يا ذكي سل الله الهداية والتوفيق
نحمد ربنا أن خصنا بعنايته، وابتدأنا بهدايته إلى طريق أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً من الذين أنعم عليهم، واللهَ نسألُ أن يتم ما به ابتدأنا، وأن يمسكنا بعرى الدين الذي إليه هدانا، وألا ينزع منا صالحًا أعطانا.
إذا تأملتَ اختلافَ أفهامِ الناس، وتفاوتَ مداركِهم، وتوزعَهم ما بين ذَكِي فَطِنٍ فَهِمٍ زَكِنٍ نَدُسٍ، ومن تضعف فيهم هذه الصفات إلى أن تصل إلى بَلِيد فَدْمٍ غَبِي أَبْلَه غَافِل، ثم نظرت إلى تفاوت هؤلاء وهؤلاء في الاستقامة على الشرع ولزوم الطاعة، ووجدت أن أذكياء الناس فيهم التقيُّ والفاجر الشقي، وكذلك السذج الأغبياء فيهم البر والفاجر، وكذا حالُ مَنْ بين الاثنين دَلَّك هذا على أن هداية التوفيق بيد الله وحده، يَمُنُّ بها على من يشاء، والله أعلم حيث يجعل فضله، {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88 و143]، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
وهذا يدعوك إلى ترك التعويل على عقلك وفهمك، فكم من ذكي أضلَّه اللهُ على علم؟ وانظر أمامك أمماً!
فأبعَدَ اللهُ ذكاءً لا يعرف صاحبُه هدى، ورحم الله الذهبي لما قال في ترجمة أحد أذكياء الزنادقة: لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى[1].
قال الألبيري:
وإن ألقاك فهمُك في مهاوٍ ♦♦♦ فليتك ثم ليتك ما فهمت!
وتأمل هذا المعنى في أذكياء الكفار وفرق الضلال، فما أغنت عنهم العقولُ والأحلام؟! وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض المتكلمين: "إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرةُ مستوليةٌ عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتَهم ورفقتَ عليهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدةً، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:26]" [2].
وقد كان أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج يقول: من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل[3].
وتأمل حال أحد أذكياء الدنيا من الذين أنعم الله عليهم كيف كان يصنع؟ قال ابن عبد الهادي عن شيخه الإمام ابن تيمية: "كان رحمه الله يقول: ربما طالعتُ على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني! ويذكر قصة معاذ بن جبل، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته وقال: إني لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان الذين كنت أتعلمهما منك، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، فاطلب العلم عند أربعة، فإن أعياك العلم عند هؤلاء فليس هو في الأرض، فاطلبه من معلم إبراهيم"[4].
وقال ابن القيم: "حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"، قال: "وكان شيخنا [يعني الإمام ابن تيمية] كثير الدعاء بذلك"، ثم قال: "وكان بعضُ السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
وكان مكحول يقول: لاحول ولا قوة إلا بالله.
وكان مالك يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان بعضهم يقول: رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
وكان بعضهم يقول: اللهم وفقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان.
وكان بعضهم يقرأ الفاتحة[5]، وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.
والمعول في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول؛ معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقَتْ نيتُه ورغبتُه في ذلك لم يعدَم أجراً إن فاته أجران والله المستعان"[6].
أرأيت كيف كان يصنع جهابذةُ الإسلام، فأين أنت منهم؟
لا تَعْرِضَنَّ لذكرنا مع ذكرِهم ♦♦♦ ليس الصحيحُ إذا مشى كالمُقْعَدِ!
إن الذي يستقل بعقله ويعجب بذكائه ورأيه ليس أهلا أن يوفق لهدى الله، وكثير من هؤلاء مخدوع، يظن أنه الفطن المحقق، والناقد البصير، لوقوفه على نُتَفٍ من العلوم يخالها مُحرَّرة، وما علم أن غاية أمره أن تكون قد خلصت له من بحور العلماء قطرة، فما أتعسَه إذا أزمع أن يلاطم بها بحراً!! فواعجبي من مثل هذا الذكي المخدوع!
وإذا علمت هذا فاجأر إلى الله بالدعاء طالباً الهدى منه، واعلم أن الله تعالى شرع لك ذلك، بل فرضه عليك في اليوم والليلة سبع عشرة مرة في الخمسة الأوقات.
ولنحمد ربنا أن خصنا بعنايته، وابتدأنا بهدايته إلى طريق أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً من الذين أنعم عليهم، واللهَ نسألُ أن يتم ما به ابتدأنا، وأن يمسكنا بعرى الدين الذي إليه هدانا، وألا ينزع منا صالحًا أعطانا.
♦ الكاتب: إبراهيم الأزرق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سير أعلام النبلاء، ترجمة ابن الراوندي 14 /62.
[2] ينظر العقود الدرية ص110، لابن عبد الهادي، وهي من أصل الفتوى الحموية لشيخ الإسلام.
[3] تاريخ الإسلام 8 /442.
[4] العقود الدرية ص42 - 43.
[5] يشير إلى ما فيها من سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم.
[6] إعلام الموقعين 4 /257 - 258.
- التصنيف:
- المصدر: