إليكم يا معشر الدعاة والمصلحين!!
أوجه هذه النصائح لنفسي أولا ثم لأساتذتي من الدعاة والعلماء، أذكرهم فيها بما كان عليه المسلمون الأوائل من الحرص على الالتزام بنهج واحد في دعوتهم للإسلام، وعدم التعارض والتضارب بين أسالبيهم الدعوية..
ونحن في عصر العولمة، وهيمنة أصحاب القرار في الدول الكبرى على كل شيء، وعجز الآخرين عن الانفلات من ذلك حتى في لقمة العيش، والسعي الحثيث من الغرب - وعلى رأسه أمريكا - على فرض قيمه ومبادئه التي تتعارض مع تعاليم ديننا، فإن أمتنا الإسلامية في أمسّ الحاجة إلى ترابط الدعاة وتكاتفهم، واتحاد خطابهم ومواقفهم، ونبذ ما بينهم من خلاف، والتفرغ لما هو أسمى..
ولمَ لا؟ وقد سبقنا غيرنا إلى ذلك، فقلما يمر علينا شهر إلا ونسمع عن لقاء أو مؤتمر أو نداء يصدر من مجلس الكنائس العالمي يوصي كلَّ أتباع الكنائس بنبذ الخلافات بينهم، والسعي لإيجاد خطاب واحد يسيرون على نهجه في نشر التنصير بين أرجاء المعمورة، ويومًا بعد يوم تتقارب وجهات نظرهم، ويزول ما بينهم من فوارق، مع أن كثيرًا من طوائفهم كان بينها من التباعد كما بين المشرق والمغرب..
ولا أحسد القوم على ما هم فيه، وإنما أعتبُ على من قال الله فيهم من المسلمين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون} [المؤمنون: 52] لكنهم تركوا الوحدة وتفرقوا، ولم يكتفوا بما وصلت إليه أمتُنا الإسلامية من تشرذم، وما أصاب علماءَنا من انعزالية حتى صار كل واحد إلا من رحم الله يسعى للبحث عن ثغرات الآخر، فينطلق منها لهدم ما يبنيه تحت مظنة توضيح الأمر للناس، وبحجة أن لا أحدَ معصوم من الزلل، والنتيجة فِقدان الثقة من عوام الناس في جميع العلماء والدعاة!!.
وصار حال كل واحد كما قال الشاعر:
فكيف يتم لك المرتقى ♦♦♦ إذا كنت تبني وهم يهدمونْ
والأمة تُنتقص أطرافها كل يوم، والمرجفون فيها يسابقون الزمن في سَنّ التشريعات التي يهدمون بها ثوابتَ الإسلام، فهذا قانون يسعى لإلغاء أذان الصلاة تحت مسمى توحيده..!
وثان يسعى لتعطيل وظيفة خطبة الجمعة تحت مسمى تطويرها..!
وثالث يطالب بتحريف نص القرآن، وينادي بالمساواة بين المرأة والرجل فيما فرق الله فيه بينهما..!
ورابع يمنع زواج الرجل بأكثر من امرأة، وإن كانت الظروف تضطره لذلك..!
وخامس يدعو لمحو شرائع الإسلام من المحاكم بحجة وجود أقليات غير مسلمة داخل المجتمع الإسلامي..!
وسادس يربي الطفل على عقوق والديه، ويحظر عليهما تأديبَه تحت دعوى حمايته من العنف..!
وسابع يَحرِم الفتاة من الزواج قبل سن الثامنة عشرة تحت دعوى حمايتها..!
وثامن يجعل ختانَها جريمة وإن احتاجت إلى ذلك تحت دعوى صيانة حقوقها..!
وكلا القانونين الأخيرين إصابة للفتاة المسلمة في مقتل؛ لأنه يريد بإلغاء الختان إثارة شهوتها وعدم تهذيبها،
وبتأخير سن الزواج أن يضعها بين خيارين كلاهما مر، إما الوقوع في الحرام لتطفئ غريزتها، أو الانتحار يأسًا،
وخير شاهد على ذلك ارتفاعُ إحصائية المنتحرات بين العوانس، وما خفي مما صدّرته إلينا المنظماتُ الغربية من
قوانين تحادّ الله ورسوله وأمرت بتطبيقه في عالمنا الإسلامي أعظم من ذلك وأحلك..
ومع عظم تلك البلوى فإن كثيرًا من الدعاة والعلماء في غفلة عن هذا، وشُغْل زيدٍ تتبعُ عمرو، وشغل عمرو الرد
على زيد وتفنيد حججه، وكلاهما مشغول عن الحالقة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ؛ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» [رواه الترمذي].
تزلّ قدمُ الداعي أو العالم فتطير بزلته الركبانُ، وفي الوقت نفسه لا نجد من يُلقي بالاً بِسَنّ دستور يُنتقص به من ثوابت الدين..
ولذلك فإني أوجه هذه النصائح لنفسي أولا ثم لأساتذتي من الدعاة والعلماء، أذكرهم فيها بما كان عليه المسلمون الأوائل من الحرص على الالتزام بنهج واحد في دعوتهم للإسلام، وعدم التعارض والتضارب بين أسالبيهم الدعوية..
لأن هذا من الأهمية بمكان، وليس من نفل الحديث القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما وحد المسلمين على دين واحد، ورسالة واحدة، وغاية واحدة، فصاروا مؤمنين بالله سبحانه وتعالى دون سواه، متعبدين له بالإسلام، ليس لهم رسالة غير إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وليس لهم غاية سوى إرضاء الله سبحانه وتعالى في الدنيا والفوز بجنته في الآخرة، كذلك وحّدهم في كيفية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فجعل لهم منهجًا واحدًا في دعوة الناس، وهو المنهج الذي رسمه لهم ربهم والتزم به صلى الله عليه وسلم، وهو ما يمكن أن نسميه بوحدة الخطاب الإسلامي..
هذا الخطاب الذي تحدث به كل الأنبياء السابقين على اختلاف لهجاتهم وتنوع شعوبهم، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25] أي أن مدار حديثهم ودعوتهم كان حول هذا الأمر.
واقرأ إن شئت قول الله سبحانه وتعالى: {وإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] وقوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73] وقوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] وقوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] لتجد أن الخطاب واحدٌ مع توجيهه لأمم تباعدت أزمانها وأماكنها.
نعم قد تختلف أحيانًا الأمراض التي تنجم عن الانحراف عن التوحيد، هذه الأمراض التي أشير إليها مجملة بكلمة الطاغوت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] فيكون شغل النبي حينئذ مقصورًا من بعد دعوته للتوحيد على علاج المرض الذي تفشى في المحيط الذي بعث فيه.
ونلمح ذلك في دعوة شعيب عليه السلام، إذ أعقب فيها دعوته إلى التوحيد بالقضاء على آفة أكل أموال الناس بالباطل؛ قال سبحانه وتعالى: {وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].
ونلمحه أيضًا في دعوة لوط عليه السلام التي قرن فيها تقوى الله بترك رذيلة اللواط التي تفشت في رجالهم دون سائر الأمم المعاصرة لهم، كما حكى المولى سبحانه وتعالى على لسانه عليه السلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165 - 166] وذلك بعد أن دعاهم إلى تقوى الله، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108]
وأقول: مع اهتمام كل نبي بمعالجة المرض الخلقي الذي تفشى بين قومه دون غيرهم إلا أن ذلك لم يخرجه عن وحدة الخطاب الدعوي المكلف باتباعه من الله سبحانه وتعالى.
كما أننا وهذا هو الأهم لم نسمع عن وجود أدنى خلاف بين خطاب الأنبياء الذين وجدوا في عصر واحد، مع أن كل
واحد كان في بيئة تخالف الأخرى..
وكان أحدهم إذا أحس أن تصرفه قد يخالف النبي الآخر انتظر حتى يجتمع على رأيه كما حدث مع هارون عليه
السلام عندما اختلف عليه بنو إسرائيل، إذ تمهل حتى جاءه موسى عليه السلام فقال له عليه السلام كما حكى
القرآن: {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 92 - 94]
كما كان أحدهم عليهم السلام جميعا إذا لمح الأفضلية في حكم قضى به غيره سارع بقبوله والخضوع له، ولو كان
من ابنه الذي هو أقل منه شأنًا وعمرًا ومنزلة بين الناس، كما رأينا في استجابة داود عليه السلام لحكم ابنه سليمان
عليه السلام الذي عقب به على الحكم الأول كما قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا} [الأنبياء: 78، 79]
فما على العالم أو الداعي إذا تعرض لمعضلة أن ينتظر حتى يتوحد رأيه ورأي إخوانه من العلماء على البت فيها
كما انتظر هارون عليه السلام..؟
وما على العالم أو الداعي اليوم إذا وجد في رأي غيره الصواب أن يسلم له ويتحد معه كما فعل داود عليه السلام..؟
وما على جمهور المسلمين إذا رأوا أن عالما زل في مسألة فصوبها له غيره أن يقروا للاثنين بالفضل، ولا يتحيز
أتباع الرأي المفضول ضد صاحب الرأي الفاضل، وليتعلموا من القرآن الذي لم يرد فيه: "أصاب سليمان وأخطأ
دواد" وإنما جاء فيه ثناء على الاثنين، وأن الثاني لم يتنبه للرأي الأفضل في القضية المعروضة إلا بتوفيق وإلهام
من الله، كما قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
لو تحقق ذلك فسيُوفق الجميع للخير، وسيُهدون إلى سبيل الرشاد الذي يصل بهم إلى سعادة الدارين، الدنيا والآخرة
إن شاء الله، وسنسعد وتسعد بنا أمتنا.
الكاتب: د. أحمد عبدالحميد عبدالحق
- التصنيف:
- المصدر: