عناقيد درعا وتفاحها..

منذ 2011-04-02

في الخامس عشر من آذار (مارس) 2011 وصل قطار الثورة العربية في مدينة درعا في الجنوب السوري. كان الناس ينتظرون وصول القطار بفارغ الصبر وقفزوا إلى عرباته، مؤملين أن يقلهم إلى بر الأمان..



في الخامس عشر من آذار (مارس) 2011 وصل قطار الثورة العربية في مدينة درعا في الجنوب السوري. كان الناس ينتظرون وصول القطار بفارغ الصبر وقفزوا إلى عرباته، مؤملين أن يقلهم إلى بر الأمان.


كانت درعا، المدينة الريفية الوادعة على الحدود الأردنية، على موعد مع التاريخ. تماماً كما كانت سيدي بوزيد في الريف التونسي، والسويس في الريف المصري، وبنغازي في الريف الليبي. لما اشتعلت تونس ثم خمدت بعد هروب بنعلي، وانفجر الشارع المصري في مشهد حابس للأنفاس، وتوج ثورته التاريخية بخلع مبارك، وانتفضت ليبيا عن بكرة أبيها لتواجه كولونيالية محلية أكثر توحشاً من أي كولونيالية خارجية، تطلعت كل العيون إلى الشام، وفيها تساؤلات حائرة ومشروعة: متى؟ وكيف؟

عرف السوريون بتاريخهم النضالي، وارتباطهم الوثيق بأمتهم، فلا يمكن أن يكونوا معزولين عما يجري في الجوار العربي. ولدى السوريين كل الأسباب التي تجعلهم ينتفضون وينضمون إلى قطار الثورة. لا يمكن أن يتثاقلوا إلى الأرض ويرضوا بالقعود وهم يشاهدون هذا القطار المنطلق. لا يمكن أن يقولوا للعرب: اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا إنا هاهنا قاعدون. السوريون قالوا من درعا: إنا معكم مقاتلون.


درعا ليست الوحيدة بالطبع. السوريون هتفوا ضد الاستبداد في المسجد الأموي، وفي حمص وبانياس ودير الزور والصنمين واللاذقية وحماة. إنها الرياح التي تهب حاملة معها عبيراً للحرية طالما اشتاق إليه أهل الشام. إنه الحنين إلى الحرية يثقل الصدور، فإن طال غيابها دوى الانفجار، ولا يهم الأحرار ما يحدث لحظة الانفجار. السوريون يعرفون أكثر من غيرهم طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ويدركون أن الحرية لا ثمن لها. هم يحفظون عن ظهر قلب قول شوقي: وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرجة يدق. آه يا شام..نمت طويلاً، ولكنها غفوة في عمر الزمن، ولا تعني أبداً نهاية التاريخ، الأيام دول يا شام، ومن سره زمن ساءته أزمان كما انتحب يوماً أبو البقاء الرندي، وقد أزف موعد سرورك، وابتسم محياك النابض أبداً. قدر الشام أن تكون معطاء كبردى والعاصي والخابور وعفرين. لو شرحتم جسد الدمشقي، كما قال نزار، لسال منه عناقيد وتفاح!

قبل أيام تحدثت الأنباء عن سقوط أعداد كبيرة من الشهداء المعتصمين في المسجد العمري بدرعا، مائة، مئتين، وربما أكثر. لم يعرف الرقم بعد، وربما لن يعرف قط. من الذي ارتكب المذبحة؟ إنها شرطة "الأمن" الموكلة بمهمة ردع المجرمين وحماية الأبرياء، وقوات الجيش التي كان يجب أن توجه أسلحتها إلى العدو المغتصب للجولان منذ أربعة عقود، فضلت الطريق وصوبت الرصاص إلى صدور المطالبين بالحرية.


لقد رأى بشار الأسد بأم عينيه كيف هرب بنعلي ومبارك، وكيف يتهاوى الآن عرشا القذافي وصالح، ومع ذلك يسلك طريق المنبوذين والمخلوعين حذو القذة بالقذة. حتى وسائل إعلامه تسبح في عوالم منبتة الصلة بالكون. التقت "الجزيرة" يوم أمس الجمعة بسميرة مسالمة، رئيسة تحرير صحيفة "تشرين" الرسمية، التي علقت على أحداث درعا بالقول إنها قامت بحجب كثير من مظالم أهل درعا وشكاواهم مشيرة إلى أنها لو سمحت بنشرها لخففت كثيراً من الاحتقان في المدينة. استجابة بشار لتطلعات السوريين لا "تبشر" بأنه "فهمهم" وتؤكد بأنه لم يقرأ المشهد الجديد في المنطقة. لقد انحاز إلى القذافي وأبنائه وهم يبيدون الشعب العربي المسلم في ليبيا ويحرقون أرضه وحضارته، بل أرسل طيارين لمساعدته في ممارسة جنونه وعربدته. حتى قناة "الرأي" التي يبثها مشعل الجبوري من الأرض السورية خلعت فجأة كل أردية المقاومة والبطولة، واصطفت مع معمر بحجة الحفاظ على ليبيا ورفض التدخل الأجنبي. النظام السوري لا يستطيع الفكاك من أسر تعصبه وانغلاقه وطائفيته؛ بنيته طاردة للتغيير بطبيعتها؛ إنها بنية متكلسة عاجزة عن الاستجابة لنبض الحداثة وأشواق الإصلاح. باختصار: النظام السوري امتلك الفرصة لتصحيح الوضع في سوريا، فاختار الانكفاء على الذات، والانغماس في الممارسات البوليسية، مؤكداً مرة أخرى أن فاقد الإصلاح لا يعطيه.


لم يجد الرئيس الشاب ، كما هو حال أكثر الزعماء العرب، من حل لحركة الاحتجاجات غير التوحش والقمع، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة مذابح والده في حماة عام 1982. وبعد سفك دماء شباب درعا، وتشييع جثامينهم، طرح الرئيس سلسلة من الإصلاحات "الخجولة" التي لا ترقى إلى مستوى التطلعات ولا تكفر عن جريمة البطش. اللافت أن المشهد عينه يتكرر في أكثر من أرض عربية، ولكن الحكام لا يعقلون. عندما سالت أول قطرة دم في درعا عرفت أن العناقيد ستكبر، وأن التفاح سيزهر، وأن الشام كلها على موعد مع التاريخ.

شعب سوريا يريد الحرية. نقطة على السطر. المسكنات لن تجدي نفعاً، والقمع لن يجعل النظام في مأمن. الشام هي الشام؛ الأرض التي تبسط الملائكة أجنحتها عليها كما صح في الحديث، ولا يمكن أن تكون إلا كما كانت عبر القرون؛ في القلب من ذلك القطار المندفع بقوة نحو الحرية.


25-03-2011 م
 

المصدر: د. أحمد بن راشد بن سعيّد - موقع صحيفة السعوديين
  • 0
  • 0
  • 2,742

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً