توحيد الربوبية

منذ 2011-03-15

الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله ، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له



معناه وأدلته من الكتاب والسنة والعقل والفطرة

أولا : تعريفه:

أ- لغة : الربوبية مصدر من الفعل ربب ، ومنه الربُّ ، فالربوبية صفـة الله ، وهي مأخوذة من اسم الرب ، والرب في كلام العرب يطلق على معان : منها المالك ، والسيد المطاع ، والـمُصْلِح.
ب- أما في الاصطلاح : فإن توحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله.
ومنها الخلق والرزق والسيادة والإنعام والملك والتصوير ، والعطاء والمنع ، والنفع والضر ، والإحياء والإماتة ، والتدبير المحكـم ، والقضاء والقدر ، وغـير ذلك من أفعاله التي لا شريك له فيها ، ولهذا فإن الواجب على العبد أن يؤمن بذلك كله.
ثانيا : أدلته:

أ- من الكتاب : قوله تعـالى: "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"  لقمان: 10، 11 . وقولـه تعالى" : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ "لطور : 35
ب- من السنة : ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبـد الله بن الشخير رضي الله عنه مرفوعا وفيه : (السيد الله تبارك وتعالى . . ) . وقد ثبت في - ص 12 - الترمـذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصيته لابن عباس رضي الله عنـهما: . . "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعـوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضـروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف  " سنن الترمذي (2516) ، ومسند أحمد (1 / 307) ، وقد حسن الحديث الترمذي وصححه ، وصححه الحاكم. .
ج- دلالة العقل : دل العقل على وجود الله تعالى وانفراده بالربوبيـة وكمال قدرته على الخلق وسيطرته عليهم ، وذلك عن طريق النظر والتفكر في آيات الله الدالة عليه . وللنظر في آيات الله والاستدلال بها على ربوبيته طـرق كثيرة بحسب تنوع الآيات وأشهرها طريقان:
الطريق الأول : النظر في آيات الله في خلق النفس البشرية وهو مـا يعرف بـ (دلالة الأنفس) ، فالنفس آية من آيات الله العظيمة الدالة على تفرد الله وحده بالربوبية لا شريك له ، كما قـال تعـالى" : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ "الذاريات : 21 ، وقال تعالى" : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا "الشمس 7 ، ولهذا لو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجـائب صنـع الله لأرشده ذلك إلى أن له ربا خالقا حكيما خبيرا ؛ إذ لا يستطيع الإنسـان أن يخلق النطفة التي كان منها ؟ أو أن يحولها إلى علقـة ، أو يحـول العلقـة إلى مضغة ، أو يحول المضغة عظاما ، أو يكسو العظام لحما ؟
الطريق الثاني : النظر في آيات الله في خلق الكون وهو ما يعـرف بـ (دلالة الآفاق) ، وهذه كذلك آية من آيات الله العظيمة الدالـة علـى ربوبيته ، قال الله تعالى" : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ "فصلت : 53.
ومن تأمل الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض ، وما اشتملت عليه السماء من نجوم وكواكب وشمس وقمر ، وما اشتملت عليـه الأرض مـن جبال وأشجار وبحار وأنهار ، وما يكتنف ذلك من ليل ونهار وتسيير هـذا الكون كله بهذا النظام الدقيق ؛ دله ذلك على أن هناك خالقا لهذا الكـون ، موجدًا له مدبِّرًا لشؤونه ، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقـات وتغلغـل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خُلقت للحق وبالحق ، وأنـها صحـائف آيات ، وكتب براهين ودلالات على جميع ما أخبر به الله عن نفسه وأدلـة على وحدانيته.
وقد جاء في بعض الآثار أن قوما أرادوا البحث مع الإمام أبي حنيفـة في تقرير توحيد الربوبية ، فقال لهم رحمه الله: " أخبروني قبل أن نتكلم في هـذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام وغيره بنفسها وتعـود بنفسها ، فترسو بنفسها وترجع ، كل ذلك من غير أن يديرها أحد ؟" .
فقالوا : " هذا محال لا يمكن أبدا . فقال لهم : إذا كان هـذا محـالا في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله ؟" .
فنبه إلى أن اتساق العالم ودقة صنعه وتمام خلقه دليل علـى وحدانيـة خالقه وتفرده.
بيان أن الإقرار بهذا التوحيد وحده لا ينجي من العذاب

إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة كما تقدم ؛ ولذا فإنـه لا يصح إيمان أحد ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته ، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام ، ولا ينجـي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى" : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ "يوسف : 106 ، والمعنى أي : ما يقر أكثرهم بالله ربا وخالقا ورازقا ومدبـرا- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره مـن الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تعطي ولا تمنع.
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " من إيمانهم إذا قيل لهـم مـن خلـق السماء ، ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال ؟ قالوا : الله وهم مشركون" .
وقال عِكْرِمَة : " تسألهم من خلقهم ومن خلـق السماوات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله ، وهم يعبدون غيره" .
وقال مجاهد : " إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شـرك عبادتهم غيره" .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد : " ليس أحد يعبد مـع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربُّه ، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه ، وهـو - ص 16 - يشرك به ، ألا ترى كيف قال إبراهيم" : قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ " الشـعراء : 75- 77انظر : تفسير ابن جرير 7 / 312- 313.
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة ، بل لقد كـان المشـركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله ربا خالقا رازقا مدبرا ، وكان شركهم به من جهـة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء يدعونهم ويستغيثون بهم وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.
وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه علـى إقـرار المشـركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة ، ومن ذلك قوله تعالى" : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ "العنكبوت : 61 ، وقوله تعالى :  "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "العنكبوت : 63 ، وقوله تعالى" : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ "الزخرف : 87 ، وقوله تعالى": قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ "المؤمنون : 84- 89.
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق - ص 17 - العالم وتدبر شؤونه ، بل كانوا يعتقدون أن ذلك مـن خصـائص الـرب سبحانه ، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا استقلالا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا تسمع ولا تبصر ، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له ، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك ، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق والرب ومـا عداه مربوب ، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط ، يشفعون لهـم بزعمهم عند الله ويقربونهم إليه زلفى ؛ ولذا قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى "الزمـر : 3 ، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلـهم في الإسلام بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون وتوعدهم بالنار والخلـود فيها واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققـوا لازم توحيـد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله ، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له ، وتستلزم إفـراد الله وحـده بالعبادة . فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال.
مظاهر الانحراف في توحيد الربوبية

بالرغم من أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطر ، مجبولـة عليـه النفوس ، متكاثرة على تقريره الأدلة ، إلا أنه وجد في الناس من حصل عنـده انحراف فيه ، ويمكن تلخيص مظاهر الانحراف في هذا الباب فيما يلي:
1 -
جحد ربوبية الله أصلًا وإنكار وجوده سبحانه ، كما يعتقد ذلـك الملاحدة الذين يسندون إيجاد هذه المخلوقات إلى الطبيعة ، أو إلى تقلب الليل والنهار ، أو نحو ذلك وَقَالُوا" مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ "الجاثية : 24.
2-
جحد بعض خصائص الرب سبحانه وإنكار بعض معاني ربوبيتـه ، كمن ينفي قدرة الله على إماتته أو إحيائه بعد موته ، أو جلب النفع لـه أو دفع الضر عنه ، أو نحو ذلك.
3-
إعطاء شيء من خصائص الربوبية لغير الله سبحانه ، فمن اعتقـد وجود متصرف مع الله عز وجل في أي شيء من تدبير الكون من إيجـاد أو إعدام أو إحياء أو إماتة أو جلب خير أو دفـع شر أو غير ذلك مـن معاني الربوبية فهو مشرك بالله العظيم.
إعداد : مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية

المصدر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة
  • 20
  • 6
  • 42,909

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً