وقفات مع منهج القرآن

منذ 2017-05-05

ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتدّ عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحقّ الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله. والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهومعوضهم خيرا: إحدى الحسنيين: النصر أوالشهادة.

قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}. [سورة المائدة، الآية: 59]

 

يأمر الله جلّ في علاه نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل أهل الكتاب: هل تسخطون منّا إلاّ أن وحّدنا ربّنا واتّبعنا شرعه، وتعلمون أنّنا على الحقّ، وأنّ أكثركم فاسقون معرضون عن الامتثال لأمر ربّنا،" فالاستفهام إنكاري وتعجبي.

 

فالإنكار دلّ عليه الاستثناء، والتعجب دلّ عليه أنّ مفعولات " تنقمون " كلّها محامد لا يحق نقمها، أي لا تجدون شيئا تنقمونه غير ما ذكر. وكلّ ذلك ليس حقيقا بأن ينقم ". ذكره طاهر بن عاشور.

 

قال سيد قطب رحمه الله تعالى: إنّ هذا السؤال الذي وجه الله رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب، هومن ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هوواقع بالفعل منهم، وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها، وهومن ناحية سؤال استنكاري، لاستنكار هذا الواقع منهم، واستنكار البواعث الدافعة عليه.. وهوفي الوقت ذاته توعية للمسلمين، وتنفير لهم من موالاة القوم، وتقرير لما سبق في النداءات الثلاثة من نهي عن هذه الموالاة وتحذير.

 

إنّ أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي إلاّ أنّ هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله، وما أنزله الله إليهم من قرآن، وما صدق عليه قرآنهم ممّا أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب..

 

إنّهم يعادون المسلمين لأنّهم مسلمون! لأنّهم ليسوا يهودا ولا نصارى. ولأنّ أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم، وآية فسقهم وانحرافهم أنّهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم لا ما ابتدعوه وحرفوه ولا يؤمنون بالرسول الأخير، وهومصدق لما بين يديه معظم لرسل الله أجمعين.

 

إنّهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء، التي لم تضع أوزارها قط، ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام، منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة، وتميزت لهم شخصية، وأصبح لهم وجود مستقل، ناشئ من دينهم المستقل، وتصورهم المستقل، ونظامهم المستقل، في ظل منهج الله الفريد.

 

إنّهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنّهم قبل كلّ شيء مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلاّ أن يردوا المسلمين عن دينهم، فيصبحوا غير مسلمين.. ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين!

 

والله سبحانه يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة، وهويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في السورة الأخرى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم..

 

ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم:

قل: يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون؟..

 

وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين، هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب، وكثيرون ممّن يسمون أنفسهم "مسلمين ".. باسم تعاون "المتدينين " في وجه المادية والإلحاد كما يقولون!

 

أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها، لأنّهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي أوالذي كان إسلاميا بتعبير أصح وتخدير الوعي الذي كان قد بثّه فيهم الإسلام بمنهجه الربّاني القويم. ذلك أنّه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي، فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي..

 

 ولم يكن بدّ لهؤلاء بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة، وفي حرب التبشير السافرة كذلك أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير، فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين، أنّ قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت!

وأنّها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا!

ثمّ تنور العالم و"تقدم " فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة.. وإنّما الصراع اليوم على المادة! على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب!

وإذن فما يجوز للمسلمين أوورثة المسلمين أن يفكروا في الدّين ولا في صراع الدّين!

 

وحين يطمئن أهل الكتاب وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير، وحين تتميع القضية في ضمائرهم، فإنّ المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله، وللعقيدة.. الغضبة التي لم يقفوا لها يوما.. ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير.. ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها. بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات، ويغلبون في معركة "المادة " بعد ما يغلبون في معركة "العقيدة ".. فهما قريب من قريب..

 

وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي، ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أوفي خفية، يقولون القول نفسه.. لأنّهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود.. وهؤلاء يقولون عن "الحروب الصليبية " ذاتها:

إنّها لم تكن "صليبية "!

ويقولون عن "المسلمين " الذين خاضوها تحت راية العقيدة: إنهم لم يكونوا "مسلمين " وإنّما هم كانوا "قوميين "!

 

إنّ هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب، وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك. ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم، والتقريرات الواعية عن بواعثهم، والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية، وخطة التنظيم، التي تحرم التناصر والموالاة، لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية، وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها إذ هم لا ينقمون منه إلاّ هذا الدين، ولا يرضون عنه إلاّ بترك هذا الدين.. كما يقول ربّ العالمين..

 

إنّ هؤلاء ممّن يجعلون القرآن عضين، يجزئونه ويمزقونه، فيأخذون منه ما يشاءون ممّا يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أوالمريب!

 

ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله، في هذه القضية، على أن نسمع كلام المخدوعين أوالخادعين! وكلام الله سبحانه في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين..

 

ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى بعد تقرير أن سبب النقمة هوالإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل أن بقية السبب:

وأنّ أكثركم فاسقون، فهذا الفسق هوشطر الباعث!

فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم.. وهي قاعدة نفسية واقعية، تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة.. إنّ الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم.. إنّ وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه. إنّه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هووانحرافه.. ومن ثم يكرهه وينقم عليه. يكره استقامته وينقم منه التزامه، ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه، أوللقضاء عليه إذا استعصى قياده!

 

إنّها قاعدة مطردة، تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة، إلى موقف أهل الكتاب عامّة من المسلمين عامّة. إلى موقف كلّ فاسق منحرف من كلّ عصبة ملتزمة مستقيمة.. والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار، وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين، وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين.. هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النصّ القرآني العجيب..

 

ولقد علم الله سبحانه أنّ الخير لا بدّ أن يلقى النقمة من الشرّ، وأنّ الحق لا بدّ أن يواجه العداء من الباطل، وأنّ الاستقامة لا بدّ أن تثير غيظ الفساق، وأنّ الالتزام لا بدّ أن يجرّ حقد المنحرفين.

 

وعلم الله سبحانه أن لا بد للخير والحقّ والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشرّ والباطل والفسق والانحراف. وأنّها معركة لا خيار فيها، ولا يملك الحقّ ألاّ يخوضها في وجه الباطل. لأنّ الباطل سيهاجمه، ولا يملك الخير أن يتجنبها لأنّ الشر لا بدّ سيحاول سحقه..

 

وغفلة أي غفلة أن يظن أصحاب الحقّ والخير والاستقامة والالتزام أنّهم متروكون من الباطل والشرّ والفسق والانحراف، وأنّهم يملكون تجنب المعركة، وأنّه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أومهادنة! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدّة، من أن يستسلموا للوهم والخديعة.. وهم يومئذ مأكولون مأكولون!. اهـ

 

 قال جلّ وعلا:  {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوالْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. [سورة البقرة، الآية: 120]

 

يبيّن الله جلّ وعلا لنبيّه عليه الصلاة والسلام أنّك لوأتيت أهل الكفر بكلّ ما يطلبون لم يرضوا عنك، فالّذي يرضيهم هوترك دينك فتلك هي العلة الأصيلة، ليس الّذي ينقصهم هوالبرهان، وليس الّذي ينقصهم هوالاقتناع بأنّك على الحقّ، وأنّ الذي جاءك من ربّك الحقّ، ولوقدمت إليهم ما قدمت، ولوتوددت إليهم ما توددت، لن يرضيهم من هذا كلّه شيء، إلاّ أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق، فإذا كان لا يرضيهم إلاّ اتّباع دينهم فمن باب أولى أنّهم لا يتّبعون دينك.

 

وفيه أنّ الكفر ملّة واحدة، فقد تتخاصم شيع الملّة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين، قال طاهر بن عاشور: والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله ولا النصارى للتنصيص على استقلالهم بالنفي، وعم الاقتناع باتباع حرف العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك؛ لإظهارهم شيئا من المودّة للمسلمين كما في قوله تعالى ": {ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى}. اهـ.

 

قال ابن جرير: فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإنّ الّذي تدعوهم إليه من ذلك لهوالسبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدّين القيّم، ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتّباع ملّتهم، لأنّ اليهودية ضدّ النصرانية، والنصرانية ضدّ اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلاّ أن تكون يهوديا نصرانيا، وذلك ممّا لا يكون منك أبدا، لأنّك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة.

 

وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل، وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل.. اهـ

 

ثمّ يأمر الله تعالى نبيّه أن يطلقها مدوّية: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوالْهُدَىٰ}، وما عداه ليس بهدى، فلا براح منه، ولا فكاك عنه، ولا محاولة فيه، ولا ترضية على حسابه، ولا مساومة في شيء منه قليل أوكثير، ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وحذار أن تميل بك الرغبة في هدايتهم وإيمانهم، أوصداقتهم ومودّتهم عن هذا الصّراط الدقيق.

 

ثمّ حذّر الله وهدّد من؟ نبيّه عليه الصّلاة والسلام من اتّباع أهوائهم، قال طاهر بن عاشور في قوله سبحانه: {ما لك من الله من وليّ ولا نصير}:

تحذير لكلّ من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام أهواء الأمم الأخرى، جاء على طريقة تحذير النبيء صلى الله عليه وسلم مثل: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، وهوجواب القسم ودليل جواب الشرط لأنّ اللام موطئة للقسم فالجواب لها، وجيء بإن الشرطية التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأنّ هذا فرض ضعيف في شأن النبيء والمسلمين. والولي القريب والحليف، والنصير كلّ من يعين أحدا على من يريد به ضرّا، وكلاهما فعيل بمعنى فاعل، و" من " في قوله " من الله " متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مثله بعد " ولا نصير " أي نصير من الله. و" من " في قوله " من ولي " مؤكدة للنفي.

وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كلّ نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلا في قبيلة ويكون أنصاره من جيرته. وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفى ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثمّ نفى الأعمّ منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعمّ.

 

وقد اشتملت جملة:  {ولئن اتبعت أهواءهم}  إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أوالنصارى بشيء من استرضائهم طمعا في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكّد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإن. وبلام الابتداء في خبرها. واسمية جملة الجزاء وهي { ما لك من الله من ولي ولا نصير}. وتأكيد النفي بمن في قوله " من ولي " والإجمال ثمّ التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله " من العلم ". وجعل الّذي جاء أي " أنزل إليه " هوالعلم كلّه لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه. وتأكيد " من ولي " بعطف " ولا نصير " الذي هوآيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه، فهوكالتأكيد بالمرادف.اهـ

 

 

 قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوكَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. [سورة البقرة، الآية: 217]

 

بيّن الله تعالى حقيقة يغفل عنها الكثير أنّ أهل الكفر مستمرّون في مقاتلة أهل الحقّ إلى أن يحقّقوا غايتهم وهي ردّة المسلمين عن دينهم، فهوتحذير من الله جلّ وعلا للمؤمنين من شرّ الكفرة، وقوله سبحانه: " إن استطاعوا " تعريض بأنّهم لا يستطيعون رد عموم المسلمين عن دينهم، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد توهمه الغاية في قوله: {حتى يردوكم عن دينكم} ولهذا جاء الشرط بحرف " إن " المشعر بأنّ شرطه مرجوعدم وقوعه، قال محمد الأمين الشنقيطي:لم يبيّن هنا هل استطاعوا ذلك أولا؟ ولكنّه بيّن في موضع آخر أنّهم لم يستطيعوا، وأنّهم حصل لهم اليأس من ردّ المؤمنين عن دينهم، وهوقوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم}، وبيّن في مواضع أخر أنّه مظهر دين الإسلام على كلّ دين كقوله في " براءة " و" الصف "، و" الفتح " هوالذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ".اهـ

 

والرد: الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك، فهويتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بـ " إلى وعن "، وقد حذف هنا أحد المتعلقين وهوالمتعلق بواسطة " إلى " لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه، قال تعالى : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} وقال: {ودوا لوتكفرون كما كفروا}.

 

قال سيد قطب : وهذا التقرير الصّادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر; وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم. وهوالهدف الّذي لا يتغيّر لأعداء الجماعة المسلمة في كلّ أرض وفي كلّ جيل.. إنّ وجود الإسلام في الأرض هوبذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدّين; ولأعداء الجماعة المسلمة في كلّ حين إنّ الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم.

 

 فهومن القوّة ومن المتانة بحيث يخشاه كلّ مبطل، ويرهبه كلّ باغ، ويكرهه كلّ مفسد. إنّه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنّه بهذا كلّه حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثمّ لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون، ومن ثمّ يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردّوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة. ذلك أنّهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدّين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام.

 

وتتنوّع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكنّ الهدف يظل ثابتا.. أن يردوا المسلمين الصّادقين عن دينهم إن استطاعوا. وكلّما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره، وكلّما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها.. والخبر الصّادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلاّ فهي خسارة الدنيا والآخرة; والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر: " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهوكافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "

 

والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثمّ نفقت.. والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي.. يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره، وهلاكه في النهاية وبواره.. مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثمّ هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ! ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وغرفه تحت مطارق الأذى والفتنة مهما بلغت هذا مصيره الذي قرره الله له.. حبوط العمل في الدنيا والآخرة. ثم ملازمة العذاب في النار خلودا.

 

إنّ القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتدّ عنه ارتدادا حقيقيا أبدا. إلاّ إذا فسد فسادا لا صلاح له. وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة. فالله رحيم. رخص للمسلم حين يتجاوز العذاب طاقته أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان. ولكنّه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهوكافر.. والعياذ بالله..

 

وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان.. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتدّ عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحقّ الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله. والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهومعوضهم خيرا: إحدى الحسنيين: النصر أوالشهادة. اهـ

والحمد الله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين.

 

أبو حفص سفيان الجزائري.

  • 0
  • 0
  • 7,515

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً