بسمة الإيمان
خرج موسى عليه السلام بالمؤمنين، فأدركهم فرعون بجيشه، وصار البحر أمامهم، وفرعون خلفهم، واقترب الفريقان، حتى رأى كلٌّ مِنهما الآخر، قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}...
الحمد لله واهب النِّعَم، المتفضل على عباده بكل جميلٍ وخير، والصلاة
والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلِّ اللهمَّ وسلِّم عليه، وارضَ
اللهمَّ عن آله وصحبه أجمعين؛
أما بعدُ:
فالحياة رحلة بلون النَّفْس، والنَّفْسُ وعاءُ الاعتقاد، والاعتقاد
وقود الطريق؛ ومَن لا وقود له فأَنَّى يسير؟ والواقف لا مكان له في
رحلة الحياة.
ومِن عجبٍ أن يكون الإيمان لغةً: التصديق، فهو تصديقٌ بالله عز وجل،
وتصديقٌ برُسُلِه، وتصديقٌ بما أخبر الله عز وجل عنه مِن أخبار
الملائكة والكتب والنبييِّن، حسب التفصيل المشهور المتداول في عقائد
المسلمين ومدوَّناتهم الشاملة، وعلى حسب درجة التصديق تكون
الحياة.
فالمصدِّق حقيقة؛ تراه يبتسم ابتسامة الإيمان، ابتسامة الواثق بالله
عز وجل، وبما أخبر به في كتبه وعلى لسان رسله صلوات الله عليهم، فلا
يجزع الواثق وإِنْ عظمتْ خطوبٌ، ولا يفزع وإِنْ سُدَّتْ أمامه
أبواب.
فالمُصَدِّق الواثق يوقن بالفرج في أحلك الظروف وأقساها، فيقوى عزمه
بثقته بربِّه، وينتظر الصباح ويراه قريبًا رغم ما يحيط به مِن ظلام
يحجب عنه رؤية أصابع يده، غير أنه يرى الله أقرب، ويثق أنَّ الله عز
وجل معه، وأنه سبحانه أقرب إليه مِن نفسه، فيرى بنور الله عز وجل،
ومَن لم يجعل الله له نورًا فما له مِن نورٍ.
فهل آن لتلك النفوس الضعيفة التي تجزع عند أول ابتلاء أنْ تصدِّق
بالله وتثق بوجوده وقدرته على كل شيء؟ وترى في محنتها منحةً؟
وهل آن لتلك القلوب التي كسرتها الدنيا أنْ تجبرَ كسرها بالثقة في
الله عز وجل؟
خرج موسى عليه السلام بالمؤمنين، فأدركهم فرعون بجيشه، وصار البحر
أمامهم، وفرعون خلفهم، واقترب الفريقان، حتى رأى كلٌّ مِنهما الآخر،
قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ
مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي
سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ.
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ. وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ
أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 61- 68].
ولما جمع الباطل جموعه؛ واجهه المؤمنون بقولهم: حسبنا الله ونعم
الوكيل؛ يقول عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} [آل عمران:173].
فحسبنا الله ونعم الوكيل، ليس لفظًا مُجَرَّدًا، لكنه تعبير عن ثقة
بالله عز وجل، والفرح بنصره وفرجه القريب، وإِنْ رآه الآخرون بعيدًا،
تعبير عن صِدْق الركون إلى الله عز وجل واللجوء إليه وحده، والتعلُّق
بجنابه دون سواه.
فهو لفظ كاشفٌ عن التجاءٍ صادقٍ إلى الله عز وجل، وثقةٍ وإيمان بنصره
وفرجه وقدرته وقوته على حماية عباده المؤمنين والدفاع عنهم، وركون إلى
اختياره سبحانه وتعالى للعبد، وابتهالٌ إليه بطلب المَدد والعون منه
سبحانه.
وعندما يصل المؤمن إلى هذه الدرجة من الثقة بالله عز وجل والركون
إليه؛ تراه يستصغر العذاب في جنب الله، ويتلذَّذ البذْل في سبيل الله
عز وجل، فلا يُعجزه ابتلاءٌ، ولا يصدُّه عن هدفه ومقصوده تخويفٌ
وتهويل، فهو يسعى لهدفه ومقصوده، طريقُه واضحةٌ جلية، يفوز مَن أدركها
وسار عليها، ويتيه مَن أخطأها وحاد عنها، فيسير المسلم نحو البلاء
والابتلاء، يشتد البلاء كلما قوي دينه، ويضعف البلاء كلما ضعف دينه
وإيمانه، وترتفع الدرجة بناء على هذه المعادلة، فكلما قوي الإيمان
اشتد البلاء وارتفعت الدرجة في الدنيا والآخرة، وهذا هو النصر والفوز
العظيم.
وفي الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: قلتُ:
يا رسول اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قال: «الأَنْبِيَاءُ،
ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ،
يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ
صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ
خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ
عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»(1 ).
لكن الله عز وجل لم يبتلِ الأمة الإسلامية بما يشق عليها، وإنما
ابتلاها بما تقدر عليه، وما يصلحها ويزيدها قوة في إيمانها وحياتها،
فهو ابتلاءٌ مرافقٌ لتيسير؛ ولذا ترى المؤمن يُقْدِم على التضحية
بنفسه وماله في سبيل دينه؛ إِذْ هو يرى في ذلك ذروة سنام الإسلام،
والغاية العظمى، والنجاة والتطهير له من سائر ذنوبه وآثامه التي
لصقتها به الدنيا الدنية.
وحينئذٍ تراه يبتسم بسمةَ الإيمان الكاشفة عن فرحته بتوصيل رسالته
التي كان يحملها، وأداء مَهَمَّتِه التي عاش لأجلها.
وما الذي يمنع بسمته وهو يسعى للحياة، وغيره يسعى للموت؟ ويمكننا
أَنْ نلتقط هذا المعنى مِن قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ
لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وقوله
في الشهداء: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:
169]، أحياء مع أنهم قد تركوا الحياة الدنيا؛ غير أنهم في حياة أخرى
غير تلك الحياة الدنيا الفانية الزائلة التي كانوا فيها
وتركوها.
أما عميان القلوب فهم يسعون للموت ثم العمى الأشد مِن عماهم في
الدنيا، كما قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي
الآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72}، وقال تعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
فبينما يسعى المؤمن للحياة والإبصار يسعى غيره للموت والعمى، وشتان
بين الفريقين.
والذين لا يعرفون المسلم جيدًا يحاكمونه إلى قوانينهم المادية
البحتة، التي لا تعرف قيمة للروح، فهي لا تفهم قوانين الإيمان، حين
تخالط بَشَاشَتُه القلوب، فيتحول القلب الصغير إلى رحاب كبير يحمل بين
جنباته ما تعجز الأمم عن حمله، ثم هو يرى الأمور بمنظور آخر، يراه
بنور الله عز وجل، الذي يمدّ به عباده المؤمنين، فترى المؤمن وقد صار
نافذ الرؤية، حاد البصر والفِكْر، قوي الفراسة، يتكلم وكأنه يرى
الأمور رأي العين، ويقوى ذلك كلما قوي رباطه بربه وخالقه.
الذين لا يعرفون المسلم لا يلتفتون لهذه القضايا الإيمانية وغيرها من
القضايا الروحية الإسلامية، ولهذا يتيهون في سراب تحليلاتهم
وأضاليلهم، فلا هم قدروا على فهم المسلم، ولا هم قدروا على فهم قضيته
التي يؤمن بها ويسعى إليها.
رأينا ركامًا هائلا من الأخطاء الكبيرة في وسائل الإعلام والأبحاث
والدراسات التي تناولت القضية الإسلامية، خاصة في أوقات الحروب التي
نشأت بين المسلمين وبين غيرهم، في هذا العصر، لكن اتفق أغلب
المُحَلِّلين والمتكلمين في هذه المسائل على قياس الأمور بمقياس
المادة الملموسة، فهم يتابعون الجسد الإسلامي، يرصدون حركاته، فإذا ما
توقف عن الحركة واستسلم للموت، وذهب إلى ربِّه شهيدًا بإذن الله عز
وجل؛ انطلقت أصواتٌ تتحدث عن هزيمة المسلم، معتمدة على المادة المرئية
أمامها، عندما وجدت الجسد الإسلامي الماثل للعيان قد توقف عن الحركة،
وتجهل هذه التحليلات النصف الآخر من المسلم، بل النصف الأصيل
والحقيقي، والذي عليه مدار المسلم كله، به يحيا وبه يموت وعليه يُبعث
إن شاء الله، فهم ينظرون إلى فرع المسلم وأوراقه الجسدية، ولا ينظرون
إلى جذوره وأصوله وأغصانه الإيمانية التي تحمل هذه الأوراق الجسدية
المشهودة للعيان، ومن هنا تأتي أفكارهم وتحليلاتهم عن المسلم مبتوتة
الصلة بقضية المسلم الكبرى، والمتمثلة في إيمانه بالله عز وجل،
وإصراره على إبلاغ قضيته الإيمانية للدنيا بأسرها، حتى إنه ليضحي
بحياته في سبيل قضيته بنفس راضية مطمئنة إلى ما أعدّه الله لعباده
المؤمنين الذين قدموا أرواحهم في سبيل الله، فإذا ما أوصلَ رسالته
ابتسم بسمةَ الإيمان مهما كانت النهاية التي آل إليها جسدُه.
ولا تتوقف بسمة الإيمان لدى المسلم على ما يقوم به بنفسه، أو يصل
إليه بشخصه، بل قد لا يصل إلى شيءٍ، وقد تعوقه عوائق، فتوقفه في وسط
الطريق، لكنه يبتسم إِذْ قد شاهد غيره يصل ويُبْلِغ الرسالة التي
يحملها، وهذا جانبٌ آخر من جوانب المسلم لا يمكن التغافُل عنه.
فالبناء الإسلامي واحدٌ، تتعدَّد صوره بتعدُّد أشخاصه، والمسلم
للمسلم كالجسدِ الواحدِ؛ «لِأَنَّ الإسلام إذا جَمَعَهُمَا صَارَا
كالبَدَنِ الواحدِ؛ كما أَنَّ أُخُوَّةَ النَّسَبِ لَوْ جَمَعْتُهُمَا
كانا كالبَدَنِ الواحدِ، والدِّينُ أقوى مِنَ القَرَابَةِ، وَأَوْلَى
بالمحافظةِ عليه منها، وإلى هذا وقعتِ الإشارةُ بقولهِ عز وجل: {
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
[الحجرات: 10]»(2 )، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَرَى
المؤمنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ
كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ
جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»(3 ).
وفي روايةٍ(4 ): «المؤمنونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ
تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وفي
روايةٍ أخرى(5 ): «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى
عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى
كُلُّهُ».
فالمسلمون في الحقيقة كرجلٍ واحدٍ، يحملون رسالة واحدة، يعملون
جميعًا لإبلاغها للناس بالحكمة والموعظة الحَسَنَة، ويفرحون إذا
وصلتْ، بغض النظر عن تلك اليد التي حملتها، أو اللسان الذي تكلَّم
بها؛ فالجميع كرجلٍ واحدٍ، يبتسم بسمةَ الإيمان إذا ما وصلت الرسالة،
بيده أو بيد أخيه؛ بل إنَّه ليبتسم إذا ما وصلتْ بيد جنود الله عز وجل
الذين لا يعلمهم إلا هو سبحانه؛ كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدَّثر: 31]، فلا يعلم جنود الله عز
وجل سوى الله تبارك وتعالى.
بل قد يؤيد الله عز وجل الدين بالفاجرين؛ كما أَمَرَ النبي صلى الله
عليه وسلم بلالا أَنْ يُنادي في الناس: «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ
هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»(6 ).
فدخول الجنة مقصورٌ على النفوس المسلمة، غير أَنْ تأييد الدين ليس
مقصورًا على المؤمنين؛ بل يؤيده الله عز وجل بمن شاء كيفما شاء.
ولذا يبتسم المسلم ابتسامة الإيمان والثقة بالله عز وجل وتأييده، وهو
يرى الإسلام ينتصر بأيدي أعدائه.
يبتسم المؤمن وهو يرى الإسلام ينتشر في بلادٍ لم نكن نسمع عنها حتى
سمعنا بأنْ الإسلام قد دخلها.
يبتسم وهو يرى إعصارًا قويًّا قد ضرب عدوًّا لله عز وجل، أو خرابًا
قد حَلَّ بدارٍ ظالمةٍ للمؤمنين.
فهو دائم الابتسام والرِّضى والبشاشة، دائم الفرح والسرور، يسعى في
فكاك رَقَبَتِه، وأداء الأمانة التي اختاره الله سبحانه وتعالى
لأدائها، بالحكمة والموعظة الحسنة، فإِنْ قَدَر على توصيل رسالة الله
عز وجل بنفسه فَرِحَ بذلك، وإِنْ لم يستطع الوصول بنفسه فَرِحَ
لوصولها على يد أخيه المسلم، أو على يد بعض جنود الله عز وجل ممَّن
يُسَخِّرهم الله سبحانه لتأييد دينه ونصرته.
والحمد لله رب العالمين.
الجمعة 11-02-2011 06:37 مساء
- التصنيف: