جرذان ليبيا وزعران سوريا
الإنصات فضيلة لا يتحلى بها إلا الحكماء والفضلاء ، وهي غير حاسة السمع ، فلإنصات أرفع درجة وأرقى مقاما من السماع ، فكل الناس يسمعون ، وقليل منهم الذين ينصتون ، فالمنصت يهتم بما يسمعه ، ويتدبره ويفكر فيه ، ويتجاوب مع محدثه ..
ـ الإنصات فضيلة لا يتحلى بها إلا الحكماء والفضلاء ، وهي غير حاسة
السمع ، فلإنصات أرفع درجة وأرقى مقاما من السماع ، فكل الناس يسمعون
، وقليل منهم الذين ينصتون ، فالمنصت يهتم بما يسمعه ، ويتدبره ويفكر
فيه ، ويتجاوب مع محدثه ، ويتعاطى مع أرائه وأفكاره ، وما جعل الله عز
وجل لابن آدم أذنين ولسانا واحدا إلا ليسمع وينصت أكثر مما يتكلم ،
هذا التوازن بين الأذن واللسان ، والإنصات والكلام ، هو أول الأمور
التي يجب أن يتحلى بها أي مسئول أو قائد أو حاكم ، بل هو ركيزة يعتمد
عليها الحاكم والقائد في معرفة أحوال رعيته وأمورهم وحاجاتهم ، وبغياب
هذه الفضيلة يتحول الحاكم شيئا فشيئا إلي طاغية مستبد ، صنمي لا يسمع
ولا يري ، حجري لا يشعر ، انقرضت عنده حاسة السمع والإنصات ، وتضخم
عنده ملكة الكلام والتصريحات .
ــ ومع استمرار حالة الطرش الرئاسي لمطالب شعوبهم ، والتجاهل القطري
والجماهيري لحاجات ورغبات شرائح المجتمع ، يفقد الطغاة تواصلهم مع
مجتمعاتهم وشعوبهم ، يفقدون الإحساس بمعاناتهم ، وينعزلون تماما عن
الواقع المرير الذي عليه الشعوب ، ويرون أن الأمور كلها على ما يرام ،
وأنها شعوبهم يرفلون في الرفاهية والنعيم ، وأن الخدمات متوفرة ،
والمعيشة راقية ، وثم يدخل الطغاة مرحلة غيبوبة العظمة وجنون السلطة ،
تسكرهم وسائل الإعلام الدجالة بخمر الثناء والتسبيح بمآثرهم ، وتنشيهم
إطراءات الملاْ من زمرة الفاسدين والمنتفعين من بقائه في حالة
الغيبوبة ، وتخلع عليهم الألقاب الفخمة ،فهذا زعيم الأمة العربية ،
وذاك ملك ملوك أفريقيا ، وثالث عميد الحكام العرب ، ورابع زعيم الوحدة
القطرية وقائد الممانعة ، وخامس أمير المؤمنين ، وإلى آخر قائمة
الألقاب التي ما نجا منها إلا النادر ، ونتيجة هذا السكر وهذه
الغيبوبة فالطغاة لا يطيقون المعارضة أبدا ، فهي تخرجهم من حالة
النشوة والراحة العقلية تجاه أعباء السلطة ومطالب الشعب .
ــ هؤلاء الطغاة جميعا كانت ردة فعلهم أمام مطالب شعوبهم واحدة ، لا
تكاد تختلف ، بل هي من قاموس الطغيان المتوارث من لدن وارث الطغاة
الأول ؛ فرعون موسى ، فهم لا يتصورون أساسا وجود معاناة لدى شعوبهم ،
لأنهم ما استمعوا لهم يوما ، وما شعروا بهم أبدا ، فهم مثل "ماري
إنطوانيت " زوجة لويس التاسع عشر آخر ملوك فرنسا الذي أعدمته الثورة ،
عندما قالت لمن يشتكي لها أن الشعب لا يجد الخبز ليأكله : " حسنا إذا
لم يكن هناك خبزا للفقراء ، فدعهم يأكلون الكعك " ، لذلك فالطغاة
ينظرون إلي من خالفهم وطالبهم بالحقوق والحريات بأنهم حثالة المجتمع ،
وشرذمة من الأوباش والسّراق وقطّاع الطرق ، ولكل طاغية عنوانه الخاص
بمن ثار عليه من شعبه وبمن طالب منهم بحقه .
جرذان ليبيا
ـ الشعب الليبي شعب أصيل وعريق ويحتفظ سجل طويل من الكفاح المشرف
والنضال البطولي ضد المحتلين الأجانب الذين نزلوا بساحته من أيام
الاحتلال الإسباني ، ثم الاحتلال الإيطالي ، وهو شعب يغلب عليه
البساطة والفطرة النقية ، فهو صحراوي في أغلبه ، لم تلوثه مكائد أو
ألاعيب المتلونين ، هذا الشعب صبر طويلا جدا على قيادة تافهة وسخيفة
وغريبة ، أقرب ما تكون إلى الهوس منها إلي العقل والموضوعية ، وفي نفس
الوقت قيادة جعلت الشعب الليبي في مجمله محروما من المدنية الحديثة
والحضارة اللائقة ، ففي الوقت الذي يبعثر فيه القذافي مئات الملايين
من الدولارات على الدول الأفريقية الصغيرة ، ليشتري له بذلك تاج
القارة الذي لا يفرق كثيرا عن تاج الجزيرة في رواية ( عوف الأصيل )
المصرية الشهيرة ، ويقدم على مغامرات تفجيرية يدفع ثمنها بالمليارات
من أجل إرضاء غروره والانتقام لشخصه المهان ، في هذا الوقت يعاني 35%
من شعبه الحرمان من الخدمات الصحية اللازمة ، ويعاني 43% من شعبه من
التعليم اللائق ، وتفتقد غالبية المدن الداخلية لمرافق الخدمات العامة
العادية ، والبداوة ما زالت ضاربة على كثير من مدن الداخل الليبي ،
وذلك في دولة تحتل الترتيب الثالث عالميا في إنتاج البترول وتصديره ،
وفي الوقت الذي يسمح لأولاده بتكوين الكتائب الخاصة المسلحة عالية
التدريب جيدة التسليح ، وينفق ولده ( خميس ) عشرات الملايين على
استقدام عشرات الآلاف من المرتزقة الأفارقة والأوروبيين ، في هذا
الوقت يهمل الجيش إهمالا كبيرا حتى صار أضعف من أصغر كتيبة خاصة من
كتائب أولاده ، لا لشيء إلا لتخوفه من انقلاب الجيش عليه بسب أعماله
الجنونية وتصرفاته الطفولية .
ــ القذافي تعامل مع مطالب شعبه المنادية بالحريات والحقوق وإقامة
النظام المؤسسي للدولة تعاملا يكشف بجلاء عن حالة الغيبوبة التي
يعيشها العقيد الطاغية ، فهو لم يتصور وجود مثل هذه المطالب أساسا أو
المعارضة لزعامته الثورية ، لذلك جاء أول خطاب له تعقيبا على ثورة
أحرار ليبيا خطابا متشنجا متوترا للغاية ، كشف عن نفسية الطغاة عندما
يستيقظون من سباتهم الطويل ، جاء خطابه استعلائيا متغطرسا ، قائلا
للمطالبين بالحرية والعدل : من أنتم من أنتم ؟! استخفافا لهم وازدراء
لهم ، ثم أخذ في وصفهم بشتى الأوصاف الدالة على عقلية الطاغية المصعوق
من مرارة الحقيقة ، فقد وصف القذافي معظم شعبه أو على الأقل الجانب
الشرقي كله أي نصف بلاده : بأنهم حثالة وإرهابيون وعملاء للقاعدة
وأتباع الزرقاوي وبن لادن ، وأنهم جرذان وقطط ضالة تتسكع عبر الطرقات
والسكك ، وليس لديه حوار ولا تعامل مع هؤلاء الإرهابيين إلا بالقسوة
المفرطة ، والقتال حتى آخر قطرة في دمه ، وبالطبع ليس في دمه هو بل في
دم شعبه المنكوب بزعامته الديكتاتورية .
ــ واليوم وبعد أكثر من أربعين يوما على ثورة الجرذان في ليبيا كما
وصفها القذافي ، أصبح الوضع مختلفا إلى حد كبير ، والثوار باتوا
يسيطرون على كثير من المدن الليبية ، والخناق يضيق يوما بعد يوم على
قوات وكتائب القذافي ، والمرتزقة الذين جلبهم من شتى بقاع الدنيا
أخذوا في التخلي عنه وإلقاء السلاح والاستسلام سريعا لقوات الثوار ،
وبدا مشهد الغطرسة والتكبر في التواري شيئا فشيئا ، وفتحت قنوات جديدة
للتسوية التفاوض على حلول وسط ترضي الجميع ، فالديكتاتور يريد اليوم
الجلوس مع الجرذان والقطط الضالة على مائدة الحوار والمفاوضات ، بعد
أن أغلق أذنيه وأعمى عينيه عن مطالب وحاجات شعبه الأساسية ، الطاغية
اليوم أيقن أن غالبية شعبه الساحقة قد أصبحت في صف الجرذان والقطط
الضالة ، واكتشف فجأة أن معظم البلاد قد انتمت على حين غرة منه إلي
تنظيم القاعدة !، واختاروا أسامة بن لادن قائدا لهم بدلا من فلتة
العصر وأعجوبة الزمان !، فيا له من مصير لملك ملوك أفريقيا وخليفة
المسلمين !.
زعران سوريا
ـ وغير بعيد من ديكتاتور ليبيا ، وفي نفس الخندق ، وعلى نفس المنوال
والدرب سار المنتزي علي حكم سوريا هو وأسرته منذ قرابة النصف قرن ،
كانت عبارة عن نصف قرن من الطوارئ ، والحكم الاستبدادي ـ ولاحظ
التطابق مع مدة حكم مبارك في مصر ثلاثين سنة كلها طوارئ ـ فطاغية
سوريا من طراز خاص ، فهو طاغية بالوراثة ، لم يكن يوما أهلا لتبوء هذا
المنصب الخطير في بلاد هي الأعرق والأقدم حضارة وتاريخيا في المنطقة
العربية والإسلامية بأسرها ، فهو طبيب عيون وليس سياسيا أو استراتيجيا
حتى يلي أمر بلد شديد الأهمية بحجم ومكانة وتاريخ سوريا، لذلك فقد
أبقي بشّار على نفس سياسات وأجهزة ورجال أبيه إلا قليلا ، واعتمد في
ذلك على الطائفة العلوية ــ النصيرية وهي إحدى فرق التشيع الباطني
الغالية ــ التي ينتمي إليها ، فحباهم بصفوة المناصب وأدقها وأخطرها ،
واتبع سياسة أسرية أبوية في بسط هيمنته على سوريا ، فأخوه ماهر الأسد
قائد الحرس الجمهوري ، وابن خالته رامي مخلوف يسيطر على الملف
الاقتصادي بأكمله ، وشقيقه محفوظ مخلوف يمسك بالملف الأمني في العاصمة
، وزوج شقيقته "بشرى" آصف شوكت يمسك بملف الاستخبارات والجيش وهو الذي
حامت حوله الشبهات في اغتيال الحريري ، واتبع نفس الأسلوب الأمني
المحكم من أجل بسط هيمنته على البلاد الشامية العريقة ، وجعل من أجهزة
الأمن السورية مضرب الأمثال في الدموية والوحشية حتى أنها قد فاقت
نظيراتها في المنطقة بأسرها بما فيها جهاز أمن الدولة المصري صاحب
الصيت العالمي في التعذيب والوحشية والدموية ، حتى غدا المشهد السوري
الداخلي أشبه بزنزانة كبيرة متسعة تشمل أطياف الشعب السوري وعناصره
كلها ، وذلك من شدة استفحال وبطش القبضة الأمنية في البلاد .
ــ مظاهرات في سوريا !! هذا آخر ما كان يتوقعه أشد الناس تفاؤلا بما
يجري في المنطقة رغم طوفان الثورات التي يجتاحها ، فالكل أجمع على
صعوبة حدوث ذلك الأمر في سوريا من شدة وإحكام الطوق الأمني على البلاد
، لذلك كانت المظاهرات ليست صادمة للأسد الصغير وحاشيته فحسب بل
للمنطقة بأسرها ، ولعل ذلك يفسر لنا سر الرد العنيف والمباشر والدموي
للأجهزة الأمنية السورية ، حيث لم ترد بالرصاص المطاطي أو قنابل
الدخان المسيل للدموع أو الهروات الغليظة ، بل كان الرد بالرصاص الحي
وفي مقتل ، مما أسفر عن سقوط مئات القتلى و الجرحى في أول مواجهة بين
الشعب السوري العريق ، ونظامه الاستبدادي العنيد وذلك في مدينة سورية
واحدة هي مدينة درعا فقط .
ـ وامتدادا لعقلية الاستكبار والاستعلاء والتضليل ، وعلى نسق القذافي
، صرح النظام المستبد كما جاء على لسان متحدثته الإعلامية بثينة شعبان
مستشارة الرئيس السوري قائلة : إن سوريا تتعرض لمشروع فتنة طائفية
للنيل منها عبر استهداف نموذج العيش المشترك الذي تتميز به ــ مثل ما
اتهم القذافي تنظيم القاعدة أنه يستهدف بلاده الغنية بالبترول ــ ،
وأشارت إلى أن الشعب السوري واع وسوف يتجاوز ما وصفتها المحاولات
التخريبية، واتهمت بثينة فلسطينيين يقيمون في مخيم الرملة للاجئين
بالتورط في أحداث سوريا ــ مثل ما اتهم القذافي المصريين والتونسيين
بأنهم يقفون وراء الثورة في بلاده ــ فنحن إذا أمام عقلية واحدة تحكم
فكر وسياسة الطغاة أمام شعوبهم ، عقلية التجاهل والازدراء والتعالي
ورفض الإنصات لمطالب الشعوب الشرعية والطبيعية ، والهروب من جرائمهم
الكبيرة بحق شعوبهم ، بإلقاء التهم كذبا وزورا على الأبرياء والشرفاء
.
ــ وعلى نفس النسق أيضا جاءت تصريحات وسائل الإعلام السورية الموالية
للنظام الحاكم ، فقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن صحيفة الوطن
-التي وصفتها بأنها قريبة من النظام- أن قوات الجيش دخلت اللاذقية
لإعادة "الأمن والأمان" كما أضافت الصحيفة أن "من قاموا بالتخريب في
المدينة ليسوا متظاهرين لهم مطالب وإنما زعران معروفون بتاريخهم
الإجرامي"، وهكذا أصبح المطالبون بالحقوق والحريات والقضاء على الفساد
والاستبداد مجموعة من الزعران ــ جمع أزعر وهو الحيوان مقطوع الذيل أو
قليل الشعر كناية عن السخرية والتحقير والازدراء .
ــ فما الذي جري اليوم وبعد قرابة الأسبوعين على ثورة الزعران في
سوريا ، امتدت الثورة لتشمل دمشق وحمص وحماة ، وحلب والصنمين
واللاذقية ودير الزور ، والميادين ، والقامشلي ، والرقة ، وكثير من
المدن السورية ، وتصورا تم إحراق تماثيل حافظ الأسد وصوره ومقرات حزبه
في عدة مدن في سوريا ، ورغم سلسلة الإصلاحات التي وعد الأسد الصغير
بتحقيقها والتي وصلت لحد الاستعداد لرفع حالة الطوارئ ، فإن الشعب
السوري دارت عجلة ثورته ، ولن يتوقف حتى يتخلص من هذا الكابوس الجاثم
على صدره منذ عشرات السنين .
ــ ما يجري الآن في ليبيا وسوريا وما جري من قبل في مصر وتونس ، هو
نتاج طبيعي ومحصلة حتمية عن تجاهل الشعوب لعشرات السنين وقهرهم
واستذلالهم وترك الإنصات لهم والاستخفاف بهم وبمطالبهم من تنظيم طغاة
العصر الذين استحضروا إرث أبي الطواغيت ـ فرعون ـ عندما وصف شعب بني
إسرائيل ؛ بأنهم شرذمة قليلون ، ظنوا أنهم على بلادهم قادرين وفي
حكمها مخلدين ، ولكنهم عجلة الشعوب التي دارت ولن تتوقف أبدا بإذن
الله .
الاثنين 28 مارس 2011 م
كتبه / شريف عبد العزيز
[email protected]
- التصنيف: