من اعتماد الأندلسية إلى ليلى التونسية.. وراء كل طاغية امرأة

منذ 2011-01-24

سقط طاغية تونس في أيام معدودات، بعد غضبة صادقة من جماهير شجاعة، أيقنت أنه لا خلاص إلا بالغضب، فنال كل تونسي كل ما طلب، وكانت سرعة السقوط، وفجأة الهروب ملهية لكثير من المتابعين أن يتدبروا بصورة كلية في آيات وعبر هذا الدرس ...


كم هي عجيبة تلك!؛ أحوال الدنيا وتقلباتها، وتغيرها علي أربابها والمنخدعين بمباهجها، من حال إلي حال، فبين ليلة وضحاها، يزول الملك، وتتحول العافية، وتبدل النعم، فمن ملك منيع إلي تشتت وضياع، ومن عزة ورفعة إلي ذل ومهانة، ومن تغني بالأمجاد والتسبيح بالمحامد إلي لعنات ومهانات وتبرؤ ليل نهار، وفي ذلك اعتبار أيما اعتبار، وعبرة لأولي الأبصار.


سقط طاغية تونس في أيام معدودات، بعد غضبة صادقة من جماهير شجاعة، أيقنت أنه لا خلاص إلا بالغضب، فنال كل تونسي كل ما طلب، وكانت سرعة السقوط، وفجأة الهروب ملهية لكثير من المتابعين أن يتدبروا بصورة كلية في آيات وعبر هذا الدرس البليغ الذي سيحفظه التاريخ وتتناقله الأجيال، كفاتحة عهد التحرر ليس في تونس وحدها، ولكن في العالم العربي بأسره.


وقد تناقلت وسائل الإعلام في الأيام الفائتة، طرفاً من أخبار ليلى زوجة الطاغية بن علي، وأحوالها بعد تبدل النعم وتحول العز والعافية، بعد أن كان نفوذها وجرائمها هي وأسرتها بحق الشعب التونسي هي السبب الرئيس في اشتعال ثورة الغضب المباركة التي أطاحت بها وبزوجها، فقد نقلت الأخبار أن ليلى الطرابلسي تعيش اليوم أسوأ كوابيسها، بعد أن وجدت نفسها مضطرة للعيش في أشد البقاع كراهية في قلبها وهي بلاد الحرمين المقدسة، وهي لا تعرف الفرق بين عدد ركعات العصر من المغرب، بل لا تعرف شيئاً عن تعاليم دينها، وقد لهثت من أجل تقبلها فرنسا أو أمريكا أو كندا أو غيرها من الدول الأوروبية ولكنهم رفضوا جميعاً، ووجدت نفسها لا تستطيع أن تخرج من بيتها إلا وهي مرتدية الحجاب الشرعي، وهي عدوة الحجاب والعفاف الأولي في العالم العربي والإسلامي، والتي نذرت حياتها السابقة في محاربته في تونس، وكانت تقف خلف كل التشريعات والقوانين المحاربة للعفاف والشرف والدين في تونس، كما وجدت ليلى نفسها ممنوعة تماماً من احتساء الخمور والمسكرات التي كانت تدور كؤوسها ليل نهار في قصر قرطاج وغيره، كما أنها منعت من أي اجتماعات وأنشطة سياسية أو إعلامية أو حتى اجتماعية، فلم تعد تتصدر المؤتمرات أو تتسلط عليها أضواء الكاميرات وتهتف باسمها الصحف والمجلات، فهي الآن مجردة من سائر الألقاب إلا لقب واحد وهو : زوجة اللاجئ السياسي الفار "زين العابدين بن علي".


تونس وملوك الطوائف
خلال دراستي التاريخية الطويلة، وبحثي المستفيض في أحوال الأمم والممالك وتقلباتها، لم أر تطابقاً في الأحوال والأوضاع والنشأة والتطورات وحتى المآل والنهايات بين عصرين مثلما رأيت بين أحوال منطقتنا العربية الإسلامية هذه الأيام، مع أحوال وأوضاع عصر ملوك الطوائف في الأندلس والذي استمر من سنة 422 هجرية حتى سنة 495 هجرية أي زيادة عن سبعين سنة، وعلي الرغم من قصر مدة هذا العصر مقارنة بغيره من عصور الأندلس إلا أن هذا العصر كان الأبرز والأهم في مصير الأندلس، ويزخر بالأحوال والأحداث الملتهبة والعبر والدروس الكبيرة.


وكنت أظن أن هذا العصر وإن تشابه في كلياته وعموم أحواله مع أوضاع العالم العربي والإسلامي هذه الأيام، فلن يتشابه في تفصيلاته الصغيرة أو أحداثه اليومية، حتى انطلقت شرارة ثورة تونس المباركة وما تلاها من أحداث متلاحقة وكبيرة وسريعة أطاحت بالطاغية، وانكشف الغطاء السميك عن أحوال الشعب التونسي بعد تعتيم إعلامي لسنوات طوال، وانكشف معه حجم المعاناة الرهيبة التي كان يعانيها هذا الشعب علي يد الطاغية وزوجته، ودور هذه الزوجة المستبدة في اشتعال الثورة وضياع ملك زوجها، عندها مباشرة قفزت أما عيني شخصية "اعتماد الرميكية" فاسمع لهذا التشابه لحد التطابق ولا تعجب فإنها عبرة التاريخ التي لم يعد يعبأ بها أحد في أيامنا هذه.


اعتماد الرميكية وضياع مملكة اشبيلية
اعتماد الرميكية لمن لا يعلم هي زوجة أمير مملكة اشبيلية "المعتمد بن عباد" وكانت مملكة اشبيلية هي أكبر ممالك الأندلس في عصر ملوك الطوائف وأكثرها ثراءً واتساعاً، وكانت في الأصل جارية لرميك بن حجاج فنسبت إليه، واستطاعت اعتماد أن تجذب نظر المعتمد إليها يوم أن أجازت شطر بيت له عجز عن إجازته ابن عمار شاعر الأندلس المشهور، فأفحمته وكانت وقتها تغسل ثياب سيدتها علي شاطئ النهر الكبير في اشبيلية، فانبهر المعتمد بحسنها وذكائها، فاشتراها من سيدها وأعتقها من ذل الرق والعبودية، ثم تزوجها ورفع من شأنها وأجلسها بجواره علي عرش مملكة اشبيلية، ومن شدة غرامه وعشقه لها غير من لقبه الملوكي واشتقه من اسمها، فقد كان لقبه قبل أن يتزوجها "الفائز بالله" فلما تزوجها وهام بها عشقاً، غير لقبع واشتقه من حروف اسمها، وجعله "المعتمد علي الله" ليكون المعتمد وزوجته اعتماد، ومع الأيام صارت هي الآمرة الناهية في قصر اشبيلية، وكان لسمو مكانتها وتمكن نفوذها يطلق عليها لقب "السيدة الكبرى" تماماً مثل السيدات الأوليات في هذا الزمان وما أكثرهن!

 
كانت اعتماد أديبة شديدة البراعة في نظم الشعار مولعة بعقد مجالس الشعر والأدب تبرز للرجال وتجالسهم في هذا المضمار، وكانت مشهورة بالبذخ الشديد والإنفاق علي مجالس اللهو والعبث الفارغ، ولها في ذلك أخبار ونوادر شهيرة، منها "يوم الطين" فقد رأت بعض نساء البادية باشبيلية يبعن اللبن في القرَب وهنّ ماشيات في الطين، فاشتهت أن تفعل فعلهنّ، فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد، وصيّرها جميعاً طيناً في قصره وجعل لها قِرَباً وحِبالاً من إبريسم، فخاضت هي وبنات‍ها وجواريها في ذلك الطين، وقد أنفق المعتمد الأحمق علي هذا اللهو عشرين ألف دينار ذهبي.


أثر اعتماد علي زوجها كان بالغ الخطر، وعظيم الضرر، ذلك أن المعتمد قد غلبه عشقها، وأسره هواها، فصار لا يقطع أمرا دونها، ولا يخطو خطوة إلا برأيها، فكانت غالب قراراته وخطواته بإشارة منها واسترضاء لها، وقد ضجر أهل اشبيلية من تدخلاتها وأثرها السيئ علي ملكهم، خاصة وأنها قد ورطته في الخلاعة والمجون ومجالس البطالة واللذة، وغلب على أحوال المعتمد الاستهتار والمجاهرة بالمعاصي وتعطيل الصلوات وهجر الجمع والجماعات، ثم بلغ الأمر مداه بتدخلها في محالفة الأسبان الصليبيين ضد مملكة المرابطين وملكها البطل العظيم "يوسف بن تاشفين" فعندها ضج أهل اشبيلية وقرطبة من تصرفات ملكهم الطائش وزوجته المستهترة، فكتبوا إلي "سويف بن تاشفين" يطلبون منه نجدة الأندلس قبل السقوط بيد الأسبان الصليبيين.


استجاب المرابطون لنداء مسلمي الأندلس وعبرت جيوشهم البحر، وأسقطوا ملك "المعتمد بن عباد" وأخذوه أسيرا هو وزوجته "اعتماد الرميكية" وانتزعوها من العز والقصر المنيف في اشبيلية، وحملوا إلي بلاد المغرب، ليتم سجنهم بتهمة الخيانة العظمي للإسلام والمسلمين في سجن أغمات علي بعد أربعين كيلومتر من جنوب شرقي مراكش، وعادت اعتماد كما بدأت، عادت إلي الذل والفقر والملابس الخشنة وشظف العيش، فلا قصور ولا ضياع ولا مجالس لهو وخمر وشعر ومجون، بل بيت صغير بجدران صخرية، ونفقة ضئيلة لا تكفي لعول فرد واحد، وانزوت أيام عزها، وولت ليالي سيدة اشبيلية الكبرى أو الأولي، فلم تحتمل إلا قليلاً فذبل حسنها وانطفأ بريقها وضاع بهاؤها، وماتت ودفنت في قبر متواضع في أغمات، وصارت عبرة للأوليين والأخريين.


ليلى الطرابلسية وسقوط الطاغية
ليلى الطرابلسي ولدت في أجواء تشبه الأجواء التي نشأت فيها اعتماد الرميكية مع فارق العصر وظروفه، فأبوها بائع خضار متواضع وله أحد عشر ولدا وبنتا، ليلى تحتل المركز الخامس في ترتيب الأسرة، لم يتسن لها أن تحصل على فرصة تعليم جيدة لضيق ذات اليد، فالتحقت بالعمل في صالون حلاقة حريمي، وكانت نابهة ذكية ذات طلعة بهية، تعرف من أين تؤكل الكتف، فأوقعت في شباك حسنها خليل معاوي رجل أعمال في بدء طريقه وتزوجته، زواج مصلحة لم يصمد سوى ثلاث سنوات، لأنها لن تجد فيه ما يرضي طموحاتها الجامحة، دخلت المعتقل لمخالفتها للقوانين، فنجحت من الخروج منه بفضل جمالها وحسنها ودهائها، وفي تلك الفترة وصلت أخبارها لوزير الداخلية وقتها "زين العابدين بن علي"، فعلق بها وهام بها حباً وأصبحت العلاقة بينهما وثيقة جداً، حتى بعد وصوله لرئاسة البلاد، ولم تطق زوجته الشرعية "نعيمة" أم أولاده الأمر فطلبت الطلاق، وعندها تزوج بن علي خليلته الأثيرة "ليلي".

 
كان الفارق الكبير في السن بين بن علي وليلى (قرابة العشرين سنة) عاملاً فاصلاً في إطلاق يديها في ملعب السياسة والمال والاقتصاد وكل شيء، بعد أن كانت تلعب من قبل في شعور النساء في محلات الحلاقة، واستغلت مكانتها للتدخل في قرارات اتُخذت في القصر ولإملاء تعيينات مقربيها خاصة أخويها: بلحسن وعماد الطرابلسي ومعهما أبناء عائلة آخرون استغلوا القرابة ليجمعوا في جيوبهم الخاصة عشرات الملايين. بحسب التقديرات، حتى وصلت ثروة الطرابلسي 3.5 مليار دولار، جمعت بأحط وأخس الوسائل من ابتزاز وسرقة واحتيال واستعمال نفوذ، واتهمت ليلى بأن سلطاتها تفوق سلطات الوزير الأول، حيث كانت تقيل الوزراء وتعين السفراء والمدراء العامين، بل دخلت في صفقات مباشرة مع الصهاينة، وطالت أيدي ليلى وأخواتها كل تونسي بالإيذاء والتنكيل، حتى أصبحت الشخصية المكروهة الأولي في تونس، وكل من تسول له نفسه أن يتعرض لجناب سلطانة قصر قرطاج، لو هازلاً فالسجن وويلاته هو المصير والمستقر، مثلما حدث مع الممثل التونسي احمد بن سعيدي الذي تجرأ قبل سنتين على السخرية من "السيدة" وحاول أن يقلد أخاها "بلحسن"، نزل بن سعيدي عن خشبة المسرح ووجد رجال شرطة ألقوا به في السجن، ولم يحاكم حتى اندلعت الثورة وأفرج عنه منذ أيام.


ليلى لم تكتف بما جنته وأسرتها من مغانم البلاد، فراحت تحارب الإسلام والفضيلة والحجاب بكل ما أوتيت من قوة، ووقفت خلف قوانين تحريم تعدد الزوجات، ومنع الحجاب في الدوائر الرسمية، وسلبت الأزواج حق الطلاق وجعلته بيد القاضي، وطالبت بالمساواة في الإرث، وحرصت علي تغريب تونس بكل ما أوتيت من قوة، وأعلنت عدائها الصريح لتعاليم الإسلام، وتفننت في التضييق علي المتدينين، فصلاة في المساجد ببطاقات ممغنطة، وحظر للأنشطة الدعوية، وأمور أخرى كثيرة جعلت منها ومن زوجها رمزاً للعتو والطغيان وكراهية الإسلام.


نستطيع أن نقول بكل أمانة وحيادية أن طغيان ليلى وفسادها هي وأسرتها وأقاربها كان السبب الرئيس في انتفاضة الشعب الأبي الذي طفح به الكيل، وقرر أن ينهى هذه المأساة والنكبة التي بليت بها البلاد والعباد، ومن ثم كانت الثورة المباركة التي أطاحت بالطاغية ورفيقته، لتلحق بقافلة النساء الأفاعي اللائي كن سبباً في الإطاحة بأزواجهن مثل اعتماد الرميكية، وإميليدا ماركوس، وإيفا بروان، وغيرهن كثير، ولتثبت الأيام والليالي أن خلف كل طاغية امرأة، ولكن بعبارة أدق خلف كل طاغية هارب من شعبه امرأة.

 بقلم: شريف عبدالعزيز
 
الاثنين 24 يناير 2011 م
 
المصدر: موقع مفكرة الإسلام
  • 3
  • 0
  • 7,893

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً