على الباغي تدور الدوائر

منذ 2011-03-08

« ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُستَجَابَاتٌ : دَعوَةُ المَظلُومِ ، وَدَعوَةُ المُسَافِرِ ، وَدَعوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ»


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، العَدلُ أَسَاسُ عِمَارَةِ الكَونِ ، بِهِ صَلاحُ العِبَادِ وَحَيَاةُ البِلادِ ، وَعَلَيهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَمِن أَجلِهِ أَرسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَأَنزَلَ الكُتُبَ ، وَلِتَثبِيتِهِ وَإِرسَائِهِ أَمَدَّ ـ سُبحَانَهُ ـ النَّاسَ بِالقُوَّةِ " لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ "
وَاللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ هُوَ الحَكَمُ العَدلُ ، لا يَحكُمُ إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَلا يَقُولُ إِلاَّ الحَقَّ ، وَلا يَقضِي إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَقَد أَمَرَ ـ سُبحَانَهُ ـ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ ، وَنَهَى عَنِ الظُّلمِ وَالطُّغيَانِ ، وَحَرَّمَ الظُّلمَ عَلَى نَفسِهِ وَعَلَى عِبَادِه ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : { إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ}[النحل:90]
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ }[النساء:58]
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ }[فصلت :46]
وَقَالَ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ : « يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي وَجَعَلتُهُ بَينَكُم مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اتَّقُوا الظُّلمَ فَإِنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ
». أَخرَجَهُ مُسلِمٌ في صحيحه.

وَكَمَا أَمَرَ ـ تَعَالى ـ عِبَادَهُ بِالعَدلِ في الأَحكَامِ وَالأَفعَالِ ، فَقَد أَوجَبَ عَلَيهِمُ العَدلَ في الأَقوَالِ فَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِنَّ يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا } [النساء:135]
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا} [الأنعام :152]
بَل إِنَّهُ في الحَالِ الَّتي تَبغِي فِيهَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ عَلَى أُخرَى ، فَإِنَّ الإِصلاحَ بَينَهُمَا يَجِبُ أَن يَكُونَ بِالقِسطِ وَالعَدلِ ، بِلا جَورٍ عَلَى الطَّائِفَةِ الظَّالمةِ وَلَو جَارَت وَتَجَاوَزتَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن بَغَت إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمرِ اللهِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا بِالعَدلِ وَأَقسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ} [الحجرات :9]
بَل وَمِمَّا هُوَ أَبلَغُ مِن ذَلِكَ وَأَظهَرُ في مَحَبَّتِهِ ـ سُبحَانَهُ ـ لِلعَدلِ أَن أَوجَبَهُ عَلَى المُؤمِنِينَ حَتَّى مَعَ أَعدَائِهِم ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللهَ } [المائدة:2]

وَإِذَا كَانَ العَدلُ مَطلُوبًا مِن جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ بَعضِهِم ، وَعَلَيهِ تَقُومُ حَيَاتُهُم وَتُبنى مَصَالِحُهُم ، فَإِنَّهُ لا أَجمَلَ مِنَ العَدلِ إِذَا جَاءَ مِمَّن هُوَ قَادِرٌ عَلَى الظُّلمِ ، نَعَم ، لا أَكمَلَ مِن عَدلِ الأَئِمَّةِ وَالوُلاةِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا يُنزِلُهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ بِسَبَبِ عَدلِهِم مِنَ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ ، وَلِمَا يَبُثُّهُ عَلَى أَيدِيهِم إِن عَدَلُوا مِن أَمنٍ في البِلادِ وَطُمَأنِينَةٍ في قُلُوبِ العِبَادِ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد بَيَّنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَضِيلَةَ الإِمَامِ العَادِلِ ، وَأَخبَرَ عَمَّا أَعَدَّهُ ـ سُبحَانَهُ ـ لَهُ مِنَ الأَجرِ في أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : « سَبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ ، يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَادِلٌ ».الحَدِيثَ ، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ،
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : « ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعوَتُهُم : الإِمَامُ العَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتى يُفطِرَ ، وَدَعوَةُ المَظلُومِ ». الحَدِيثَ رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ أَحمَدُ شَاكِر .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : « المُقسِطُونَ عِندَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحمَنِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ ». رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في بَعضِ خُطَبِهِ : « أَصحَابُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ : إِمَامٌ مُقسِطٌ مُصَّدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ بِكُلِّ ذِي قُربى وَمُسلِمٍ ، وَرَجُلٌ عَفِيفٌ فَقِيرٌ مُصَّدِّقٌ » رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
بَل لَقَد عَدَّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِجلالَ الإِمَامِ العَادِلِ مِن إِجلالِ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَتَعظِيمِهِ فقَالَ : « إِنَّ مِن إِجلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ وَلا الجَافي عَنهُ ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ المُقسِطِ » رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَفي المُقَابِلِ فَقَد عَدَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ الظَّلَمَةَ المُتَسَلِّطِينَ مِن أَهلِ النَّارِ فَقَالَ : « صِنفَانِ مِن أَهلِ النَّارِ لم أَرَهُمَا : قَومٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كَأَذنَابِ البَقَرِ يَضرِبُونَ بها النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ » الحَدِيثَ ، أَخرَجَهُ مُسلِمٌ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَمَّا عَمَّ العَدلُ في الرَّعِيلِ الأَوَّلِ مِن أَئِمَّةِ المُسلِمِينَ ، كَانَتِ المَحَبَّةُ بَينَ المُسلِمِينَ سَائِدَةً ، وَالخَيرَاتُ في الرَّعِيَّةِ نَازِلَةً ، وَالبَرَكَاتُ في المُجتَمَعاتِ مَلحُوظَةً ، لَقَد كَانَ أُولَئِكَ الرَّعِيلُ الأَوَّلُ مِنَ الوُلاةِ وَالأُمَرَاءِ عَلَى خَيرِ مَا كَانَ صَاحِبُ وِلايَةٍ ، عَدَلُوا بَينَ النَّاسِ في القَضَايَا ، وَسَاوَوا بَينَهُم في العَطَايَا ، حَفِظُوا لِرَعَايَاهُم حُقُوقَهُم وَأَعطَوهُم مَا لَهُم ، فَبَادَلَهُمُ النَّاسُ حُبًّا بِحُبٍّ وَعَدلاً بِعَدلٍ ومَحَضُوهُم أَنفُسَهُم ، وَبَذَلُوا لَهُم ثَمَرَةَ قُلُوبِهِم وَمُهَجَ أَفئِدَتِهِم ، فَأَعطَوهُم مَا لَهُم مِن حَقِّ السَّمعِ وَالطَّاعَةِ ، وَنَصَحُوا لَهُم وَدَافَعُوا عَنهُم بِأَروَاحِهِم وَأَجسَادِهِم ، فَكَانَتِ الدَّولَةُ الإِسلامِيَّةُ ظَاهِرَةً مَنصُورَةً ، مَرفُوعَةَ الرَّايَاتِ عَالِيَةَ الرُّؤُوسِ ، وَلَمَّا تَوَلَّتِ القُرُونُ المُفَضَّلَةُ الأُولى ، كَانَتِ الدُّوَلُ مَعَ رَعَايَاهَا في مَدٍّ وَجَزرٍ ، وَاختَلَفَ الأُمَرَاءُ وَالوُلاةُ عَدلاً وَجَورًا ، فَكَانَ مِنهُمُ الخَيِّرُونَ العَادِلُونَ سِنِينَ عَدَدًا ، وَكَانَ مِنهُمُ الأَشرَارُ الظَّالِمُونَ عُقُودًا وَمُدَدًا ، وَمِن ثَمَّ اختَلَفَت حَالُ الدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ قُوَّةً وَضَعفًا ، وَتَبَايَنَت أَوضَاعُهَا غَلَبَةً وَانهِزَامًا ، حَتَّى وَصَلَ النَّاسُ إِلى هَذَا العَصرِ الَّذِي اشتَدَّت فِيهِ غُربَةُ الدِّينِ ، وَابتُعِدَ كَثِيرًا عَنِ الحُكمِ بما أَنزَلَهُ رَبُّ العَالمِينَ ، فَأَصبَحَ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ يَعِيشُونَ غُربَةً وَهُم في أَوطَانِهِم وَبَينَ أَهلِيهِم وَإِخوَانِهِم ، حُورِبُوا في دِينِهِم ، وَاستُبِيحَت حُرُمَاتُهُم ، وَتُجُسِّسَ عَلَيهِم في عِبَادَاتِهِم ، وَرُوقِبَت حَرَكَاتُهُم وَسَكَنَاتُهُم ، وَفُرِضَت عَلَيهِم عَادَاتُ الكُفَّارِ فَرضًا ، وأُطِرُوا عَلَى البَاطِلِ أَطرًا ، وجُوِّعُوا بَعدَ ذَلِكَ وَاسَتُؤثِرَ بِالأَموَالِ دُونَهُم ، وَهُضِمُوا حُقُوقَهُم وَضُيِّقَ عَلَيهِم في أَرزَاقِهِم ، فَعَاشُوا مُصِيبَتَينِ عَظِيمَتَينِ تَعَوَّذَ مِنهُمَا النَّبيُّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مُصِيبَةُ الإِبعَادِ عَنِ الدِّينِ ، وَمُصِيبَةُ الفَقرِ وَالقِلَّةِ ، نَعَم ، لَقَد عَاشَت كَثِيرٌ مِنَ الشُّعُوبِ الإِسلامِيَّةِ غُربَةً شَدِيدَةً ، وَاقتَادَهُمُ الحُكَّامُ الظَّلَمَةُ بِالقُوَّةِ وَالقَسوَةِ ، حَتَّى عَادَ المَظلُومُ يَصرُخُ فَلا يَجِدُ مُجِيبًا ، وَحَتَّى عَادَ المَلهُوفُ يَستَغِيثُ فَلا يَلقَى مُغِيثًا ، فَنَشَأَت فَجوَةٌ سَحِيقَةٌ بَينَ الحُكَّامِ وَالشُّعُوبِ ، جَعَلَت تِلكَ الشُّعُوبَ تَفُورُ غَلَيَانًا ، فَلَم يُستَنكَرْ أَن تَخذُلَ حُكَّامَهَا مَرَّةً بَعدَ أُخرَى ، وَأَصبَحَ مِنَ الطَبِيعِيِّ أَن تَتَحَوَّلَ تِلكَ الجَمَاهِيرُ مِن وَلائِهَا لرَئِيسِهَا الأَوَّلِ ، وَتُسرِعَ بِالوَلاءِ لِمَن يَنقَلِبُ عَلَيهِ ، وَأَصبَحَ النَّاسُ يَألَفُونَ مَنظَرًا لا تَقبَلُهُ العُقُولُ الرَّاجِحَةُ وَلا تَستَسِيغُهُ الفِطَرُ السَّلِيمَةُ ، فَضلاً عَنِ الدِّيَانَةِ وَمَحَاسِنِ الأَخلاقِ وَدَوَاعِي المُرُوءَةِ ، إِنَّهُ مَنظَرُ ذَلِكَ الرَّئِيسِ المُتَبَجِّحِ المُتَكَبِّرِ الظَّالِمِ ، تَهتَزُّ لأَمرِهِ القُلُوبُ ، وَتَرتَعِدُ لِنَهيِهِ الأَفئِدَةُ ، وَيَخطُبُ الكَثِيرُونَ وُدَّهُ خَوفًا مِن بَطشِهِ وَسُلطَتِهِ ، وَيَتَلَمَّسُونَ رِضَاهُ خَشيَةَ عُقُوبَتِهِ وَنِقمَتِهِ ، وَتَأتي أَفوَاجُ المُتَزَلِّفِينَ إِلَيهِ فَتَركَعُ بَينَ يَدَيهِ ، وَتُحَيِّيهِ في الشَّوَارِعِ وَتَهتِفُ بِاسمِهِ في السَّاحَاتِ ، وَلا تَألُو في التَّقَرُّبِ إِلَيهِ بِكُلِّ وَسَائِلِ التَّقَرُّبِ ، ثُمَّ لا يُفَاجَأُ وَدُونَ سَابِقِ إِنذَارٍ ، إِلاَّ وَتِلكَ الشُّعُوبُ الهَادِئَةُ الوَادِعَةُ ، تَتَحَوَّلُ بَينَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا إِلى أُسُودٍ ثَائِرَةٍ وَوُحُوشٍ كَاسِرَةٍ ، وَتَنقَلِبُ بُحُورًا مِنَ الغَضَبِ هَادِرَةً مَائِرَةً ، فَتَرمِيهِ بِحُمَمٍ مِن غَيظِهَا ، وَتَصُبُّ عَلَيهِ جَامَّ غَضَبِهَا ، فَإِذَا الَّذِي كَانَ بِالأَمسِ يُهَدِّدُ وَيَتَوَعَّدُ ، يَستَجدِي رَعِيَّتَهُ أَن يُخَفِّفُوا مِن ثَورَتِهِم عَلَيهِ وَيَعُودُوا إِلى رُشدِهِم ، وَلَكِنْ هَيهَاتَ وَقَد فَاتَ الأَوَانُ وَتَخَلَّى الجَمِيعُ عَنهُ ، لَقَد أَبعَدَ الظُّلمُ عَنهُ كُلَّ الأَصدِقَاءِ ، وَلم يُبقِ الجَورُ لَهُ أَعوَانًا وَلا أَولِيَاءَ أَوفِيَاءَ ، وَفَرَّقتِ المَصلَحَةُ عَنهُ كُلَّ مُنَافِقٍ كَانَ يَتَقَرَّبُ إِلَيهِ مِن أَجلِهَا ، فَمَضَى إِلى عَالِمِ الضَّيَاعِ وَحِيدًا ، وَخَرَجَ مِن بَلَدِهِ مُشَرَّدًا طَرِيدًا ، لا تَذكُرُهُ الأَلسِنَةُ بِخَيرٍ وَلا تُثني عَلَيهِ ، وَلا تَأَسَى عَلَيهِ القُلُوبُ وَلا تَأَسَفُ عَلَيهِ الشُّعُوبُ ، لَكِنَّهَا أَنَّاتٌ المَظلُومِينَ تُنَغِّصُ عَلَيهِ عَيشَهُ ، وَدَعَوَاتُهُم تُطَارِدُهُ قَائِمًا قَاعِدًا ، وَلَعَنَاتُهُم تُلاحِقُهُ حَيًّا وَقَد لا تَنقَطِعُ عَنهُ مَيِّتًا ، فَسُبحَانَ مَن أَحيَا بِالعَدلِ القُلُوبَ وَأَنَارَ بِهِ الصُّدُورَ ، فَانشَرَحَت لأَئِمَّةِ العَدلِ وَأَحَبَّتهُم ، وَوَالَتهُم وَأَطَاعَتهُم وَدَعَت لَهُم ، وَضَيَّقَ بِالظُّلمِ صُدُورَ المَظلُومِينَ وَقَسَّى بِهِ قُلُوبَهُم ، فَلَعَنُوا وُلاةَ الجَورِ وَأَبغَضُوهُم وَقَاتَلُوهُم ، وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : « خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم ، وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم ، وَتَلعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم » الحَدِيثَ ، رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : { وَلا تَحسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّالمونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فِيهِ الأَبصَارُ . مُهطِعِينَ مُقنِعِي رُؤُوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَوَاءٌ . وَأَنذِرِ النَّاسَ يَومَ يَأتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَم تَكُونُوا أَقسَمتُم مِن قَبلُ مَا لَكُم مِن زَوَالٍ . وَسَكَنتُم في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلنَا بِهِم وَضَرَبنَا لَكُمُ الأَمثَالَ . وَقَد مَكَرُوا مَكرَهُم وَعِندَ اللهِ مَكرُهُم وَإِن كَانَ مَكرُهُم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبَالُ . فَلا تَحسَبَنَّ اللهَ مُخلِفَ وَعدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } [إبراهيم 42-47]

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في ظِلِّ العَدلِ يَعِيشُ الإِنسَانُ آمِنًا في سِربِهِ ، مُطمَئِنًّا عَلَى أَهلِهِ وَمَالِهِ ، عَابِدًا رَبَّهُ في هُدُوءِ نَفسٍ وَرَاحَةِ بَالٍ ، مُؤَدِّيًا شَعَائِرَ دِينِهِ بِحُرِّيَّةٍ تَامَّةٍ ، يُعطِي مَا عَلَيهِ كَامِلاً ، وَيَأخُذُ مَا لَهُ وَافيًا ، وَمِن ثَمَّ يَشعُرُ بِانتِمَائِهِ الحَقِيقِيِّ لِمُجتَمَعِهِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ ، وَفي ظِلِّ هَذَا الانتِمَاءِ يَعِيشُ المُجتَمَعُ مَتِينًا مُتَمَاسِكًا ، شَدِيدًا عَلَى الأَعدَاءِ عَصِيًّا عَلَى المُتَرَبِّصِينَ ، لا يَستَطِيعُ النَّيلَ مِنهُ أَحَدٌ بِسُهُولَةٍ ؛ لأَنَّ كُلَّ فَردٍ فِيهِ يَعلَمُ أَنَّهُ إِنْ لم يُدَافِعْ عَن مُجتَمَعِهِ ، فَإِنَّ الأَعدَاءَ سَيَسُومُونَهُ الذُّلَّ وَالهَوَانَ ، وَمِن ثَمَّ يَقِفُ كُلُّهُ في مُوَاجَهَةِ أَيِّ تَجَاوُزٍ لِلنِّظَامِ أَو خُرُوجٍ عَلَى الأَحكَامِ ، وَأَمَّا حِينَ يَنتَشِرُ الظُّلمُ وَتَعُمُّ الأَثَرَةُ ، وَلا يَجِدُ صَاحِبُ الحَقِّ مَلاذًا ، فَإِنَّ الفَردَ لا يَشعُرُ لِذَلِكَ المُجتَمَعِ بِأَيِّ انتِمَاءٍ ، وَمِن ثَمَّ يَعِيشُ المُجتَمَعُ مُتَنَافِرًا مُتَبَاغِضًا ، يَتَحَيَّنُ كُلَّ فُرصَةٍ لِلإِيقَاعِ بِكُبَرَائِهِ ، وَيَفرَحُ بِكُلِّ صَيحَةٍ عَلَيهِم لَعَلَّهَا تَكُونُ المُخَلِّصَةَ لَهُ مِمَّا يُعَانِيهِ مِن ظُلمٍ ، وَمِن ثَمَّ يَهُونُ عَلَى الأَعدَاءِ اجتِذَابُهُ إِلَيهِم .

إِنَّ الدَّولَةَ في الإِسلامِ لم تَكُنْ يَومًا هِيَ المَسؤُولَةَ وَحدَهَا عَنِ الأَمنِ وَأَخذِ النَّاسِ بِالنِّظَامِ ، غَيرَ أَنَّهَا بِعَدلِهَا في الرَّعِيَّةِ وَحُكمِهَا بِالسَّوِيَّةِ ، أَشعَرَت كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُم بِأَنَّ هَذَا المُجتَمَعَ مُجتَمَعُهُ ، وَأَنَّهُ يَستَحِقُّ أَن يَعِيشَ فِيهِ وَيَنتَمِيَ إِلَيهِ وَيُدَافِعَ عَنهُ ، وَلَقَد فَهِمَتِ الرَّعِيَّةُ في المُجتَمَعِ المُسلِمِ المَحكُومِ بِالعَدلِ قَولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : « اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَو مَظلُومًا » رواه البخاري في صحيحه عن أنس ، فَرَدُّوا الظَّالِمَ عَن ظُلمِهِ ، وَأَخَذُوا لِلمَظلُومِ حَقَّهُ ، فَنَصَرَ بَعضُهُم بَعضًا ، وَعَاشُوا مُتَوَاصِينَ بِالحَقِّ مُتَوَاصِينَ بِالصَّبرِ ، مُلتَزِمِينَ بِالنَّصِيحَةِ مُقَاوِمِينَ لِلمُنكَرَاتِ ، فَأَفلَحُوا بِذَلِكَ وَأَخرَجُوا أَنفُسَهُم مِنَ الخُسرَانِ الَّذِي مُنِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِن بَني الإِنسَانِ .

وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَجِبُ أَن تَحذَرَهُ الأُمَّةُ اليَومَ وَتَخَافَهُ تحقيقًا لِلعَدلِ وَاجتِنَابًا لِلظُّلمِ ، مَا بُلِيَت بِهِ مِن ثَنَاءِ المُنَافِقِينَ الكَاذِبِ وَقَلبِهِم لِلحَقَائِقِ ، وَمُحَاوَلَتِهِم تَغيِيبَ الوُلاةِ عَنِ الوَاقِعِ ، وَآخَرُونَ مِن وَرَائِهِم مِن بِطَانَةِ سُوءٍ فَاسِدَةٍ ، تَحُولُ بَينَ الوُلاةِ وَبَينَ الاستِمَاعِ لِنَصَائِحِ الأُمَنَاءِ المُخلِصِينَ وَشَكَاوَى المَظلُومِينَ .

وَإِنَّ مَا يَحدُثُ اليَومَ في بِلادٍ عَدِيدَةٍ مِن ثَورَاتٍ عَارِمَةٍ تَعصِفُ بِرُؤَسَاءِ الدُّوَلِ وَتُسقِطُ عُرُوشَهُم ، وَتَقتَلِعُهُم مِن كَرَاسِيِّهِم وَتَطرُدُهُم مِن أَوطَانِهِم شَرَّ طِردَةٍ ، إِنَّهَا لَتُؤَكِّدُ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَنَّ القُوَّةَ للهِ وَحدَهُ ، بِيَدِهِ المُلكُ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَيَنزِعُهُ ممَّن يَشَاءُ ، وَيُعِزُّ مَن يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَن يَشَاءُ ، وَأَنَّ مَرتَعَ الظُّلمِ وَخِيمٌ وَعَاقِبَتَهُ سَيِّئَةٌ ، عَن أَبي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : « إِنَّ اللهَ لَيُملِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ " قَالَ : ثُمَّ قَرَأَ " وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ ، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ في الصحيح عن أبي هريرة : « مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ « ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُستَجَابَاتٌ : دَعوَةُ المَظلُومِ ، وَدَعوَةُ المُسَافِرِ ، وَدَعوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ». فَاتَّقُوا اللهَ وَانصَحُوا لِمَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَكُم ، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهُو عَنِ المُنكَرِ ، وَاعدِلُوا فِيمَا بَينَكُم يُوَلِّ اللهُ عَلَيكُم خِيَارَكُم.

 

المصدر: عبد الله بن محمد البصري
  • 0
  • 2
  • 10,631

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً