نحن والآخر بين زيف التطبيع وحقيقة التطويع
هناك في أرض فلسطين المحتلة، أرض الوقف العمري، وضمن خارطة البؤر الاستيطانية المغتصبة، يعمد معلمو مادة الرياضيات في المرحلة الابتدائية، وهم يلقنون الناشئة مبادئ عمليات الطرح، إلى الاستعانة بوضعيات بيداغوجية لدكتكة العمليات الحسابية، بحيث تكون عناصر الطرح من مطروح ومطروح منه وحاصل مادتها الرقمية الخام هي معشر الفلسطينيين..
هناك في أرض فلسطين المحتلة، أرض الوقف العمري، وضمن خارطة البؤر الاستيطانية المغتصبة، يعمد معلمو مادة الرياضيات في المرحلة الابتدائية، وهم يلقنون الناشئة مبادئ عمليات الطرح، إلى الاستعانة بوضعيات بيداغوجية لدكتكة العمليات الحسابية، بحيث تكون عناصر الطرح من مطروح ومطروح منه وحاصل مادتها الرقمية الخام هي معشر الفلسطينيين...
ولعله طرح حسابي يذكي في نفسية المتلقي الصغير باكرًا مشاعر الحقد والبراء والعداوة إزاء جنس المسلمين عمومًا والفلسطينيين خصوصًا، في مقابل تغذية وتقوية روح التفوق والقوة والاستئثار بحق البقاء، وأصلية المواطنة بين التاريخ والجغرافية لدى الطفل الإسرائيلي، وربما بدا الأمر لأول وهلة يميل إلى الأساليب التي تحكمها الحسابات والإرادات الشخصية والمواقف الفردية للملقي، عندما يغرد خارج سرب المنهج والمنظومة الأكاديمية للتعليم هناك ليس إلا، بينما الأمر على حقيقته هو منطق تطبع أسسه البواعث العقدية، وتتحكم في محطات إخراجه مقومات وضوابط صدق الانتساب العميق إلى الدين أولًا والجنس ثانيًا.
وسواء آمنا بهذا أو ذلك، فالواقع يشهد ليس على المنظومة التعليمية من الداخل فحسب، وإنما خارجها حيث مكونات النسيج المجتمعي الإسرائيلي ومعه الغربي، بدءا بالأسرة ثم الشارع فالسوق فالمرفق الإداري والأمني والعسكري، فكلها مكونات تتشارك في صنع المأساة وتأثيث الصورة العدوانية وتمكينها من وجدان الطفل الغربي عموما والإسرائيلي خصوصا، حيث تساهم وتساعد في جنوحه إلى العنف بسادية وعدم قبول الآخر "نحن" على مر مراحل العمر من شباب وكهولة وشيخوخة، ويزيد من تغول حقده ما صُبّ في ذهنه وفؤاده أثناء فترة ما قضاه من تدريب مس الجسد والروح أيام تجنيده إجباريا...
ولا شك أنها ترتيبات وخطط عالية الدقة من جهة أنها نجحت وأفلحت في تأبيد شعور الحقد وترجمته إلى سلوكٍ عدوانيٍ وفعل استبدادي، جعل ويجعل على طول خط الرجعة حق عيشنا عيشة آمنة مطمئنة إثما منكورا وامتيازا مطاردا في البر والبحر والهواء، كل هذا بطبيعة الحال مسطر ضمن برامج وأدبيات تؤطرها الأهداف والمقاصد الكبرى للغرب ومنظومته الفلسفية الكونية.
وليس هذا وغيره مما لم نحط به علما من جهة التفصيل لا الإجمال بالأمر المستغرب، ولن يكون كذلك في ظل ما تعرفنا عليه بل تذوقنا مرارته من سياسةٍ غربيةٍ مجتاحة ومجتثة ومبيدة لجنسنا ومغتصبة لأرضنا وعرضنا وسالبةٍ لحقوقنا وسارقة لثرواتنا ما ظهر منها وما بطن، ليس اليوم فقط وإنما هو اجتياح واجتثات وإبادة قديمة العهد متجددة العقد، فالجشع هو الجشع، والحقد هو الحقد، والمؤامرة موصولة بأخواتها في ترادف لا يكف ولا يجف، فالرجل الأبيض اعتاد واستمرأ حين النظر إلينا أن يميت ضميره الإنساني وأن يعلق شعاراته الحقوقية إلى حين، فليس له عند الاستشعار بوجودنا، أو تذكره لعيشنا إلى جانبه إلا تحريك أنزيمات الهضم وتحريك شدقي الابتلاع ونواجذ الطحن، شوقا منه إلى دمائنا الحلوة، اشتياقًا يغنينا عن التفصيل في حجم وكم وعدد ركام ضحايانا الضارب في الطول والعرض، فإنه ولا ريب تفصيل مخل بأدبيات المعرفة التاريخية وحاجة الناس منها وإليها تحقيقًا لا تعليقًا، وإنما يبقى المراد من المثال وما أردفه من إجمال هو التقعيد لذلك المنطق الذي سطره وتبناه الغرب لتبرير جرائمه وتسويغ اعتسافه وتمرير قتله ونهبه في لحنٍ حضاري منغوم، وسمفونية مدنية انقلب فيها النوح والبكاء والتأبين والعويل المنبعث من أرضنا وحمى ثغورنا إلى إنشاد وترنيم حداثي يحجب كل ما ذكر من عدوان ومصادرة حقٍ في الحياة وكريم الممات والتهام للحرمات، إنشاد طفق يخصف على عدوانه من ورق الشرف، ويفرض لصوصيته عبر قوانينه الجائرة والرفع السافر لسبابات امتياز حق نقضه القاتل، ذلك الرفع الذي ما فتئ ينمط حيفه وفظاظة جبروته في قالب أقنعة حقوقية مأمونة الجزاء، فالغرب قديمًا استعمرنا ليرفع عنا الجهل ومعالم البداوة ويصبغ علينا نعمه الظاهرة: نعم الحضارة والتفوق المادي الباهر، ويجود علينا باعتباره رسولًا للحضارة بجرعات متوازنةٍ من الحداثة والتمدن، بل ويحمينا من بطش أنفسنا وتكالب بعضنا على بعض.
وها هو اليوم عاد ليدك علينا الأرض دكًا دكًا، متوافدًا علينا بعسكره صفًا صفًا، كل هذا من أجل حمايتنا ـ في دائرة حرصه على سلامتنا طبعًا ـ من الإرهاب والتطرف الإسلامي الذي بات يتهددنا كما يتهدده بل ويتهدد الناس أجمعين، ولذلك تجده اليوم وهو يقاتل الشعوب المستضعفة ويسرق ثرواتها المحلية ويغتصب الأعراض ويفكك الحكومات وينسف الإطارات السيادية ويرمي بالجحيم من على سرب طائراته المقاتلة يخون المقاومة في صفاقةٍ طافحةٍ، بله يحسب عدوانه عبادة وقربة منه إلى إلهه المصلوب...
ولذلك فليس الشأن شأنه متى ما كان هذا اعتقاده، ومتى ما كان هذا هو ركز توقيعه الحضاري الزائف، ولكن المعتبر من جهة الإحساس بحجم الضرر هو الوقوف مع معشر الذاهلين عن حقوقهم، المستسلمين في سذاجة وغباء لدعاوى إسكات ضمائرهم، وخاصة منهم المتواطئون المشاركون في فتح بر وبحر وسماء أوطانهم أمام ما يملأ الأفق من ترسانة هذا العدو عفوا الولي الحميم، من وافداته الفكرية والثقافية المدخولة الناسخة والناسفة والمنقلبة على ميراث النبوة وتراث الأمة أمة الوسط والخيرية والشهادة.
ولعله النسف والنسخ والانقلاب الذي حصر وحشر بالقسر خطابنا وما يندرج تحته من أنواع خطابية استوعبت الديني والسياسي والصحفي والأمني والعسكري في جريان اللسان بحسن الثناء، والتحضيض على قبول الآخر ومهادنته على ضعف منا ووهن، وقوة وفظاظة غطرسة منه، بل وتسويغ ظلمه وختم اعتسافه بخاتم العدل والنبل، في مقابل إرجاع وسحب كل اللوم على الإسلام والمسلمين بلغ نصاب اجتراء سحبه وإرجاعه حد ودركة شتم الإسلام واتهام الكتاب وتخوين الأنبياء والمرسلين والصحابة الكرام، بل لامس خطابهم الاستدراكي أو كاد يلامس الاعتراض القديم الذي كان مفاد ملتمسه زمن مهد الدعوة وإبان غربتها الأولى ما حكاه ربنا جل جلاله مخبرا عن فحوى هذا الاعتراض القرشي ومطلبه الجائر إذ قال سبحانه وتعالى : {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [ يونس جزء من الآية: 15].
ورغم أن الشريعة لم تستجب لمطالب القوم قديمًا غير أنها مطالب ظلت قائمة في سلسلةٍ متواترة الحلقات يجر بعضها بعضًا، فلم ييأس أصحابها أينما وجدوا من الإبقاء على الأمل في تحصلها قائمًا، سيما وأن إقناع الناس هو هدف تؤثر في مجريات تحقيقه ظهور الأهواء واستقواء الشبهات والشهوات، وهو الاستقواء الذي يغبش عين المسلم عن إدراك حقيقة هذا المطلب القديم المتجدد تحت مسميات محدثة تلبي الحاجيات الحداثية للمرحلة الراهنة، وتمرر أنواعًا من الاستبدال المذكور في مقام الاستغناء بالأدنى على الذي هو خير، ولعل جزءًا منه هو الذي لا يزال صراخه وضجيجه يعانق مأمول مس المناهج التربوية الإسلامية بنصبٍ وعذابٍ تكييفًا لها وتطويعًا لأحكامها بالحذف تارة والإقصاء أخرى والتحريف ثالثة والتعمية رابعة، ومنه ما يحصل من صرف لمعنى ومتعين جنس المغضوب عليهم والضالين عن اليهود والنصارى عطفًا وتبعًا، وحصر الكفر والضلالة الموجبة لغضب الرب جل في علاه على مشركي قريش وكفارها، بينما وفي المقابل يستأثر الآخر بكل حقوقه وهامش حريته وجراءة موقفه في نعتنا واتهامنا ووسمنا بكل عارٍ وشنار، وترتيب عقوبة تذبيح الأبناء واستحياء النساء، بل الإبقاء عليهن تلبية لحاجات وشهوات الرجل الأبيض رضي الله عنه وأرضاه بمنطق إعلامنا البئيس وتواطئ جوقة المترفين من الذاهلين في قصد وعمد عن قيمة عظيم الانتساب لأمة الوسط وغرسها الدائم بدوام السماوات والأرض.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف: