اعتبار الكفاءة في النسب بين العنصرية والسياسة الشرعية
وممَّا لا ريب فيه أن هذه القضية من القضايا الاجتماعية الشائكة التي تتطلَّب شيئًا من التوضيح الفقهي والمعالجة الشرعية، ولا سيَّما أنَّه موضوع يكثر السؤال عنه من بعض الإخوة والأخوات..
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أمَّا بعد:
فقبل مُدَّة تلقَّيت اتصالاً هاتفيًّا من أحد الشباب، استأذنني في بدايته قائلاً إنه ربما تطول المكالمة، فكدت أعتذر؛ لأسمعه في وقت أوسع، إلاَّ أنه واصل اعتذاره قائلاً: إني صرتُ أخشى على نفسي من نفسي من شدَّة ما أجد! وحينها طلبتُ منه أن يدخُل في موضوعه، فأخذ نَفَسًا عميقًا، ثم أخذ يتحدَّث عن صدمته الشديدة التي أورثته اكتئابًا نفسيًّا وصل الحال به فيه إلى خشيته على نفسه كما تقدَّم.
وكم تلقَّيت من رسائل ومكالمات من إخوة وأخوات يُثِيرون القضية، في عبارات وأسئلة محزِنة؛ يقول أحدهم منعني أهلي من خطبة إحدى الفاضلات؛ لأنها غير قبلية، وتقول إحداهن: ما ذنبي وأنا الحافظة لكتاب الله، والحاصلة على مستوى علمي يفوق كثيرًا مِمَّن حولي من القبليات؟ ما ذنبي أن يمنعني أهل خطيبي من الزواج به على سنة الله ورسوله؟!
وثالث يسأل: هل يجوز له أن يزوِّج شخصًا غير قبلي، إذا كان الأمر سيؤدِّي إلى فتنة في عشيرته ربما نفَّذ فيها بعض متعصبي قبيلته تهديده بقتله إن زوَّج ابنته من فلان الذي لا تعرف قبيلته؟
هذه الأسئلة ونحوها جعلتني أستخرج مقالةً سبق نشرها في ملحق الدين والحياة قبل مُدَّة لأنشرها اليوم في الموقع؛ حيث لم أجدها في موقع الصحيفة لأخطاء توثيقية (أرشيفية).
ولا سيَّما أن للمسألة جوانب ظاهرة من السياسة الشرعية، فأدعُكم مع هذه المقالة كما نُشِرت دون تعديل.
تابعتُ بعض ما أُثِير في وسائل الإعلام وما طُرِق في "ملحق الرسالة" بالذات حول موضوع (الكفاءة في النسب)؛ رجل يتقدَّم خاطبًا لامرأة ذات دين وجمال من أسرة فاضلة، فيردُّه وليُّها قناعةً بعُرْف قبيلته، أو رضوخًا لِمَن حوله، أو تمتنع هي فلا تقبل خِطبته لها، معتذرين أو معتذرةً بأنَّه غير قَبَلِي، أو يرفض أهل الخاطب خِطبته لِمَن لا يتوفَّر فيها شرط الكفاءة في عرفهم!
وممَّا لا ريب فيه أن هذه القضية من القضايا الاجتماعية الشائكة التي تتطلَّب شيئًا من التوضيح الفقهي والمعالجة الشرعية، ولا سيَّما أنَّه موضوع يكثر السؤال عنه من بعض الإخوة والأخوات فيقال:
1 - الأصل في دين الله وشرعه أنَّه لا فضل لأحد من النَّاس على أحد إلا بالتقوى؛ سواء كان عربيًّا أو غير عربي، قبليًّا أو غير منتسب لقبيلة، سواء كان مخفيًا لها لسبب من الأسباب؛ كخشية ثأرٍ، أو لكونها من أصول قبلية غير عربية مع عيشه في مجتمعٍ عربي مثلاً، أو غير عارف لها، أو غير منتسب أصلاً؛ لجملة أدلة، منها: قول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى، ولا فضل لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى»؛ (رواه أحمد وغيره، وصحَّحه جمعٌ من أهل العلم بالحديث) .
2 - وأمَّا في شأن النكاح، فإنَّ الارتباط بِعُقَده له جوانب أخرى، تحتاج إلى العناية بالأسباب التي تقويه، والابتعاد عن الأسباب التي تنغِّصه أو تفشله؛ ومن ذلك مراعاة الأعراف والعوائد السائغة في الشريعة تحقيقًا للمقاصد، وقد تكلَّم الفقهاء عن هذه الجوانب تحت شرط الكفاءة المساواة في النكاح، ومع أن المعتبر شرعًا بالدليل الشرعي هو الكفاءة في الدِّين؛ لجملة أدلة من الكتاب والسنة، منها قول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]،
ومنها: حديث أبي حاتم المُزَني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم مَن تَرْضَون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»، قالوا: يا رسول الله: وإن كان فيه؟ قال: «إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ثلاث مرات؛ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ).
ومنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهو مولاه وعتيقه فاطمةَ بنت قيس رضي الله عنها وهي قُرَشية؛ رواه مسلم.
ومع أنَّ الكفاءة في النسب ليست شرطًا تتوقَّف عليه صحة النكاح، لكن قد نصَّ الفقهاء على أنَّه أمرٌ يُنظر إليه عند التزويج من قَبِيل مراعاة العُرْف الاجتماعي درءًا للمفاسد؛ بل نصَّ بعض الفقهاء على أنه إذا كان تزويج غير ذي النسب يُزرِي بالمرأة أو أهلها، فإنَّ الكفاءة فيه تكون شرطًا للزوم عقد النكاح، وإن لم تكن شرطًا لصحته؛ لأنَّ المحافظة على هذا القدر من مقامات الناس وشرفهم مما سمح به الشرع، مع تأكيده على أصل التسوية في الشرع بين الناس في الحقوق.
فإذا كان الناس يأنفون من تزويج مَن ليس من قومهم، أو مَن كان غيرَ منتسب لقبيلة، ويعدُّونه عارًا ونقصًا فهذا أمرٌ عُرفي ينبغي مراعاته، لا لصحة مستنده؛ وإنَّما خشيةً من عواقب تجاهله؛ لأنَّ له والحال ما ذكر فيما بعدُ آثارًا على العلاقة الزوجية قد تهدم مقاصد النكاح، وآثارًا على علاقة الأقارب فيما بينهم، قد تؤدِّي إلى قطع الرَّحِم التي أمر الله تعالى بصلتها؛ فعدم مراعاته تؤدِّي في الغالب إلى مفاسد، منها: التقاطُع بين ذوي الأرحام، وهو أمرٌ مشاهَد معروف، ومنها: التعدِّي على الأشخاص؛ فقد يَصِل فيه الأمرُ ببعض مَن تأخذه الحميَّة والعصبية الجاهلية إلى حمل السلاح والاعتداء على مَن رَضِي بذلك من قرابته، بزعم المحافظة على شرف الأسرة وحماية القبيلة.
ولهذا قال شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى في جوابٍ له في الموضوع: "ولكن الناس بعد ذلك خصوصًا في نجد وفي بعض الأماكن الأخرى قد يقفون عن هذا ويتشدَّدون فيه، على حسب ما ورثوه عن آباء وأسلاف، وربَّما خاف بعضهم من إيذاء بعض قبيلته إذا قالوا له: لم زوَّجتَ فلانًا، هذا قد يفضي إلى الإخلال بقبيلتنا، وتختلط الأنساب وتضيع، إلى غير ذلك، قد يعتذرون ببعض الأعذار التي لها وجهها في بعض الأحيان ولا يضرُّ هذا وأمره سهل، المهم اختيار مَن يصلح للمصاهرة لدينه وخلقه، فإذا حصل هذا، فهو الذي ينبغي، سواء كان عربيًّا أو عجميًّا، أو مولًى أو حضيريًّا، أو غير ذلك، هذا هو الأساس، وإذا رغب بعض الناس ألا يزوج إلاَّ من قبيلته، فلا نعلم حرجًا في ذلك، والله ولي التوفيق"، "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبدالعزيز بن باز": 5/147.
وعلى هذا؛ فتوقُّف الولي عن تزويج موليته بسبب عدم كفاءة النسب درءًا للمفاسد غيرُ داخل في العَضْل الممنوع، وهذا من حِكَم الولي في النكاح، والله تعالى أعلم.
وعلى كلِّ حالٍ، فالذي ينبغي مراعاتُه هو الكفاءة في الدين والخُلُق، وعدم ردِّ مَن رَضِي الناسُ دينَه وأمانته لاعتبارات أخرى، ما دام قد رضيَتْه المخطوبة، إلاَّ إذا خِيفَ وقوع مفسدة من ذلك، من نحو قطيعة أو فتنة أو شرٍّ؛ وذلك أن الأصل وهو الكفاءة في الدين كافيه.
ثم إنًّ مَن يُعدُّ عند هؤلاء وضيعًا قد يكون في حالٍ عظيمةِ الشأن من الخير والصلاح يقلُّ مثلُه، ومثلُ هذه الحال تُخَفِّف وطأة العرف، ويستسيغ العُقَلاء من أهل العرف التغاضي عن صاحبها في التزويج، ولعل ممَّا يرشد إلى هذا المَلْحَظ حديثُ أبي هريرة: أنَّ أبا هند مولًى وحجَّام، رضي الله عنهما حجم النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «يا بني بياضة فَخِذٌ من العرب في الأنصار أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه»؛ حسَّنه الحاكم، وابنُ حجر في "بلوغ المرام" وجوَّد إسناده، واحتجَّ به غيرُ واحد من أهل العلم، هذا مع ما تقدَّم من تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد المولى العتيق بفاطمة بنت قيس القرشية، والوقائع المماثِلَة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد صحابته الكرام كثيرة.
ولعلَّ ممَّا يكشف أنَّ التعلُّق بمثل هذه الأمور عرفيٌّ يقبل التَّساهُل، ويمكن أن يُتَجاوَز مع الزمن: أنَّها توجد في مناطق دون غيرها، وأنََّ بعض مَن يتشدَّد في ذلك يستسيغ الزواج من خارج الدولة، دون سؤال عن قبيلة مَن يريد نكاحها، ولا يجد معارضة من المتشدِّدين أمثاله من قبيلته، ثم إنَّ غير القَبَلِي لا ذنب له فيما يؤاخَذ به في عدم تزويجه؛ لأنَّ مسألة القبيلة ليس للإنسان فيها خيار، فهو يُخلق ثم ينتسب لواقعه؛ شريفًا كان أو وضيعًا.
والذي يُنصَح به أن يعالج هذا الأمر معالجةً متوازنة مدروسة الآثار، فمعالجة العوائد والأعراف ليست كمعالجة السلوك الفردي، فقد يؤدِّي بعض الطرح إلى تعميق الشعور العرفي بأساليب معالجة خاطئة، تُعِيد التشدُّد في هذا الأمر والتعصُّب فيه جَذَعًا، كما ينبغي أن يبحث للمستشارين عن حلولٍ أقل ضررًا في حال وقوف الكفاءة في النسب في طريق من يستشيرونهم؛ فقد يكون الأمر خارجًا عن إرادة الخاطب أو المخطوبة أو أسرتيهما بسبب العشيرة أو القبيلة، وهو أمرٌ يراعَى في الشريعة؛ حفاظًا على اتِّصال ذوي الأرحام، ودرءًا للمفاسد التي قد يجلبها التَّعلُّق بالعرف وإن كان خاطئًا ولا سيَّما أنَّها من المسائل ذات الخلفية الاجتماعية المتوارَثة بين مَن يحافظون على الانتساب إلى قبائلهم، ويلقِّنون بنيهم تعداد آبائهم وأجدادهم، ويعلِّقون في خلفيات مجالسهم العائلية رسمًا لشجرة أنسابهم، حتى صار المساس به أمرًا له من التَّبِعات والمخاطِر ما قد اشتهر أمره بين الناس، وعرفت خفاياه الجهات الأمنية والقضائية.
والعتب على مَن يكتب في الموضوع دون وعيٍ بتَغَلْغُلِه ومخاطر تجاهُل اعتباره، فيعتِب على القضاة في أحكامهم، وقد قرأتُ لبعض مَن تحدَّث خارج بلادنا عن هذا الموضوع، فنقد وتهكَّم، وهو ممَّن لا يعرف عن مجتمعنا ما يؤهِّله للنقد، فضلاً عن التهكُّم.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم عل نبينا محمد وآله.
د. سعد بن مطر العتيبي.
- التصنيف:
- المصدر: