لم يعد في الأوراق مكان لكتابة قصص الألم، ولم يعد معنا ألوان تلون لون الدم النازف لترسم لوحة مشابهة، كل اللوحات صارت واقعية، وكل القصص المقهورة صارت متحركة حية! فجرنا الحزين يخرج على استحياء بعد ساعات من الآن، لكنه يلتحف عباءة العزاء، ويحمل فوق كتفه هموم المقهورين المنكسرين من الضعفاء، لقد تغير لونه من أثر الأحزان حتى قارب لونه لون المساء!

إن الكلمات لتأبى التعبير والألفاظ تمتنع عن البيان، ولكأن الطرق مسدودة بلون الدم، بلون الألم، والجدران تهدمت، بعدما نخرتها معاول الألم واشتكت من جلد العدو وضعف الصديق.

ولكأن الشوارع السابحة في الظلام الدامس تاهت أسماؤها، وتشابهت، فالكل يؤدي لمثوى واحد هو مثوى النزف...

قبل قليل استمعت إلى تصريحات الطبيب عن الشهداء والأطفال في حلب وهو يقول: "إن الجثث وصلت محترقة ومقطعة بشكل كامل، مما صعب التعرف على هوية الكثيرين"، وذكرت عندها مقولة عمر رضي الله عنه يوم لم يعرف أسماء بعض الشهداء... فما زاد أن قال: "ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرفهم"!

فيا عمر بن الخطاب يا فاتح الأقصى، ومذل الظالمين وناشر العدل والحرية والكرامة: هل أتاك نبأ الأمة بعد قرون؟! عرض مستباح، ودين مضطهد، وأمل مغتال، وطفل ينتحب، ومسجد يتهدم!

يعلوني الألم، ويتملكني القهر، ويحيط بي الخجل، وأنا أكتب كلماتي تلك، بينما المستضعفين يكابدون عناء نزف الدم وتضميد الجراح، يحيطهم القصف والجوع والظلام، ولست أستطيع أن أخفف من محنتهم شيئًا! وكما كتبت من قبل قبل سنوات اعتذارًا أعيد فأكرر كلماته، فما هي إلا رسالة اعتذار، ولسنا للأسف نملك سوى الاعتذار... وما أكثر رسائل الاعتذار!

اعتذار لكل طفل أصبح من يومه يتيمًا لا يجد أباه، ولكل طفل صار شليلًا أو كسيحًا أومبتور الأعضاء وهو في مقتبل حياته وزهرة طفولته...

اعتذار إلى كل أم ثكلى قد فقدت وليدها، وراحت صرخاتها وسط ضجيج الصرخات...

اعتذار إلى كل حرة انتهك عرضها، ولكل أبية ساموها سوء العذاب...

اعتذار لكل مريض فقد دواءه ولم يستطع الحصول عليه، فيعاني شدة الآلام...

اعتذار لكل عائل أسرة قد فقد عمله ومصدر قوته، فيعاني كل حرقة إذ يرى أبناءه يتألمون من الجوع...

كل ثلاجات الموتى قد امتلأت عن آخرها، وكل المستشفيات قد امتلأت بالجراح وبالأنين... حتى طواقم المستشفيات قد استهدفت!... فلم يبق مكانًا في ثلاجات الموتى!

مئات الشهداء وآلاف الجرحى تختلط دماؤهم بدماء بعض، وتختلط منهم قطرات الدم وقطرات الدمع المنهمر من قلوب جميع الشعب المجروح بجراح الغدر.

كل شىء كما كان، الدبابات الحقود تصب جام أذاها على البيوت والطرقات، يسقط أطفال صغار، وشيوخ كبار، ونساء أرهقهن عناء الطريق... الأمهات يظللن يبحثن عن بقايا جثث أطفالهن في كل مكان... بجوار أطر السيارات، وأرصفة الشوارع، وأبواب الدكاكين المغلقة...

فيا أم الصغير الذي اغتالته دبابات الغل الطائفي القديم: قولي للجالسين فوق موائد المساومة أن ابنك الجميل قد قتل، وهو يلقي صرخة من حنجرته الأبية بينما يرفض الخنوع...!

ويا صرخة الثكلى... انتظري قليلًا ليعود إليك طفلك الصغير، لابسًا أحسن الثياب، اللون لون البياض، والثغر باسم مزهر، والروح ترفرف من حوله، لقد أسميناه "الشهيد".

إن المحنة دومًا هي رحم القوة، ومنطلق ولادة الانتصار، وإن آتون الآلام لتنصهر به الصفات فيتميز طيبها من خبيثها، فتنقى كما ينقى الذهب الإبريز، فلا يبقى ثَم في الأطفال بعد المحنة إلا صفات الرجولة والعزم ولا يبقى في النساء إلا صفات الفضيلة والصبر والقناعة ولا يبقى في الرجال إلا الكرامة والاستعلاء فوق الأزمات...

إن أظافر المحنة الجارحة لتفتل حبلًا وثيقًا يربط المؤمن بالله، حين يرى ضعفه وقلة حيلته، ويدرك فقره وخور قوته، فيلجأ إلى القوى العزيز ويقر له بكل حول وقوة وبكل قدرة وعزة وبكل قيومية وشهادة، فيسلم شأنه لربه، وتصبح حياته سابحة في يقين راسخ وتوكل مخلص... تنتظر لحظة الانتصار.

لكم نشعر بمرارة في حلوقنا وحسرة في مشاعرنا أنا لم نستطع أن نقدم سوى الحسرات، ولم نستطع أن نمسح دمعة طفل لفراق أبيه، ولم نستطع أن نعالج جرحًا نازفًا في صدر أبيّ صامد، ولم نستطع تقديم شربة ماء لحلق قد أكله الجفاف، ولم نستطع حتى أن نشارك في جنازة الشهداء.

إن اهتمامنا لأمركم ليس شأنًا خاصًا بنا، وبكاءنا على آلامكم ليس مجرد عاطفة عابرة في صدورنا، وحرصنا على خيركم ليس فضلًا كامنًا فينا، إنما اهتمامنا بكم واجب شرعي في أعناقنا، وبكاؤنا إنما هو على جراح أجسادنا التي إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائرها بالحمى والسهر، وحرصنا على خيركم هو حرص النفس على خير ذاتها...

خالد روشة

داعية و دكتور في التربية

  • 1
  • 0
  • 3,022

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً